الصين تنزل بثقلها الاستثماري في تونس

24
الصين تنزل بثقلها الاستثماري في تونس
الصين تنزل بثقلها الاستثماري في تونس

إلهام اليمامة

أفريقيا برس – تونس. أعلن سفير جمهورية الصين الشعبية في تونس مؤخّرا عن حزمة مشاريع ستتمّ قريبا بين بلاده في تونس في سياق تعزيز الشراكات الاقتصادية ودعم تونس في تحريك عجلة عديد من المشاريع المتعطّلة، من ذلك تمويل إعادة بناء الملعب الأولمبي بالمنزه، وشراء حصّة من أحد أكبر مصانع الإسمنت في تونس بقيمة تفوق 100 مليون دولار، كما أعلن السفير عن تعاون في قطاعات الصحة والسياحة وغير ذلك من المشاريع الإستراتيجية الكبرى بتونس، الأمر الذي طرح نقاشا حول تطورات هذا التعاون وماذا سيستفيد كل طرف في وقت يشهد فيه العالم تحوّلات كبرى تونس والصين ليستا بمعزل عنها.

في قراءته لهذه “الاندفاعة” الصينية نحو تونس، يقول المحلل السياسي فريد العليبي لـ”أفريقيا برس”: “حضور الصين الاقتصادي في تونس ضعيف حتى الآن ولكن هذا الحضور سيتعزز خلال السنوات المقبلة فتونس تعمل على تنويع شراكاتها الاقتصادية وتجاوز الارتباط بالاتحاد الأوروبي تحديدا على هذا الصعيد ويبدو أن الصين ترحب بهذا التوجه وهي التي وقّعت مع تونس مذكرة تفاهم منذ سنة 2018 حول مبادرة طريق الحزام والحرير وكانت الزيارة التي أداها الرئيس قيس سعيد إلى الصين مناسبة لتأكيد هذا التوجه”.

وكان السفير الصيني وان لي كشف في حوار مطوّل مع وكالة الأنباء التونسية الرسمية، (تاب)، عن الاستثمارات الصينية القادمة في تونس والتي تأتي وفق حديثه، في سياق دفع العلاقات الثنائية إلى مستوى جديد وبما يتوافق مع المصالح الأساسية للبلدين.

ومن بين المشاريع التي تحدّث عنها وان لي واستوقفت التونسيين، مشروع تهيئة الملعب الأولمبي بالمنزه، الذي له مكانة خاصة لدى التونسيين، وكثرت في الفترة الأخيرة الانتقادات بسبب تأخر انتهاء الأشغال. وقال السفير الصيني في هذا السياق إن بلاه اتفقت مع الجانب التونسي بشأن تمويل المشروع، الذي توقف العمل به من عام 2023، بعد اكتشاف مجموعة من الإخلالات في سير العمل.

أما المشروع الثاني الذي ستقوم الصين بتمويله فهو مصنع الإسمنت بجبل الوسط، حيث صرح سفير الصين في تونس بأن الشركة الوطنية الصينية لمواد البناء (CNBM) ستقوم بشراء حصة الشركة البرتغالية بأكثر 100 مليون دولار، من المصنع”. ويعتبر ذلك المبلغ الأعلى على مستوى الاستثمار الصيني المباشر في تونس.

وقال وان لي، “إن سفارة الصين بتونس ستطلب من الشركة الصينية المكلفة بإنجاز جسر بنزرت الجديد، بأن تبذل قصارى جهدها لتسريع الأعمال التحضيرية، حتى يتم إنجاز هذا المشروع بشكل جيد وبجودة عالية ووفقا لجدول زمني مضبوط”.

إلى جانب ذلك، أعلن السفير الصيني عن مشاريع أخرى في قطاع الصحة مثل تصميم مركز لعلاج أمراض السرطان بمستشفى قابس ومشروع المدينة الطبية بالقيروان. وفي إطار تعزيز العلاقات الثقافية، تناقش جامعة صينية مع جامعة في سوسة إنشاء معهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية. وأكد السفير أن هذا المشروع من شأنه دعم التعاون الثنائي في المجالات التعليمية والسياحية من خلال تسهيل التبادلات والتفاهم المتبادل، لافتا إلى أنه من المتوقع أن “يبلغ عدد السياح الصينيين الذين سيتوافدون على تونس خلال الموسم السياحي 2025 نحو 30 ألف سائح مقابل 20 ألف سائح في سنة 2024”.

وسبق هذه الحزمة من المشاريع، مشاريع أخرى لا تقل أهمية في مجال البنية التحتية. والنشاط الصيني في مجال البنية التحتية في تونس ليس بالأمر الجديد، فالعديد من المشاريع الكبرى في تونس، خاصة في مجال الطرقات وبناء الجسور، ساهمت فيها شركات صينية، وهي تحظى بثقة كبيرة من التونسيين، لكن الجديد في هذه العلاقة دخول بكين كمستثمر “صيّاد للفرص”، وبشكل يحوّل العلاقة من علاقة وقتية مرتبطة بتنفيذ المشروع ونهايته إلى تواجد دائم باعتبار أن الجانب الصيني يمتلك حصة في هذا المشروع أو ذلك، على غرار مصنع الاسمنت.

منعرج جديد

شهدت العلاقات التونسية الصينية منعرجا جديدا إثر زيارة الرئيس التونسي قيس سعيّد لبكين على هامش فعاليات الاجتماع الوزاري العاشر لمنتدى التعاون العربي الصيني في ماي 2024. وكان هذا المنتدى مناسبة لافتة كشفت عن توجّهات الصين الجديدة مع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ضمن سياق عالمي متغيّر وفي إطار التسويق لمجموعة “بريكس” كبديل جديد للتكتلات الاقتصادية/السياسية التقليدية.

وكان السفير الصيني قال في حواره إن “هناك مزيد من الشركات الصينية تنوي الاستثمار في تونس… إن الجانب الصيني دائما يشجع الشركات الصينية على الاستثمار في تونس، على الرغم من أن الشركات الصينية لديها معرفة محدودة جدا بقوانين السوق التونسية”.

ويقول خبراء إن ما تقدّم الإعلان عنه من مشاريع وشراكات اقتصادية وتجارية بين الصين وتونس، يعتبر فرصة ثمينة للطرفين، كل يستغلّها بما يخدم مصالحه وفق علاقة ندية، تفيد الطرفين، فتونس مثلا تسعى إلى الاستفادة من الاستثمارات الخارجية لتحفيز التنمية الصناعية، في وقت تشهد فيه أزمة تمويل وسيولة نقدية، وأغرقتها سياسة التداين، وتعجز عن كسر الجمود مع صندوق النقد الدولي.

لكن، يحذّر الخبراء من أن تتسبّب الحاجة التونسية في الإخلال بموازين المصالح، فمقابل التواجد الصيني في تونس يجب أن تفتح الأسواق الصينية للتونسيين، ويرتفع ميزان الصادرات والتبادل التجاري. ويقول الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي: “اقتصاديا يجب إصلاح العجز التجاري مع الصين وهو ما يتطلب التصدير للصين لكننا غير قادرين على ذلك بحكم البعد، وهو ما يكلف المستثمرين التونسيين، وعلى المستثمرين الصينيين المجيء إلى تونس والاستثمار فيها، وحين يقومون بالإنتاج سيكون بوسعهم التصدير بأنفسهم، وبالتالي يتراجع بذلك العجز مع الصين”.

ويضيف الشكندالي أن “الاستثمار الصيني يجب أن يكون في المجالات التي فيها ميزة تفاضلية، وهو ما يتطلب منا تحسين مناخ الأعمال وتخفيف البيروقراطية، لتحفيزهم. الاستثمار المباشر ليس له أي علاقة بالديون، على العكس سيكون هناك دخول للعملة الصعبة، وهو يدعم النمو ويحسن الإنتاج وزيادة في الصادرات وفرص لتشغيل الشباب، وتعاون مفيد للاقتصاد الوطني في ظل ما يعيشه من صعوبات”.

وعلى المستوى السياسي، يرى الدبلوماسي التونسي السابق عبدالله العبيدي لـ”أفريقيا برس” أن “دولا بحجم الصين وإمكانياتها لديها دائما نزعات توسعية وسياساتها تقوم على انتهاز الفرص المتاحة. نحن نعلم اليوم أن المشهد السياسي في تونس متشذرم وحتى تواجه قوة مثل الصين يتطلب ذلك نوعا من الوحدة والوفاق. وما ينقصنا اليوم هو التمسك بثوابتنا الدبلوماسية لبلورة المصالح المشتركة وإقناع المواطنين المتشككين من صحة هذه التوجهات. ونحتاج في المقابل الاطلاع على مضامين الاتفاقيات والشراكات الدولية”.

طريق الحرير

يحيل تصريح الدبلوماسي التونسي السابق إلى السياسات الصينية التي تختفي وراء هذه الاستثمارات الضخمة والمتزايدة في تونس والعالم عموما، والتي تطال مختلف القطاعات وتستهدف كل ما يخدم مشروع طريق الحرير الصيني، وهو خطة طموحة تهدف لربط الصين برا وبحرا بجنوب شرق آسيا ووسط آسيا والشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا.

وقد جعل موقع تونس في قلب ساحل شمال أفريقيا، مع إمكانية الوصول إلى الأسواق الأوروبية والأفريقية والقرب من طرق الشحن الحيوية، شريكا قيما للصين. وانضمت تونس إلى مبادرة الحزام والطريق في عام 2018.

بدأ التنين الصيني يتخلّى في وسط كل التحولات الإقليمية والدولية، وفي ظل حربه مع الولايات المتحدة، بصفة تدريجية عن سياسته الدبلوماسية الناعمة ليدخل بثقله لمغازلة دول أفريقيا والشرق الأوسط، وذلك من باب الشراكات الاقتصادية التي تخفي بين طيّاتها مساع للعب أدوار سياسية هامّة لإعادة تشكيل موازين القوى العالم، وهي مقاربة خططّ لها الحزب الشيوعي الحاكم في الصين منذ ثلاثة عقود ولها مساران، الأول إغراق العالم العربي وإفريقيا بالسلع والبضائع الصينية، والثاني بجعل الدبلوماسية الصينية في المنطقة من ناعمة وسلسة في ظاهرها لكنها تستبطن كسر نفوذ القوى التقليدية.

ولقيت هذه السياسة صداها لدى الدول المعنية، خاصة وأنها تقوم أساسا على عدم التدخل في الشؤون الداخلة للدول ولا علاقة بها بشعارات حقوق الإنسان وكل ما تتحجّج به الولايات لمتحدة والدول الأوروبية عندما تتوتر علاقتها بدولة ما. وكانت الصين أحدثت في 2019 صندوق مشترك صيني عربي بقيمة 3 مليار دولار أميركي سيستثمر في البنية التحتية للمواصلات والنفط والغاز والمال والاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي. وكان وفد من هذا الصندوق زار تونس في سنة 2024 وأعلن عن دعم البرامج الاقتصادية لتونس والعمل على تنظيم زيارات ثنائية للاطلاع على فرص الاستثمار.

ويرى فريد العليبي أن “الصين تبحث عن منافع في أي مكان تستثمر فيه أموالها مثلها في ذلك مثل أي بلد آخر وهي أيضا في تناقض مع دول كبيرة أخرى خاصة أمريكا والاتحاد الأوروبي وهناك حروب تجارية حقيقية وكل بلد يسعى إلى التوسع والهيمنة وتونس تدرك ذلك ويبدو أنها تحاول الاستفادة من تلك التناقضات وتجسيد الشعار الذي ترفعه على هذا الصعيد وهو التعويل على الذات فضلا عن الشعار الثاني وهو السيادة الوطنية والتعامل مع الدول الأخرى وفي شتى المجالات تعامل الند للند”.

في ذات السياق يذهب النائب أحمد السعيداني مصرحا لـ”أفريقيا برس”: نحن أمام ضرورة تاريخية تحتّم تنويع الشراكات الإستراتيجية دون السقوط في منطق الاصطفاف وراء إحدى القوى الدولية والإقليمية”.

ويضيف السعيداني: “وجب التذكير بأن العلاقات الدولية لا تقوم على الحب والكره ولا تحتكم لمفاهيم العواطف وإنما تقوم على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، من هذا المنطلق الصين مثلها مثل اقتصاديات العالم الكبرى تبحث عن مصلحتها قبل كل شيء وعلى المفاوض التونسي أن يتحلى بالذكاء الاستراتيجي والتفكير في الشراكات المثمرة على المدايين المتوسط والبعيد”.

ويضيف النائب في مجلس نواب الشعب التخوفات في موضوع العلاقة مع الصينيين بأنها “مشروعة ولكن الطرف الصيني من أكثر الدول التي تحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها وسيكون تفاعلها إيجابيا مع الدول التي تحترم سيادتها، بالنسبة لسياسة إغراق البلدان بالديون فالصين أيضا ليست الدولة التي تقدم خدمات اجتماعية مجانية وليست بالجمعية الخيرية وحين تفكر فإنها تبحث عن مصالحها أولا وقبل كل شيء، وعليه من الضروري الانخراط في شراكات مع كل الأطراف التي تحترم سيادة التونسيين على مقدراتهم وثرواتهم وقرارهم السياسي في إطار المنفعة المشتركة”.

بين تحديث البنية التحتية والاستثمارات الصناعية وطموحات السياحة، يبدو أن التعاون الصيني التونسي يدخل مرحلة جديدة. ولا يمكن لهذه المشاريع أن تساهم في إنعاش قطاعات رئيسية في الاقتصاد التونسي فحسب، بل إنها أيضا تجعل تونس شريكا استراتيجيا للصين، التي ستصبح عما قريب صاحبة الاقتصاد الأكبر على الكوكب.

في سنة 2023، نشر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، دراسة عن التواجد الصيني تونس، والذي بدأ يستغل تراجع النفوذ الأميركي. ومما جاء في الدراسة أن “النفوذ الصيني قد يتوسع بسرعة إذا تخلفت تونس عن سداد ديونها العامة أو انهارت اقتصاديا. وكما ثبت في بعض بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، فقد استخدمت بكين في بعض الأحيان مكانتها كمقرض الملاذ الأخير لكسب النفوذ محليا”.

وتستطرد الدراسة إلى أن “معظم عمليات الإنقاذ الضخمة هذه حدثت في بلدان تستثمر فيها الصين بالفعل بشكل كبير، وهو ما لا ينطبق على تونس وعلاوة على ذلك، حثت بكين الحكومة التونسية علنا على العمل مع صندوق النقد الدولي لتأمين حزمة القروض التي كانت معلقة منذ أكتوبر، مما يشير إلى أنها تفضل عدم العمل كمقرض طوارئ في هذه الحالة”.

اليوم وبالنظر، إلى حزمة المشاريع والاستثمارات التي تم الإعلان عنها، يبدو أن الصينيين قرّروا العمل بـ”النصيحة” الأميركية، استعدادا لما بعد العصر الأميركي.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here