إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. بالتزامن مع اقتراب امتحانات الثلاثي الأول في المدارس والمعاهد التونسية، أصدرت وزارة التربية والتعليم بيانا يمنع على المدرسين العاملين بمختلف المؤسسات التربوية العمومية تقديم دروس خصوصية خارج الفضاء المدرسي، وكل مخالف يتعرض لعقوبات تصل حدّ الإيقاف.
استندت الوزارة في البيان الأخير إلى المرسوم الحكومي عدد 1619 لسنة 2015 المؤرخ في 30 أكتوبر 2015، المتعلق بتنظيم وضبط موضوع الدروس الخصوصية، والذي ظل منذ ذلك الحين حبرا على ورق… فهل سيكون القرار هذه المرة نافذا ويطبّق أن سيلقى مصير سابقيه؟
ويقول رضا الزهروني، رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ في تصريح لـ”أفريقيا برس”: “الدروس الخصوصية أصبحت اليوم ظاهرة خطيرة. تمس كل مراحل التعليم وتكلفتها كبيرة، وتمس المقدرة الشرائية وتزيد من الفوارق الاجتماعية. وحين نقيم واقع المنظومة التربوية علينا أن نرى عقيدة النجاح المتبعة وهل تتطابق مع بعضها البعض وهو ما خلق إشكالية كبيرة وغير أخلاقية وسلوك غير أخلاقي من قبل بعض المدرّسين”.
تتجه أغلب التوقعات إلى أن سلطات الإشراف والقرار تملك القدرة أكثر، ليس على تنفيذ هذا القرار بشكل تام، لكن على تحديد ضوابط لهذه الظاهرة التي تضغط بشدة على ميزانيات الأسر التونسية وتضرّ بمستقبل أجيال كاملة تعاني من ضعف في التعليم.
ويقول محمد ميداني رزقي: “رأيي كأستاذ قديم (أكثر من 34 سنة دون انقطاع في المهنة ومسؤول نقابي في قطاع التعليم الثّانوي)، أن الدروس الخصوصيّة خارج المؤسّسة التربويّة؛ تكريس الفوارق الاجتماعية بين التلاميذ وبين الأساتذة. أيضا تشجّع الدروس الخصوصية التلاميذ على التواكل والغياب، لا يحضر الدرس وعندما يكون موجودا لا يبذل جهدا طالما سيأخذ الحصة مرة أخرى في الدرس الخصوصي والنتيجة مضمونة”.
رحّب الكثير من الأولياء بالقرار آملين أن يتم تطبيقه فعليّا هذه المرة بعد أن أثقلت الدروس الخصوصية كاهلهم. وقال مراقبون إنها خطوة ذكية ومنطقية من الدولة لتخفيف أعباء مالية على الآباء ما كان يجب أن يدفعوها لولا تراجع المعلم عن القيام بواجب التدريس كاملا أثناء الحصة المخصصة لذلك دون إجبار العائلات على دفع مبالغ إضافية.
ووفق المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك؛ قدّرت تكلفة الدروس الخصوصية ثلاث مليارات دينار (مليار دولار) سنويّا، وهي تكلفة عالية جدّا لكن تضطر إليها أغلب العائلات التي تجبر أحيانا على التداين والاقتراض من البنوك من أجل دفع أجر المدرّس الخصوصي خاصة بالنسبة لتلاميذ الباكالوريا.
من أوّل صف في المدرسة إلى الصف النهائي (الباكالوريا)، أصبحت الدروس الخصوصية لازمة في كل الأقسام. واتفقت آراء أغلب الأولياء ممن تحدّث “أفريقيا برس” معهم حول أن “الضمير المهني صار مغيّبا، فأغلب المدرّسين صاروا يتعمّدون جعل الدرس غير مفهوم حتى يقبل التلاميذ على الدروس الخصوصية التي يمنحونها خارج المدرسة، وبأسعار خيالية”.
وكان مرسوم صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية في عدد 17 نوفمبر 2023، عن وزير التربية ووزيرة المالية حدّد المبالغ المخصصة للدروس الخصوصية بـ 30 دينارا للمرحلة الابتدائية و35 دينارا للمرحلة الإعدادية وبين 40 و45 دينارا في المرحلة الثانوية.
لكن الأولياء الذين تحدّث “أفريقيا برس” معهم، يؤكدون أن المبالغ التي يدفعونها للمدرس خارج المدرسة تبلغ أضعاف ذلك، ويلفتون أيضا إلى أن تلك المبالغ تعتبر بدورها عالية، حيث أن التلميذ مطالب بدراسة أكثر من مادة، وأغلب العائلات لديها بمعدل من طفلين إلى أربعة يدرسون، وكل واحد منهم سيكون مطالبا بالدروس الخصوصية.
ويقول أحمد بن عامر، وهو أب لثلاثة أطفال يدرسون في السنوات الابتدائية (الصف الأول والرابع والسادس)، لـ”أفريقيا برس”: “للأسف لم نعد نعرف مستويات أبناءنا الحقيقية، صرنا نشتري لهم المعدّلات الجيّدة، وهو اضطرار، فابنتي الصغرى تعرّضت لمظلمة السنة الماضية ولم يكن لدّي من خيار غير إلحاقها بأخواتها”.
ويفسر محدّثنا مضيفا: “في الثلاثي الأول لم تكن الإمكانيات تسمح بأن نعطيها دروسا خصوصية خاصة وأن أخاها كان يدرس في السنة السادسة وهي سنة اختبار وطني للمرور للمرحلة الإعدادية. وكنا نريد أن تكتسب مهاراتها بمفردها دون مساعدة أو تغيير في النتائج، فهي مازالت في أول الطريق. تفاجئنا بمستوى متدن من النتائج وبمعاملة غير مشجّعة من المعلمة، اضطرتنا في الثلاثي الثاني إلى أن نلحقها بصف الدروس الخصوصية عند المعلمة لتنقلب النتائج بشكل كبير”.
وتدخل معنا في الحديث سندس العوني، التي تؤكد أنها عاشت نفس التجربة مع ابنتها. وتقول لـ”أفريقيا برس”: “ابنتي اليوم تدرس في الإعدادية لكن للأسف مستواها ضعيف جدا. لم تجد نفسها وذلك بسبب الدروس الخصوصية التي كانت تأخذها طيلة المرحلة الابتدائية. لم نكن نعرف مستوى ابنتنا جيدا كانت تنجح بفضل الدروس الخصوصية وليس بمجهودها. فالمعلمة أو المعلم يعطيهم امتحانا مشابها لذلك الذي سيمتحنون عليه، بالإضافة إلى الأعداد العالية التي يمنحها المدرس أو المدرسة لهم وسط السنة ويتم احتسابها ضمن المعدلات النهائية”.
وكانت دراسة أعدها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أظهرت أنّ 51 في المئة من الدروس الخصوصية يدرّسها مدرّس القسم نفسه، وهو أمر يمنعه القانون. ولفتت الدراسة إلى أن “عملية تقييم التلميذ لم تعد قائمة على القدرات المعرفية والتربوية بل مبنية على القدرة المادية للتلميذ”.
ومنذ سنوات تسعى السلطات الرسمية التونسية إلى تنظيم هذه الظاهرة لكن دون فائدة.
وفي بيانها الأخير، دعت وزارة التربية إلى ضرورة التقيّد بمقتضيات الأمر عـدد 1619 لسنة 2015 المتعلّق بضبط شروط تنظيم دروس الدعم والدروس الخصوصية داخل فضاء المؤسسات التربوية العمومية، مذكرة بأن كلّ مخالف لذلك يعرّض نفسه إلى الإيقاف التحفظي عن العمل وإلى الإحالة على مجلس التأديب وإلى تسليط العقوبات المستوجبة بما في ذلك عقوبة العزل علاوة على التتبعات العدلية.
وأكدت أن هذا يندرج في إطار الحرص على حوكمة المنظومة التربويّة وحمايتها وسعيا إلى تحصين المكانة الاعتبارية للمربين وضمان العدالة والإنصاف بين جميع التلاميذ من جهة وإلى الحدّ من ظاهرة انتشار الدروس الخصوصية خارج فضاء المؤسسات التربويّة العمومية من جهة ثانية.
ولأن المسؤولية مشتركة، فقد نبهت وزارة التربية كافّة الأولياء إلى مخاطر الانخراط في هذه الظاهرة بدفع أبنائهم إلى تلقي دروس خصوصيّة خارج فضاءات المؤسسات التربويّة العمومية والإطار القانوني المنظم. ولا يمكن تحميل المدرّسين فقط مسؤولية انتشار هذه الظاهرة، فبعض الآباء وجدوا في الدروس الخصوصية مهربا لهم من مسؤولية متابعة أبنائهم خاصة بعد يوم مرهق من العمل.
وتضع منظمة الدفاع عن المستهلك رقما آخر للتبليغ على الدروس الخصوصية خارج المؤسسات التربوية بالنسبة للمدرسين المباشرين.
وإلى جانب سلبياتها على ميزانية العائلة، تخلق ظاهرة الدروس الخصوصية فوارق اجتماعية على الطرفين، فمن جهة صار من يملك المال هو “الناجح”، وحتى على مستوى المدرّسين صار هناك تنافس، يترجم أحيانا في الخلافات حول جداول الأوقات، فمدرسو العلوم يعتبرون الأوفر حظّا مقارنة بمدرسي المواد الأدبية في “تحسين مستواهم” والفوز بنصيب الأسد من كعكة الدروس الخصوصية.
ويؤكّد محمد ميداني رزقي أن “الدروس الخصوصية تضرّ بصورة التلاميذ وجزء كبير من الرأي العام ممّا حال (بالإضافة لعدّة عوامل) دون تحصّلنا على حقوقنا مثل موظفين في قطاعات أخرى، فعندما طالبنا مثلا بتحسين ظروفنا المادية كان الرد: الدروس الخصوصية تدر عليكم الكثير من الأموال”.
وتقول صباح الزعبي، وهي مدرسة متقاعدة، إن هذا الأمر يدفع بعض مدرّسي المواد العلمية إلى التقاعس أو تعمّد تقديم امتحانات صعبة لتكون منفذا لهم لتقديم دروس خصوصية رغم أن الكثير من المواد لا تحتاج إلى ذلك خاصة في السنوات الابتدائي، وعندما يقوم المعلّم بشرح جيد وإعداد مناسب لدرسه”.
وتضيف صباح: “الخلافات حول الدروس الخصوصية تحدث حتى داخل أسوار المدرسة تخلق أزمة بين المدرّسين، حيث للمدرّس نصيب من أجر الدروس، وإن كان سعرا رمزيا، فكل مدرس يرغب في أن يقوم هو بتقديم الدروس، أو كل مدرس يدرب تلاميذه لنجد أنفسنا أمام نفس المشكل من جديد، تقييم مغلوط لإمكانيات التلميذ”.
ورغم أهمية الإجراءات الردعية، فإنها تبقى وفق الكثير من الخبراء، حيث يشدّد الناشط بالمجتمع المدني عماد عيساوي على أن “إصلاح منظومة التعليم في تونس يتطلب رؤية شاملة تتجاوز الحلول الترقيعية لتصل إلى عمق المشكلات المتجذرة”.
ويقول عيساوي لـ”أفريقا برس”: “الإصلاح يبدأ بإعادة صياغة المناهج لتكون أكثر تركيزا على بناء العقول وتنمية التفكير النقدي، بعيدا عن الحفظ الآلي الذي أنهك التلاميذ ووأد الإبداع. ومن هنا، لا بد من خلق بيئة تعليمية حديثة، حيث تتكامل التكنولوجيا مع التعليم، فتتحول الفصول الدراسية إلى مختبرات للإبداع والمعرفة”.
ويضيف “أن تحسين ظروف المدرسين المادية والمعنوية شرط أساسي، فهم العمود الفقري لأي منظومة تعليمية ناجحة، ولا يمكن انتظار التميز من أستاذ يرهقه البحث عن مصدر رزق إضافي. أما الدروس الخصوصية، فهي عرض لمرض أكبر، علاجها لا يكمن في العقوبات بل في توفير بدائل مجدية داخل المؤسسات التعليمية، تجعل من المدرسة مكانًا للتميز الحقيقي، وتقطع الطريق أمام هذه الظاهرة التي أصبحت مرادفا للتعليم الموازي”.
الدروس الخصوصية يطلبها الولي لتحسين مستوى أبنائه، ويقوم بها المدرّس لتحسين وضعه المادي، وهو أمر إيجابي ومفيد شرط أن لا يتجاوز الحدود ويتحول إلى “مرض” للطرفين الأولياء الذين يعتقدون أن نجاح أبنائهم في الحياة مرتبط بالأعداد التي يأخذونها في هذه المادة أو تلك، خاصة المواد العلمية، والمدرسون الذين صاروا يتحججون بضعف مستويات المدارس وبأن مرتب المدرس لم يعد يكفي وبالاكتظاظ في الأقسام ليتحول الأمر إلى عملية ابتزاز للتلميذ دون مسعى لتقديم الأفضل وفق منظومة تعليمية تقليدية تخرّجت منها أجيال متميزة دون الحاجة إلى دروس خصوصية. ولا شك في الإصلاح الحقيقي ليس في تغيير القوانين فقط، بل في تغيير العقليات، واستثمار طويل الأمد في بناء جيل قادر على مواجهة تحديات المستقبل بثقة وإبداع.
وهو ما يؤكّده رضا الزهروني بقوله: “القرار فيه جانب ايجابي لكن لا يحل المشكل تماما. والحل في أخذ هذه الإجراءات والمتابعة ويبقى الحل الجذري بإصلاح المنظومة التربوية ككل”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس