إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. أفرجت السلطات التونسية عن الصحافي محمد بوغلاب في قرار فاجأ الكثيرين، وسبقه في نفس اليوم إطلاق سراح الوزير الأسبق رياض الموخر من سجن إيقافه والإفراج عن النائب في مجلس نواب الشعب وجدي الغاوي، ورئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين، وهي خطوة ربطها مراقبون بدعوة الأمم المتحدة الأخيرة للنظام لوقف “اضطهاد المعارضين السياسيين”، في وقت يشهد فيه الشارع التونسي احتجاجات وحالة احتقان واضحة.
رغم حالة الابتهاج بإطلاق سراح بوغلاب وغيره، إلا أن الأمر لم يخلو من انتقادات، اختزلها تصريح النائب في مجلس نواب الشعب محمد علي، لـ”أفريقا برس”، حين اعتبر أن “التزامن بين موقف الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وحالات الإفراج يثير الالتباس ويبعث رسالة سيئة للمدافعين عن محاكمات عادلة واختزال زمن التقاضي والمدافعين عن الحريات وضمانات حقوق الإنسان”.
ويفسر النائب في مجلس نواب الشعب ذلك بقوله: “نخشى أن حالات الإفراج جاءت نتيجة ضغط خارجي وتدخل أجنبي وليست تعبيرا عن مطالب داخلية للمجتمع التونسي والفاعلين فيه من وطنيين وصحفيين وناشطين في مجال الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية”.
وكانت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان دعت قبل أيام، السلطات التونسية إلى وضع حد “لأنماط الاعتقال والاحتجاز التعسفي والسجن، التي يتعرض لها العشرات من المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين والصحفيين والنشطاء والسياسيين”.
ودعا مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك السلطات التونسية إلى “وقف جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين”، وإلى احترام الحق في حرية الرأي والتعبير. وطالب أيضا بـ”الإفراج الفوري لأسباب إنسانية عمن هم في سن متقدمة وعن الذين يعانون من مشاكل صحية”.
وقال حسام الحامي، عضو ائتلاف صمود لـ”أفريقيا برس”: “على السلطة القائمة القيام بمراجعات للمقاربة الزجرية. اليوم لم يعد يخفى على أحد الواقع الحقوقي في تونس، هذا واضح للعيان وهناك إجماع داخلي وخارجي على اضطهاد الحريات بالبلاد، وطبعا لدعوة للأمم تأثير ونأمل التفاعل معها بشكل إيجابي”.
والدعوة الأممية ليست الأولى، حيث أضحى ملف حقوق الإنسان في تونس على قائمة أولويات الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان الذي يعقد دورته العادية الثامنة والخمسين من 24 فيفري إلى 4 أفريل المقبل في جنيف. ويتوقع أن يكون ملف حرية التعبير في تونس من النقاط التي سيتم مناقشتها مع ممثلي الدولة التونسية ومنظمات المجتمع المدني المشاركة.
وكانت سنة 2024، سنة الاعتقالات بامتياز وفق المراقبين الذي شدّدوا على أهمية مراجعة العمل بالمرسوم 54 الذي خرج عن سياق الخاص بجرائم المعلوماتية وتحوّل إلى سيف مسلط على كل من ينتقد النظام. وتحوّلت أغلب المحاكمات إلى تصفيات سياسية.
وقال محمد علي، النائب في مجلس نواب الشعب، لـ”أفريقيا برس”: “أتصور أن الخطوة تأتي في اتجاه تخفيف الاحتقان. ونتمنى أن يتواصل القرار مع بقية مساجين الرأي والصحفيين الذين تم إيقافهم أو سجنهم وفق المرسوم 54”. في ذات السياق، يذهب زياد دبار، نقيب الصحافيين التونسيين، الذي قال لـ”أفريقيا برس”، “الحرية كقيمة ضاعت في تونس… بأن بالكاشف أن السياسة الجزائية للدولة التونسية هي سياسة زجرية وهو ما يؤكد أنه لم يتغير شيء، نفس منظومة الحكم تحكم في تونس منذ عهد بن علي إلى اليوم بوجوه مختلفة، كل سلطة جديدة تتولى الحكم ترفع شعارات الحرية والديمقراطية لكن في الممارسة هناك اختلاف كلي على الشعارات المرفوعة”.
وضع حقوقي سيء
وفقا لمفوضية حقوق الإنسان، من المقرر أن تنظر المحكمة الابتدائية في تونس العاصمة في ملفات أكثر من 40 شخصا، بداية من شهر مارس، من بينهم معارضون من مختلف الانتماءات السياسية. وهم ينتمون إلى مجموعة وجِّهت إليها تهم “التآمر على الدولة” وأخرى مرتبطة بالإرهاب. ولا يزال سبعة منهم على الأقل رهن الاحتجاز قبل المحاكمة منذ فبراير 2023، والبعض منهم موجود خارج البلاد، وسيُحاكمون غيابيا.
وخلال حديثه للصحفيين في جنيف، استحضر ثمين الخيطان، المتحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، قضية مدير المشاريع في المجلس التونسي للاجئين، عبد الرزاق الكريمي، الذي قال إنه يدخل أسبوعه الثالث من الإضراب عن الطعام في الاحتجاز. وقد تم اعتقاله في مايو من العام الماضي مع رئيس هذه المنظمة غير الحكومية مصطفى الجمالي. وكلاهما متهمان بإيواء مهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى بشكل غير قانوني، وفقا للمتحدث باسم المفوضية.
كما تخوض المحامية عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر، إضرابا عن الطعام. وهي معتقلة منذ أكتوبر 2023 وتواجه خمس قضايا، تتعلق اثنتان منها بحرية التعبير. كما أعلن أعضاء الحزب عن دخولهم في “إضراب جوع جماعي واعتصام مفتوح” بمقره في العاصمة، دعما لرئيسته عبير موسى. وأوضح الحزب أن هذه الخطوة تهدف إلى مساندة موسى، وتوعية التونسيين بخطورة ما ادعى أنه “تمركز الحكم الفردي المطلق الذي لا يعترف بالمؤسسات ولا بعلوية القانون”، وفق تعبيره.
وكان نافع العريبي، عضو هيئة الدفاع عن موسى، قال إن موكلته بدأت إضرابا مفتوحا عن الطعام احتجاجا على ما اعتبرته “سوء المعاملة داخل السجن”، مؤكدة أنها لم تعد “في مأمن على صحتها أو حياتها”. بينما أوضح الناطق باسم الهيئة العامة للسجون رمزي الكوكي، الجمعة الماضية، أن “الوضعيات الصحية لبعض المودعين والمودعات بالسجون عادية ولا صحة لما يشاع على الإطلاق ولما يتم الترويج له بالنسبة لتعكر الحالات الصحية للبعض”.
وفي قضية أخرى، أشار الخيطان إلى سجن المحامية سونية الدهماني، على خلفية تصريحات أدلت بها في إحدى الإذاعات الوطنية حول العنصرية ووضع المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى في تونس. وبعد أن حُكم عليها في البداية بالسجن مدة عام، خَفَّفت محكمة الاستئناف الشهر الماضي الحكم إلى ستة أشهر.
كما أصدرت المحكمة الابتدائية بتونس في شهر فبراير أحكاما بالسجن لفترات مختلفة تتراوح بين خمس سنوات و54 عاما، على 41 شخصا في ما يعرف بقضية إنستالنغو. وتشمل التهم “التآمر” على أمن الدولة وارتكاب جرائم ضد رئيس البلاد، “في محاكمة شابتها انتهاكات مزعومة للمحاكمة العادلة والإجراءات القانونية الواجبة”. ومن بين المدانين سياسيون ومدونون وصحفيون منهم الصحفية شذى الحاج مبارك التي تشهد صحتها تدهورا وتكررت الدعوات إلى إطلاق سراحها.
وقال حسام الحامي، عضو ائتلاف صمود، لـ”أفريقيا برس”: “اليوم عشرات مساجين الرأي والمساجين السياسيين يقبعون في السجون، وقد طالبنا عديد المرات بإطلاق سراحهم. كيف سيكون موقف السلطة إذا أثبت القضاء براءتهم. كيف سيقع تعويض هؤلاء، الوضع الحقوقي بالفعل سيء جدا في تونس”.
وفي تدوينة لها، كتبت أميرة محمد، عضو النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين: “خروج الصحفي محمد بوغلاب من السجن وقبله سهام بن سدرين ليس إنجازا للسلطة الحالية… هو دخل للحبس ظلما ومكانه الطبيعي هو وبقية الزملاء في المنابر الإعلامية وليس في الحبس.. ولن نعتبر هذا الفتات انفراج مادام مراد الزغيدي وشذى الحاج مبارك وبرهان بسيس وسنية الدهماني في الحبس.. لن نعتبره بداية انفراج مادام مازال هناك مساجين رأي وسياسة في السجون.. ممكن نقول هناك بداية انفراج وقت تكون الحرية لجميع المظلومين وإنهاء فزاعة التآمر والمرسوم 54 وكل التهم التي تمس من الحريات العامة والفردية.. وهذا وقت يصير (لما يتحقق ذلك) يمكن اعتباره خطوة نحو بداية انفراج وليس انفراج لأن الأزمة التي تمر بها البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا أعمق بكثير من وجود مظلومين في السجون”.
وفي ذات السياق ذهبت تدوينة السياسي والحقوقي التونسي عبدالوهاب الهاني، والتي قال فيها: “الإفراج الثاني والثالث والرَّابع في غضون 24 ساعة (بوغلَّاب، الموخِّر، الغاوي، بن سدرين).. تم الإفراج عن الصُّحفي الصَّديق محمَّد بوغلَّاب، بعد إطلاق الوزير الأسبق رياض الموخر من سجن إيقافه، نقلا عن محاميه الأستاذ واصف المصمودي.. كما تم الإفراج عن البرلماني النائب وجدي الغاوي.. بعد ساعات قليلة من الإفراج مساء أمس عن سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة للعدالة الانتقالية.. وذلك على إثر ضغوطات أممية وبيانات ونداءات وتصريحات إعلامية وجهها بشكل متواتر خبراء الأمم المتحدة والمفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان السيد فولكر تورك بتنسيق تام مع الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنتونيو غوتارش، وبعد دعوة السفير صبري باش طبجي لدى المنتظم الأممي بجينيف ومسائلته عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بطريقة شديدة اللهجة، ونقله مشكورا للمخاوف والضغوطات الأممية لمراكز القرار بالعاصمة بكل مهنية وموضوعية لتقرر ما تراه صالحا وهو دور كل دبلوماسي مهني وصادق مع سلطات بلاده”.
وأضاف الهاني: “تأتي هذه الإفراجات قبل أيام قليلة من انطلاق الدورة السنوية الرئيسية لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان… ومن المنتظر أن تشهد أنشطة موازية للمجتمع المدني لتسليط الضوء عن واقع حقوق الإنسان في عدد من الدول التي تسترعي انتباه المجموعة الدولية ومن بينها أوضاع حقوق الإنسان في تونس”.
وفي تعليقه على هذه التطورات، يقول المحلل السياسي منذر ثابت لـ”أفريقيا برس”: “حقيقة وارد جدا أن تتفاعل السلطة مع هذه الدعوات في علاقة بمدونين وبملفات إعلامية. ويمكن أن نتوقع تفاعلا وإن بطريقة غير مباشرة. وعلينا أن نفهم أن السلطة في سياق خطاب سيادوي بمعنى أن كل هذه الملفات تعتبرها ملفات قضائية جزائية لا علاقة لها بما هو سياسي لكن في سياق هذا الخطاب وفي إطار هذا التمشي قد يكون هناك تفاعلات في علاقة بمراجعة عديد القوانين والتشريعات، لكن في تقديري التفاعل سيكون محدودا”.
ضغوطات على النظام
رغم أن الكثير من التونسيين، يعترضون على عدد من الأحكام والقضايا الخاصة بحرية التعبير وبدئوا بدورهم يستشعرون ضغطا، إلا أنهم يعتبرون أن “قضية أنستاليتغو” هي قضية تآمر على الدولة، ويؤيّدون سجن عدد من شخصيات المعارضة السياسة، خاصة من حركة النهضة التي يحمّلونها تدهور الوضع في البلاد و”التسبب في إدخال الإرهاب”، ويعتبرون أنها أفلست خزينة البلاد في التعويضات التي قدّمتها لأنصارها من المساجين السابقين وهي تعويضات ضخمة.
ويرى القيادي في حزب البعث صهيب المزريقي، أن الأمر لا يخلو من مساع لإثارة الاضطرابات في البلاد. ويفسر ذلك بقوله لـ”أفريقيا برس”: أعتقد أن دعوة الأمم المتحدة لما تسميه بوقف اضطهاد المعارضين الأولى بها هي فلسطين وشعبها الذي يباد أمام مرأى العالم والأولى بها أيضا سوريا ولبنان الذي تنتهك إسرائيل أراضيها وليست تونس التي تحاكم من اقترف جرائم لا أقول سياسية وإنما في حق الدولة التونسية وشعبها وتعاني اليوم تونس مخلفاتها الاقتصادية من قروض وتداين وارتهان لدى قوى أجنبية تحكمت في السياسة الاقتصادية لتونس طيلة عشرية سوداء كاملة”.
ويضيف المزريقي: “من يحاكمون اليوم أدخلوا الإرهاب واستجلبوا له دعاة وشيوخ ممنوعين من الدخول لتونس متحدين بذلك قانون الدولة من أجل إعادة برمجة عقول الشباب وتسفيره لبؤر للتوتر بل وزرعوا منطق الاغتيالات السياسية والشهيدان شكري بلعيد ومحمد البراهمي أكبر دليل على ذلك. فهل محاكمة الإرهابيين صارت اضطهادا سياسيا”.
من الخطأ السياسي والتقديري، وفق القيادي في حزب البعث، “التكلم عن تراجع شعبية رئيس الجمهورية قيس سعيد والحال أن شعبية الرئيس تجلت مؤخرا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة والأرقام خير شاهد على ذلك والشعب وفق ما يصرح به دوما سواء في وسائل إعلامية أو في الشارع هو يثق في رئيس الجمهورية و يلفظ أحزاب العشرية السوداء”.
في المقابل، وفيما يخص مسألة القاعدة الشعبية وانجراف القاعدة الشعبية للنظام أو توسعها، يؤكّد المحلل السياسي منذر ثابت: أن “هناك شح في المعطيات التي تمكننا من حكم موضوعي في هذه الفترة، خاصة مع غياب لافت لعمليات سبر الآراء، فقط هناك ملاحظة ندركها ولو بصفة نسبية في علاقة بالشارع والمزاج العام وهي أن هناك حسم ورفض للإسلام السياسي وفي كل الحالات يحتاج ذلك إلى ضبط إحصائي دقيق”.
راهن النظام منذ 25 جويلية 2021، على ذلك في كسب التأييد الشعبي وتحقيق سيطرة مطلقة على الحكم، لكن هذه القاعدة الشعبية بدأت تضعف، وفق المراقبين، باعتبار أن الشارع التونسي ينتظر المرور إلى المرحلة أكثر تطورا من الفعل وتحقيق الوعود بالتنمية والتشغيل والخروج بالبلاد من عنق الأزمة الاقتصادية والتي ألقت بثقلها على الوضع الاجتماعي عموما.
لكن، ولئن تتعدّد المبررات وتتنوع القراءات التي تحيط بالقرارات والتطورات السياسية الأخيرة في تونس، الأكيد أن النظام بدأ يستشعر حالة التململ لدى الشارع التونسي يشكل عام. ومع اقتراب شهر رمضان يزداد الوضع صعوبة في ظل فقدان الكثير من المواد الغذائية الرئيسية، واستمرار شح التزود بالقهوة والزيت والسكر وغيرها من المواد الرئيسية، هذا بالإضافة إلى استشراء ظاهرة العنف في مختلف الأوسط، وتراجع المقدرة الشرائية للتونسيين بشكل ملحوظ. واليوم يحتاج النظام إلى متنفس لتخفيف الضغط وامتصاص الغضب الشعبي قبل أن يرتفع منسوبه، خاصة وسط فوضى الأخبار التي تنتشر كالنار في هشيم فايسبوك دون أن يتبين التونسيون صحّتها والغاية من نشرها.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس