نصرالدين السويلمي
بعد 50 سنة من العمل الدعوي والسياسي والفكري، بعد نصف قرن من العمل تحت الخطر وتحت الضغط، أربعة أخماس هذه المدة قضاها تحت مخاطر النضال والخمس الخامس تحت ضغط الدولة، بعد هذا المشوار الطويل ولأول مرة في حياته يتقلد زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي منصبا رسميا، قبله وبعد الثورة تقلد التجمعي وتقلد الاستئصالي وتقلد عضو اللجنة المركزية للتجمع وتقلد مناشد بن علي وتقلد السمسار والكناطري، تقد الطبيب والأستاذ والتاجر وصاحب سيارة الأجرة”لواج”، تقلد المسلم تقلد المسيحي تقلد اليهودي تقلد الملحد.. كلهم تقلدوا مناصب وزارية أو نيابية في دولة ما بعد سبعطاش ديسمبر، وحده صاحب مسيرة النصف قرن ظل داخل المعادلة بقوة الفعالية خارجها بغياب المهمة الرسمية، ثم هو يسلك الطريق المؤدية إلى باردو، ثم وصل رغم ان القصر كان تحت حراسة مشددة للقديم والعديم واللئيم.
عمل الرجل على محاور عدة، كان هناك في أواخر ستينات القرن الماضي، كان هناك في التأسيس كما كان هناك خلال البيان الأول للاتجاه الإسلامي، كان في تونس وكان في العالم العربي، كان أيضا في العالم الإسلامي، كمفكر وسياسي، كان في الصين وفي الهند، كان في استقباله قصر المرادية في الجزائر بشكل رسمي كما كان في استقباله قصر انقرة بأشكال يغلب عليها الاحتفاء، اندونيسيا ايضا عرفت الرجل كما عرفه رائد النهضة الماليزية مهاتير محمد، كان على موعد مع قائمة أفضل 100 مفكر في العالم “فورين بوليسي” ، وموعد آخر مع جائزة تشاتام هاوس”المعهد الملكي للشؤون الدولية”، كانت له وقفة مع جائزة ابن رشد للفكر الحر “مؤسسة ابن رشد للفكر الحر في ألماني”، ثم على موعد آخر مع الجائزة الدولية لتعزيز القيم الغاندية للسلام ” مؤسسة جمنالال بجاج في الهند”، كان على موعد مع محطات كثيرة تمكن الرجل فيها من قيادة مصالحة تاريخية بين مدونة الفكر السياسي الإسلامي والحرية والتعايش والأقليات والآخر المختلف.
دون أن يدخل معهم في خصام شخصي ارهق الغنوشي خصومه على مدى نصف قرن، لاحقوه في السجون والمنافي، لاحقوه في الدوحة فوجدوه في بكين، تعقبوه في الصين فوجدوه في انقرة، اشاروا اليه فانتبهوا على وقع أقدامه في بوباي، دخل محافل الدعاة كداعية فصنع الإضافة، دخل مجال الفكر فقدم ودوّن وترك بصماته، دخل السياسة فقاد الحزب الأول في البلاد كما قاد التجربة، كما قاد الوساطات والتوافقات، كان أواخر المرحلة البورقيبية الهدف الشهي لبورقيبة وكان خلال مرحلة بن علي المطلوب الأول لسلطة 7 نوفمبر، ثم كان بعد الثورة اللقمة التي غصت بها الثورة المضادة وغرفتها المركزية في الدويلة الخليجية..
لقد أقدم هذا الرجل على إعادة انتشار لفلسفة الثورة بأشكال غير مسبوقة، من باحة الثورة انسحب من السلطة لفك الحصار عن الثورة، ثم بالغ في التنازلات لامتصاص الهجمة التجمعية العائدة الى السلطة على وقع صناديق الغضب الشعبي، روض وداعب ولاعب..حتى انتهت قصة الحلف التجمعي الاستئصالي الزاحف على السلطة بهدوء ودون خسائر تذكر، أسهم الغنوشي في امتصاص شراهة الثورة إلى الصدام النبيل وخفف من اندفاعها نحو التضحية والشهادة، وتنحى بها من المعارك القوية الى المعارك الذكية، يعتبر الرجل أحد رواد هندسة الالتحام الناعم بين الثورة والدولة، ومن فرط همسه في اذن الدولة يكاد الغنوشي يقنع الدولة بتبني الثورة، تلك هي أعلى درجات النجاح الثوري، لا شيء يعادل أن تصل الثورة إلى القصور السيادية لتمنع توقيع قرارات القتل الجماعي، النجاح هو أن تتصالح الثورة مع الثكنات الرسمية، لتمنع انطلاق الرصاص نحو الشارع وانطلاق الدبابة نحو الساحات العامة.
نحج الغنوشي من خارج المناصب الرسمية في نحت تاريخ حافل وراسخ في الداخل الوطني والعربي والإقليمي، فماذا سيقدم بعد أن اعتلى واحدة من أكبر المنصات الرسمية في البلاد؟ أحسن الرجل ترك بصماته في ساحات النضال، هو أيضا ترك بصماته في الدولة من خارج مؤسسات الدولة، وهو اليوم داخل مؤسسات الدولة، قد ينجح في الكثير، قد ينجح أيضا في القليل، لكن الثابت أن الرجل أفلت بالثورة بعيدا عن طاعون الثورة المضادة وجنبها الالتحامات القاتلة، ثم افلت مرة اخرى بشخصه وتاريخه من محاولة جبانة لإخراجه من الباب الخلفي…
الأحرار لا يخرجون من الأبواب الخلفية! الرجال لا تتم إحالتهم بجرة حقد، الرجال في كنف حركة تحسن تستقبل فلذاتها من الأبواب الكبير من الأبواب الشريفة… لا تحسن إحالتهم بل تحسن تشييعهم الى مثواهم الأخير حين ينادي القدر.