آمنة جبران
أفريقيا برس – تونس. بمناسبة الذكرى الـ39 لتأسيسه في الثالث من يناير سنة 1986، والتي تتزامن مع ذكرى رمزية للتونسيين وهي “انتفاضة الخبز”، انتقد حزب العمال مؤخرا الأوضاع المتدهورة في تونس، بإصرار ما وصفه بـ”النظام الاستبدادي”على القمع والتضييق وانتهاج الحكم الفردي.
وفي حواره مع “أفريقيا برس”، أشار علي الجلولي، القيادي في حزب العمال، إلى أن “الشعبوية في بلدنا تريد قتل السياسة من خلال تنفير الناس منها اعتمادا على التخويف، لكنها لن تنجح في وئدها طالما ثمة من يصرّ على التمسك بحقه”، وأن “الحزب مازال يراهن على الشارع لإحداث تغيير حقيقي واستعادة الديمقراطية”.
واعتبر أن “الحرمان من الاحتجاج هو أخطر ما في الوضع، وهو ما فرض اليوم أن تكون معركة الحريات في الصدارة”، مبينا أنه “ليس هناك خيار أمام القوى التقدمية إلا بالإصرار والتحدي، وإعادة بناء الذات في قلب المعارك من خلال الارتباط الفعلي بمطالب الناس الحيوية ودفاع عنها”.
وعلي الجلولي هو عضو في حزب العمال، وناشط حقوقي ونقابي وكاتب صحفي وقد صدر له كتابان: “مقاربات حول قضايا الانتخابات والثورة والجبهة والإرهاب” في سنة 2019، و”قراءة في تاريخ الحركة الطلابية والاتحاد العام لطلبة تونس” في سنة 2024.
انتقد حزب العمال في ذكرى تأسيسه مؤخرا الأوضاع في البلد، واعتبر أن “الاستبداد الشعبوي يفاقم الأزمات”، كيف يمكن حسب تقديرك حلحلة الأوضاع وخاصة الدفاع عن المطالب الاجتماعية وحماية الحريات في ظل هذا المناخ؟
بطبيعة الحال الاستبداد الشعبوي فاقم أزمات تونس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وكل المؤشرات بما في ذلك الذي تنشره مصالح الدولة من المعطيات الإحصائية تؤكد ذلك. لقد كانت الأوضاع قبل انقلاب 25 جويلية على العموم تمكن الجماهير الشعبية من الخروج للاحتجاج في الشارع وأمام البرلمان والمصالح الحكومية رغم التدخلات القمعية من حين لآخر، لكن منذ الانقلاب حرم الناس من حق الاحتجاج وهذا أخطر ما في الوضع، وهو ما فرض اليوم أن تكون معركة الحريات في الصدارة، فأصحاب الرأي والنشطاء والإعلاميين والشباب المحتج يتم إيقافه وإصدار أحكام سالبة للحرية بمقتضى المرسوم 54 الفاشي.
لقد خطا النظام خطوات كبيرة في مصادرة الفضاء العام والحريات السياسية، وعادت وسائل الإعلام العمومية والخاصة إلى مربع الخوف والرعب بإلغاء برامج الجدال السياسي والتفرغ كليا للإشهار فضلا عن الانخراط في التطبيل والتمجيد. كما تشارف الحياة الحزبية على التفكك والاندثار بفعل الترذيل والشيطنة، وهو ذات الأمر بالنسبة للعمل النقابي والجمعوي. إن الشعبوية خطر على مكاسب الشعب الذي تضطهده وتحرمه من الاحتجاج. وفي تقديرنا لا حلحلة للأوضاع الاجتماعية والسياسية دون نضال واعي ومنظم من طرف جماهير الشعب، دفاعا عن مصالحها ومطالبها الحيوية التي تتعرض اليوم للتصفية الممنهجة.
اعتبر حزب العمال كذلك أن تدهور الأوضاع يعزز إمكانيات التدهور السلبي في العلاقة بالتحولات المتسارعة في المنطقة، كيف يمكن التصدي لتبعات التحولات بالمنطقة؟
التحولات المتسارعة في منطقتنا لها تداعيات على كل العالم، وهي تندرج في إطار صراع القوى الكبرى من أجل السيطرة وإعادة تقسيم مناطق النفوذ فيما بينها. ما يجري في سوريا ومنطقة “الشرق الأوسط” هو على حدودنا وبلادنا ومجمل إقليم شمال إفريقيا هو جزء من الخريطة القديمة والجديدة التي تريد الامبريالية إعادة هندستها، والخرائط الجديدة هي منشورة على وجه الملأ ويعلم بها الحكام والمحكومون، والجميع يعلم أن الجزائر مستهدفة بالتقسيم والاختراق والإنهاك، ويستعمل الامبرياليون والصهاينة النظام المغربي والوضع الليبي المنقسم وخاصة هيمنة الجماعات المسلحة الاخوانية الموالية لتركيا على غرب ليبيا، بما يعني أن بلادنا اليوم في وضعية كماشة وهي منطقة عبور أفقي وعمودي بحكم موقعها الجغراسياسي وأيضا لعلاقة قيس سعيد بالنظام الجزائري.
إن هذا الوضع الدقيق لا يمكن التصدي له إلا ببلاد حرة وشعب حر، والنموذج السوري أكد للمرة الألف أن الاستبداد وقبضته الأمنية لا يحصن الأوطان، وأوضاع بلادنا اليوم هشة على كل الأصعدة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ولو فرضت علينا أوضاع مستجدة فإن شروط مواجهتها غير متوفرة، والنظام ليس ثمة ما يؤشر في سياساته انشغاله بما يجري حوله. إن الحكام لا تعنيهم سوى كراسي حكمهم وهم جاهزون للفرار في أي لحظة، تاركين الشعوب لدفع فاتورة الفساد والاستبداد.
هل ترى أن تعزيز الجبهة الداخلية والقيام بحوار وطني شامل بات ضرورة ملحة في مواجهة التحديات الخارجية؟
الحوار لغة غير معتمدة في تونس، والحوار الذي يهدف إلى إخضاع المجتمع وتعبيراته لا معنى له ولا أفق له. تونس اليوم في حاجة إلى الحرية برفع اليد عن الفضاء العام وإلغاء ترسانة القوانين القمعية، وعلى رأسها المرسوم 54 وإطلاق سراح سجناء الرأي وضمان حق الشعب في حقوقه كاملة دون نقصان، وهذا لا معنى له دون مراجعة جذرية للخيارات الاقتصادية والاجتماعية السائدة. إن الجبهة الداخلية التي يجب صونها وتصليب وحدتها هي وحدة الشعب بطبقاته وفئاته المضطهدة والمفقرة، والتي وحدها معنية بمواجهة التحديات، أما طبقات الريع والاستغلال والارتباط بمصالح الرأسمال الاحتكاري الخارجي، فالوطن لا يعنيها بتاتا.
مع احتفال الحزب مؤخرا بذكرى تأسيسه المتزامنة مع ذكرى رمزية هي انتفاضة الخبز في 3 يناير، هل مازال الحزب يراهن على الشارع والاحتجاج لأجل إحداث تغيير حقيقي في المشهد الحالي؟
الرهان الوحيد هو رهان الشارع والجماهير، وهذا قانون في التاريخ، فالتغيير الذي يصنع ويرتب خلف الأبواب المغلقة هو تغيير زائف ولخدمة مصالح ضيقة ومحدودة، أما التغيير الذي يكون لصالح الأغلبية الاجتماعية، فلا يكون إلا بالنضال الشعبي والجماهيري الواعي والمنظم والذي يطرح مطالب الناس الحيوية ويناضل من أجل تحقيقها بكل جرأة وإصرار. إن الأحداث الجارية في العالم بالأمس واليوم وفي الغد تؤكد ذلك. إن فرض الحريات في تونس لن يكون بمنة من الحاكم ولا بصفقة معه، بل بالنضال الواسع وفي خضمه.
في ظل حالة الركود التي تعيشها المعارضة خاصة في مرحلة ما بعد الانتخابات، كيف يمكنها استعادة وزنها من جديد في الساحة السياسية للتجهيز والاستعداد للاستحقاقات القادمة؟
المعارضة معارضات، ونحن جزء من المعارضة الديمقراطية التقدمية التي لم تكفّ عن التعبير عن مواقف واضحة مما يجري في تونس ونظمت بعض الأنشطة المهمة دفاعا عن الحريات وعن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب وعن القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. صحيح اليوم ثمة تراجع كبير للنشاط السياسي والجمعوي والنقابي بفعل الاستبداد والقبضة الأمنية/القضائية، ولكن لا خيار أمام القوى التقدمية إلا بالإصرار والتحدي، وإعادة بناء الذات في قلب المعارك من خلال الارتباط الفعلي بمطالب الناس الحيوية التي تهم غلاء الأسعار والبطالة وتدهور المقدرة الشرائية وتدني الخدمات الأساسية (التعليم والصحة والنقل…) وتدهور أوضاع الفلاحين بفعل السياسات الشعبوية المعادية لمصالح الفقراء.
حذرت مؤخرا من أن “ضرب الأحزاب وغياب التعبير المنظم بسبب الاستبداد له كلفة”، هل تعتقد أن السلطة نجحت في إضعاف الأجسام الوسيطة؟
هذا صحيح، لأن ضرب آليات التنظم الذاتي للمجتمع تضعف وحتى تدمر قدراته على المقاومة. إن أشكال التنظم من أحزاب ونقابات وجمعيات ونوادي…هي بمثابة جهاز المناعة للمجتمع سواء إزاء الدولة أو إزاء الغزو الخارجي.
لقد أبدع المجتمع البشري أشكال انتظامه المدني التي تعكس درجة تحضره وتقدمه وقدرته على تنظيم نفسه لترتيب علاقات صلبة مع الدولة. فأن يتم استهداف هذه الآليات التنظيمية، فهذا لا يعني سوى ضرب قوة المجتمع وتفتيته بما يعزز أشكال الانتظام البديلة التي تحتكم إلى آليات ووسائل ومرجعيات غير مدنية مثل إحياء العلاقات الدموية والقبلية والطائفية والمذهبية بديلا عن العلاقات المواطنية، وهو ما يسود في عديد الأقطار العربية مثل ليبيا وسوريا التي دمرت فيها أنظمة الاستبداد كل الوسائط، وحين تمّ الغزو كان المجتمع المحلي محروما من آليات المناعة، بما سهل الغزو والتفكيك والالتجاء لأكثر الخيارات بشاعة ووحشية تتجلّى اليوم في سيطرة العصابات التكفيرية الإرهابية التي عادت وستعود بهذه البلدان المتقهقرة.
لقد كانت نقطة قوة مجتمعنا منذ أكثر من قرن هي نسيج الانتظام المدني ممثلا في الأحزاب والنقابات والمنظمات التي مثلت كل الفئات، وهو ما مثل ضمانة لبلادنا لتتجاوز عديد المطبات بأقل أضرار مقارنة بمحيطنا المغاربي والعربي. إن تصحير الحياة السياسية والعامة ستكون له كلفة باهظة لو لم يصمد المجتمع وفعالياته المناضلة.
هناك من حذر من “موت السياسة” في تونس، هل توافق هذا الرأي أم أن الأمل مازال قائما لاستعادة النفس الديمقراطي؟
الشعبوية في بلادنا تريد قتل السياسة، وقد خطت خطوات كبيرة في تنفير الناس منها اعتمادا على التخويف، لكنها لن تنجح في وئدها طالما ثمة من يصرّ على التمسك بحقه غير القابل للتصرف في الانتماء والنشاط السياسي المستقل عن السلطة.
إن نهوض الحركة السياسية التقدمية لا ريب فيه، فبن علي وقبله بورقيبة استهدفا السياسة والنشاط السياسي المستقل عن السلطة، وزجا بالآلاف في السجون والمعتقلات، وتم طرد آلاف من الدراسة والعمل وحرموا من كل الحقوق، لكن إصرار المواطنين على حقوقهم هو الذي انتصر في النهاية. إن العمل على تحويل شعبنا إلى رعايا لن ينجح، والخوف سيتبدد لأن منطق التاريخ يؤكد أن أوضاع الخوف والاستكانة هي أوضاع عارضة، وسيستأنف التاريخ حركته التصاعدية رغم الانتكاسات والتراجعات.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس