قيس سعيد ضد الدولة أم ضد السيستام؟

63

بقلم: شكري بن عيسى

وأنا أتصفّح القنوات الفضائية في انتظار نشرة اخبار الثامنة، اعترضني في قناة التاسعة حمادي بن جاب الله، أستاذ الفلسفة الذي لا اسهام فكريا او عمليا تقريبا يذكر طيلة مسيرته الجامعية، سوى الانتماء للجهاز الايديولوجي للنظام الدكتاتوري، وهو يتهجم على الاستاذ قيس سعيد، الذي اعتبره يأتي ضمن مسار “تفكيك الدولة”، الذي عدّه انطلق منذ سنوات في ربط بالثورة، ما يطرح السؤال المباشر ان كان سعيد بالفعل ضد الدولة، وبالتتابع الفرق بين الدولة والسيستام الذي يستهدفه أستاذ القانون الدستوري؟

والحقيقة أن هذا الاتهام لا يقتصر على بن جاب الله، بل أنّ الكثيرين يروجون لهذا الامر، بطريقة فيها الكثير من التلبيس والضبابية، معتمدين على التكرار والقصف المركّز، بطريقة ماكرة لا قصد منها على الاكثر سوى التشويه، والتشكيك في المترشّح سعيد، وفي عديد الاحيان يقع اثارة تقاطع مع حزب التحرير، الذي ما انفك البعض يردد كليشي دعمه لسعيد.

وهو أمر لا يمكن لعاقل استيعابه وتصديقه، لأن قيس سعيد الذي حصل على أكثر من 620 ألف صوت، لا يمكن مقارنتها حسابيا بعدد المنتمين لحزب التحرير الذين لا يتجاوزون 5000 منخرط، وسعيد لا شيء تقريبا يجمعه بهذا الحزب وهو القانوني والحقوقي المُدَرّس طيلة مسيرته للقانون الدستوري، اذ حزب التحرير كما هو معلوم لا يؤمن أصلا بالديمقراطية، بل يكفر بها في جوهرها، وهو المتبني لنظام الخلافة، ويرفض التوجه للصندوق والاقتراع، وبالتالي فقيس سعيد لا يمكن أن يحصل على دعمهم في الصناديق، كما لم يحتج لدعمهم المالي وهو الذي اعتمد التطوّع الشبابي، ورفض قطعا المنحة العمومية التي تفوق 176 الف دينار، وبالتالي فكل الاتهامات ناهيك عن كونها غير مؤسسة في المصدر، فهي متهافتة بل مثيرة للسخرية رأسا.

والربط المضلل الحقيقة يثار لنزع أحقية سعيد بما أنجزه، ووصمه بطريقة كلها ثلب، وابراز عدم استقلاليته، وما الربط بهذا الحزب الا لاظهار الاشتراك في رفض الدولة، لترسيخ الافتراء وايجاد أركان تدعمه، وما يدلّ أنّ الامر محض افتراء، هو انضواء المترشح قيس سعيد تحت القانون والترشح في انتخابات تنظمها الدولة، وتبني مسار الوصول للسلطة عبر صناديق الاقتراع والديمقراطية، وهو لعمري أبرز دليل على تبني منطق الدولة، بل أنّ سعيد في أول تصريح له بعد ظهور أول تقديرات للنتائج التي اهلته للمرتبة الاولى، رفض تبني الارقام واعتبر أن مؤسسة الدولة عبر “الايزي” هي الوحيدة المؤهلة لاعلان النتائج، ولم يقدم تصريحات في الصدد الا بعد صدور النتائج الرسمية الثلاثاء.

والامر الحقيقة واضح ولا نقاش فيه، ولكن غرف العمليات والتشويه تحضر سيناريوات جاهزة، وتنطلق في كل مرة عبر أذرعتها الاعلامية الفايسبوكية في الترويج لها بطريقة “الفايك نيوز”، أو الكذب والتزييف الاعلامي، في ظل صمت مطبق من “الهيكا”، مع اطباق كامل لشبكات مالية-سياسية على القنوات الكبرى، التي لا يتردد ولا يستح محللوها على ترويج حتى الحماقات بكل ثقة الى حد تضليل المشاهد، ولا غرابة في وجود هذه الهجمة المنظمة المنسقة لهذه الاطراف التي تنتمي للمنظومة (او السيستام) التي يناهضها سعيد.

وهنا يكمن الفرق بين الدولة والسيستام، فالدولة باقليمها وسلطتها ومؤسساتها وتشريعاتها وشعبها شيء والسيستام الذي يتحكم ويهيمن شيء آخر مختلف، وهو الفرق بين الشرعية والتطابق مع المصلحة العامة، والاجهزة والمؤسسات الظاهرة والخفية بما في شبكات التحكم المالي والحزبي والجهوي وحتى الخارجي، التي خارج الشرعية تطبق على الدولة وتحوّلها الى خدمة مصالحها على حساب الشعب، وهو ما يسعى سعيد للتصدي له، بتحرير الدولة من القراصنة وارجاعها الى الشعب، الذي انتفض في 2010 و2011، من اجل استرجاع سيادته وتحقيق ارادته، بعدما تمت مصادرتها لعشرات السنين.

الثورة التي نشدت الديمقراطية والعدالة وتحقيق الحرية والعدالة، التي هي جوهر الدولة وأساس وجودها، بل غاية انشاءها واستمرارها، الدولة التي اغتصبها حزب الدستور لاحقاب، بل اغتصبتها العائلة وحولتها الى عزبة خاصة، وانتفض الشعب ضد هذه الكيانات التي سطت على حقوقه، وأضاف شعارا ومطلبا مركزيا اختصت به الثورة التونسية وهو شعار الكرامة، هذا الذي يجعل المواطن والشعب مركز بل قلب الدولة، وكل نشاط الدولة يجب أن يكون في خدمته ولمصلحته.

وهو الامر الذي لم نسمع لبن جاب الله طيلة مسيرته ركزا، والدولة تحت هيمنة العصابات في عهد بن علي، للدفاع عنها وللدفاع عن سلطة الشعب المغتصبة، وحتى القوانين صارت في خدمة العصابات، وهو ما تؤكده “نظريةالالتقاط” théorie de capture، حيث تتحول التشريعات الى خدمة اللوبيات والشبكات النافذة في “رأسمالية المحاسيب” capitalisme de connivence، حيث الالتحام بين المالي والسياسي والاداري والاعلامي، ويتفشى الفساد وتتحول الدولة الى دولة زابونية Etat clienteliste.

الثورة التي انطلقت في 2010 نشدت اسقاط هذا النظام الاستبدادي الفاسد لتخليص الدولة منه، لتتحول المؤسسات الى شرعية حقيقية غير فاسدة، وتصبح الادارة في خدمة المصلحة العامة في اطار الشفافية، ولا تستمر الدولة الريعية Etat de rente التي تسلب ثروات الوطن لتحولها لحسابات النافذين، ويتحقق التوزيع العادل للثروة والمشاركة الجماعية في الحكم ومساهمة الجميع في النهوض بالوطن، لكن هذا النظام مع الاسف لم يسقط، وكما نظّر لذلك الفيلسوف الألمعي نعوم تشومسكي، الذي يعتبر أن كل نظام عندما يقترب سقوطه يضحي برأسه (كما حدث مع بن علي) ليحافظ على وجوده.

والثورة لم تحقق اسقاط هذا النظام، الذي أعاد انتاج نفسه، واعاد الانتشار والاستمرار بأشكال أخرى مختلفة، بل أنّ المنظومة المالية أطبقت على السلطة، وعقدت صفقات وتوافقات مع القوى الصاعدة، مثل النهضة وبعض الاحزاب التي انتجوها مثل النداء ومشتقاته، وصارت اليوم كما وصفها تقرير مجوعة الازمات الدولة international crisis group ، دمقرطة للفساد democratisation de corruption، وهو نفس الامر الذي أشارله (ولو في كلمة حق اريد بها باطل) سفير الاتحاد الاوروبي برغاميني، الذي علق باطباق 200 رجل اعمال على الدولة، وهذا الالتحام بين الادارة والمال والسياسة والاعلام، الذي اطبق على الدولة هو ما يسعى سعيد لتفكيكه، بعدما تمترس في اشكال جديدة اكثر قوة وصلابة، وهنا يظهر استحقاق سعيد، في تشارك مع الشباب الرافض لاشكال الهيمنة والفساد واغتصاب ثروات البلاد، من اجل استرجاع حقوقه في الشغل وتنمية جهاته والعدالة الاجتماعية، وخصة الكرامة!!

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here