تنقيح مجلة الشغل: وعود مكافحة الهشاشة تصطدم بتحديات الواقع

24
تنقيح مجلة الشغل: وعود مكافحة الهشاشة تصطدم بتحديات الواقع
تنقيح مجلة الشغل: وعود مكافحة الهشاشة تصطدم بتحديات الواقع

إلهام اليمامة

أفريقيا برس – تونس. تشير تقديرات المرصد الاجتماعي التونسي إلى أن الاحتجاجات المرتبطة بالحق في الشغل والعمل اللائق شكّلت 60,78% من جملة التحركات الاحتجاجية التي شهدتها تونس خلال شهر يوليو 2025. تعكس هذه الديناميكية حجم التوتر الاجتماعي وفشل السياسات الحالية في إدارة سوق الشغل وعجز المبادرات التشريعية في الاستجابة للانتظارات، خاصة بعد المصادقة على قانون تنظيم عقود الشغل ومنع المناولة.

ويرجع الباحث المتخصص في التنمية والموارد حسين الرحيلي ارتفاع النسق الاحتجاجي بين العمال والموظفين إلى التعديلات التي شهدتها مجلة الشغل تحديدا إلغاء العمل بنظام المناولة، لافتا في تصريحات لـ”أفريقيا برس” إلى أن “التنقيح جاء تحت شعار مقاومة التشغيل الهش وإلغاء المناولة. لكن هذا الشعار لم ينبع من التزام حقيقي من الدولة بحماية حقوق العمال، بل كان أقرب إلى خطاب سياسي تسويقي”.

ويضيف الرحيلي أن “قوانين الشغل لا تُعدَّل بإسقاطات فردية أو بحوار أحادي، بل تكون نتاج حوار اجتماعي ديمقراطي حقيقي يشترك فيه كل الأطراف الفاعلة”، وهذا ما لم يتم.

نقاوة الشعارات والنتائج العكسية

في أبريل 2025، أعلنت الحكومة التونسية عن تنقيح مجلة الشغل، تحت شعار مقاومة التشغيل الهش وإلغاء المناولة. خطوة رُوّج لها باعتبارها انتصارا لحقوق العمال وتحسينا لظروفهم، لكنها سرعان ما أثارت جدلا واسعا في الأوساط النقابية والحقوقية والاجتماعية.

في متابعة لتأثيرات التعديلات المثيرة للجدل، نشر المنتدى الاجتماعي والاقتصادي ورقة بحثية حملت عنوان “تنقيح مجلة الشغل بين نقاوة الشعارات والنتائج العكسية”، واعتبرها “صرخة مدوية ونداء عاجل لتحمّل المسؤولية، حتى لا يُسكت صوت العمال والعاملات، ولتبقى النضالات الاجتماعية ضد كل أشكال التشغيل الهش حيّة في وجه كل مشروع يضعها بورصة السياسة”.

وجاء في مقدمة الورقة البحثية: “إن تنقيحات مجلة الشغل لسنة 2025، ورغم الدعاية الإعلامية التي رافقتها، جاءت بالنسبة لنا مخيبة للآمال، وغير شاملة ومبتورة، ومتسرعة، وغير شفافة، ودون مشاركة حقيقية للعمال والعاملات الذين هم قلب هذه المعركة.

لقد أثبت هذا المسار اختلالات كبيرة على غرار تجاهل شبه مطلق للقطاع الموازي وغير النظامي الذي يُشغّل مئات الآلاف من التونسيين والتونسيات، والذين تركوا لمواجهة مصيرهم بمفردهم بلا أفق ولا حماية. وغياب تام لمقاربة النوع الاجتماعي التي تُكرس المساواة الحقيقية بين الجنسين، سواء في الأجور أو ظروف العمل أو الترقيات أو الحماية الاجتماعية، بل وغياب مكافحة التمييز بأشكاله المتعددة. وغياب الإرادة السياسية لتعزيز آليات الرقابة، وشفافية عملها، وقضاء الشغل العادل، وهو ما كان من المفترض أن يكون درعًا حقيقيًا لحماية حقوق العمال”.

واعتبر المنتدى أن “أي إصلاح يُجرى على عجل، بلا تقييم دقيق، ودون مشاركة أصحاب الشأن الحقيقيين، هو إصلاح منقوص ولا يحقق الحد الأدنى من الانتظارات، ويخاطر بتحويل حقوق العمال إلى مجرد شعارات جوفاء وأدوات لخدمة أجندات سياسية ظرفية”.

ويتساءل المنتدى: “بكل قلق ومرارة: كيف لنا أن نثق في هذا التنقيح وهو يأتي بينما الدولة لا تزال تتلكأ في تسوية وضعيات الشغل الهش في القطاع العمومي، وتواصل التشغيل عبر عقود مؤقتة تهدد استقرار العمال ومستقبلهم؟”.

ودعا “كل الفاعلين الاجتماعيين، من نقابات وقوى مدنية، لتحمل مسؤولياتهم التاريخية في استكمال النضال والضغط من أجل إصلاح شامل وفاعل، يكرس العمل اللائق، ويضمن حدا أدنى للأجر يغطي تكلفة الحياة بكرامة، ويحسن ظروف العمل، ويشمل مراجعات دورية تراعي التضخم وتغير تكاليف المعيشة، ويحقق العدالة الجندرية والحماية لكل العاملين والعاملات مهما كانت أوضاعهم، ضمن حوار اجتماعي شفاف وديمقراطي يعيد الاعتبار لمن يصنعون الثروة ويحفظون الاستقرار”.

قرارات أحادية

بينما تؤكد الدولة أن التعديلات تمثل إصلاحا جوهريا في سوق الشغل، يرى كثيرون أن التنقيح جاء بإرادة أحادية، بعيدا عن مقتضيات الحوار الاجتماعي، ومتجاهلا الإشكاليات البنيوية العميقة التي يعاني منها سوق العمل في تونس. والأهم من ذلك، أن الدولة نفسها تمارس التشغيل الهش في مؤسساتها، وتغضّ الطرف عن انتهاكات في القطاع الخاص، خاصة في القطاعات الهشة مثل الفلاحة والنسيج.

ويفسر حسين الرحيلي ذلك قائلا في تصريحات لـ”أفريقيا برس”: “بالنسبة لتنقيح مجلة الشغل وجب التأكيد على أن ذلك لا يأتي انطلاقا من التزام الدولة بحماية حقوق العمال ومنظومة التشغيل الهش لأن ذلك مجرد شعار باعتبار أن العلاقات الشغلية في كل الدول مهما كانت طبيعتها (اشتراكية، ليبرالية، رأسمالية)، مبنية على الحوار الاجتماعي بين كل الأطراف الفاعلة بشكل مباشر وغير مباشر في العلاقات الشغلية وإنتاج الثروة”.

ويضيف الرحيلي في رده على سؤال حول نجاح الدولة فعلا في محاربة التشغيل الهش بقوله: “على العكس، الدولة هي التي أسست ومأسست التشغيل الهش قانونيا، وتواصل اعتماده في مؤسساتها العمومية ووزاراتها ومنشآتها عبر آليات مثل: الآلية 16، الآلية 20، الآلية 21، الآلية 41، وعقود الكرامة وغيرها. كما أن القطاع الخاص هو مجرد مستغل لفرصة أن الدولة هي التي من أوجد المناولة ومن أوجد التشغيل الهش وخاصة انطلاقا من مرسوم عدد 35 لسنة 1999”.

بناء على دراسة المنتدى الاقتصادي والاجتماعي، يتضح أن ما تم تقديمه كإصلاح جذري ليس سوى خطوة جزئية، افتقدت للرؤية الشاملة والالتزام الفعلي بمبادئ العمل اللائق. فالتشريعات، مهما كانت صياغتها، تظل عاجزة عن تغيير واقع العمال إذا لم تُدعَّم بسياسات اقتصادية واجتماعية تعالج جذور الهشاشة وتضمن توزيعا عادلا للثروة.

وعن أبرز الإشكاليات التي يرى أنها أضعفت التنقيح، يقول الرحيلي: “التنقيح كان إسقاطيا وفرديا من طرف الحكومة، وهي الطرف الأقل تشغيلا مقارنة بالقطاع الخاص. وقد تم إقصاء منظمة الأعراف ومنظمة العمال بشكل ممنهج من هذا الحوار”.

ويضيف: “تنقيح مجلة شغل ليس مجرد إعادة نظر في بعض الفصول أو إلغاء المناولة لأن البنية الاقتصادية في تونس قائمة على المناولة (حوالي 75% من الاقتصاد التونسي موجه لخدمة شركات خارجية)، وبالتالي لا يمكن إلغاء المناولة دون معالجة نموذج التنمية. المشكل ليس في تنقيح بعض الفصول أو إلغاء المناولة بل في عجز الدولة على إنفاذ القانون وإلزام الشركات، سواء كانت عمومية أو خاصة، بحماية عمالها وتطبيق القوانين الصارمة وبإلزامها بالتغطية الصحية وإعطاء أجور مجزية”.

وبالتالي فإن المعركة اليوم، وفق الرحيلي: “ليست في تغيير عقود الشغل من عقود محددة المدة إلى عقود غير محددة المدة بل المعركة الحقيقية في طريقة إنتاج الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية”.

ويضيف: “بعد صدور التنقيح كل ما توقعناه صار: المزيد من تسريح العمال، المزيد من غلق المؤسسات، والعديد من المؤسسات الأجنبية تفكر في مغادرة البلاد وبالتالي المزيد من البطالة الفنية وهذا يعني أنه لم تكن هناك أي دراسة لتأثير هذا التنقيح على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بل كان مجرد شعارات فوقية وتنقيح أحادي الجانب لم يلامس المشكلة الحقيقي للواقع الاجتماعي الشغلي بالأساس ولم يراع خصوصية مجلة الشغل باعتبارها مجلة ديناميكية مرتبطة بتطور سوق الشغل محليا إقليميا ودوليا..”.

ويخلص الرحيلي تصريحاته لـ”أفريقيا برس” مشددا على أنه “في ظل التحولات العالمية، ومع الثورة الصناعية الخامسة وتطور الذكاء الاصطناعي، ثلث المهن قد تختفي بحلول 2050. لذلك، النقاش الحقيقي لم يعد حول طبيعة العقد (محدد أو غير محدد المدة)، بل حول القدرة على توفير شغل قار، بأجور تحفظ الكرامة، في اقتصاد قادر على خلق ثروة تُعاد توزيعها بعدالة”.

تكشف تجربة تنقيح مجلة الشغل لسنة 2025 في تونس عن فجوة بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني المعاش، إذ لم يتحول هذا الإصلاح، رغم أهميته ورمزيته في مسار حماية الحقوق الشغلية، إلى نقطة توافق وطني كما كان مأمولا. فقد أسهم من جهة في فتح نقاش عام حول التشغيل الهش وضرورة مراجعة المنوال التنموي، لكنه من جهة أخرى عمّق الجدل السياسي والاجتماعي ووسّع الهوة بين مختلف مكونات المجتمع. وبين هذه المساحتين، يظل الرهان الحقيقي في استثمار هذا الجدل لبناء إصلاحات مستقبلية أكثر شمولية وفاعلية، تقوم على الحوار الاجتماعي، وتحقق التوازن بين حماية حقوق العمال وضمان استقرار المناخ الاقتصادي.

تحميل وثيقة “تنقيح مجلة الشغل بين نقاوة الشعارات والنتائج العكسية”

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here