تصاعد الأزمة داخل الاتحاد التونسي للشغل ومطالبات بتجديد القيادة

59
تصاعد الأزمة داخل الاتحاد التونسي للشغل ومطالبات بتجديد القيادة
تصاعد الأزمة داخل الاتحاد التونسي للشغل ومطالبات بتجديد القيادة

إلهام اليمامة

أفريقيا برس – تونس. على غير عادته، لم يسجّل الاتحاد العام التونسي للشغل في الذكرى الرابعة عشر لثورة “14 حانفي” حضورا لافتا ومؤثرّا، ما أخرج إلى السطح أزمة داخلية حرص قادة الاتحاد على إحاطتها بالتكتم، خاصة في ظل الوضع العام حيث تصاعد ضغوط النظام وفقدان المنظمة الشغيلة للكثير من ثقلها في المشهد السياسي وانحسار نفوذها في الشارع التونسي.

خلال الفترة الماضية كانت هناك أحاديث خافتة وقراءات حول أزمة غير معلن عنها في صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يحيي في 20 جانفي المقبل الذكرى 79 لتأسيسه. لكن، منذ يوم السبت 14 ديسمبر، علت الأصوات وخرجت الأزمة إلى العلن.

وأعلن خمسة أعضاء من المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل دخولهم في اعتصام مفتوح بمقر المنظمة الشغيلة ابتداء من يوم الأربعاء 25 ديسمبر 2024، وذلك احتجاجا على الوضعية التي وصلت إليها المنظمة.

في المقابل، لازم الأمين العام نورالدين الطبوبي وبقية أعضاء المكتب التنفيذي الصمت تجاه ما يجري في المشهد النقابي ولم يصدر عنهم أي تعليق واضح.

اليوم، يبدو واضحا، في ظلّ التدوينات التي عجّت بها منصة “فايسبوك” والتحليلات المؤيدة والمعارضة، أن الاتحاد العام التونسي للشغل، أحد أعمدة رباعي الحوار الذي أوصل تونس لنيل جائزة نوبل للسلام، يفتقد للحوار بين أعضاءه الذين أعلن عدد منهم الانشقاق وطالب بتقديم موعد المؤتمر العام وانتخاب هيئة جديدة.

عن هذه الأزمة يتحدّث المؤرخ والباحث في تاريخ اليسار في تونس عبد الجليل بوقرة لـ”أفريقيا برس”، مشيرا إلى أن “الجميع يتفق على أن الاتحاد يعيش في أزمة لكن هناك اختلاف في تحديد أسبابها ووسائل علاجها”..

بالمثل يرى المحلل السياسي منذر ثابت، في تصريحات لـ”أفريقيا برس”، أن “الأزمة داخل صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل أزمة متعددة الأوجه هيكلية وتنظيمية لكن أيضا أزمة سياسية في خط سير الاتحاد، ويبدو أنها أدركت مستويات القطيعة بينها وبين طرفي الصراع”.

في المقابل، قال المحلل السياسي باسل ترجمان إن “أزمة اتحاد الشغل أزمة كبيرة تجسدت في إعلان خمسة أعضاء بالمكتب التنفيذي بقرارهم الاعتصام يوم 24 ديسمبر في مقر الاتحاد والمطالبة بالتبكير بعقد مؤتمر استثنائي، رغم أنهم كانوا جزءا من كل ما شهده الاتحاد من أزمات وأولها مؤتمر سوسة الانتخابي الذي شكل الشرخ الأول الذي تسبب اليوم في هذا الانهيار للاتحاد والقطيعة بين القيادة النقابية والقواعد”.

والنقطة الثانية، وفق ترجمان، هي “أن هؤلاء تم انتخابهم في مؤتمر صفاقس الذي شهد طرد وإقصاء عدد من القيادات النقابية التي كانت ترفض القبول بنتائج مؤتمر سوسة. اليوم تراكم الأزمات والاصطفاف السياسي الذي أصبح ظاهرا باصطفاف أمين عام الاتحاد ضد الرئيس قيس سعيد وبإعلان الاتحاد عدائه للتوجهات السياسية لن يصبح له دور بالمشهد ويفقد علاقاته بالحكومة وبالتالي الأزمة تفاقمت”.

مخاض داخل الاتحاد

عشية إحياء الذكرى 14 للثورة في تونس، التي كان الاتحاد أحد ركائزها، أعلن عدد من أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل عن عقد اجتماع عام بحضور عدد من القواعد النقابية من جامعات مهنية وفروع نقابية، وذلك يوم السبت 14 ديسمبر2024.

على أثر الاجتماع انعقد مؤتمر صحفي، أكّد خلاله أنور بن قدور، الأمين العام المساعد والناطق باسم هذا الحراك، وأحد المعتصمين الخمسة (إلى جانب عثمان الجلولي، منعم عميرة، الطاهر المزي، وصلاح الدين السالمي) أن “موقفهم يأتي احتجاجا على الوضعية المتردية التي أصبح عليها الاتحاد لعام التونسي للشغل”.

وعجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالتدوينات المؤيّدة لهذا التحرك والمعارضة له، وبمختلف التحليلات التي تكاد تتفق على أن الاتحاد العام التونسي للشغل فقد حظوته في الشارع التونسي ويحتاج إلى مراجعات لسياسته وما تحقق على امتداد السنوات الأربع عشر السابقة.

وفي تصريحات سابقة، لم ينكر الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي أن المنظمة الشغيلة تعيش “مخاضا”. وشدّد الطبوبي، في تصريحات نقلتها وكالة تونس أفريقيا للأنباء، بمناسبة إحياء الذكرى 72 لاغتيال الزعيم النقابي فرحات حشّاد (5 ديسمبر 1952)، على أن الاتحاد شهد على مدار تاريخه عدة تحولات داخلية وتعرض خلال مسيرته إلى أزمات داخلية كان لها تأثيرها.

في العديد من تلك الأزمات، على غرار أزمة 26 يناير 1987، تدخّل “الحكماء” من قيادات الاتحاد المخضرمين لتهدئة الأوضاع. فهل سيتدخّل “الحكماء” في هذه الأزمة لتهدئة الوضع في وقت يؤكد فيه الكثير من النقابيين أن ما يشهده الاتحاد اليوم يضر بالبلاد والعمّال وبالاتحاد ككل ولا يخدم إلاّ النظام الذي يفيده أن يُبقي الاتحاد العام التونسي للشغل منشغلا بأزماته الداخلية وهو الذي كان طوال تاريخه الصوت العالي للعمّال مهما كان النظام ومهما كانت علاقته به، تقارب أو تباعد.

الاتحاد بعد 2011

مرّت مئة سنة على ولادة الحركة النقابية التونسية التي نشأت مع محمد علي والطاهر الحدّاد في جامعة عموم العَمَلة التونسية الأولى ثم مع جامعة عموم العَمَلة التونسية الثانية ومع الزعيم فرحات حشاد ورفاقه في الاتحاد العام التونسي للشغل.

وشكّل تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 يناير 1946 إثر مؤتمر الخلدونية علاقة فارقة في تاريخ البلاد السياسي والنقابي. وكان الاتحاد عنصرا مؤثّرا في الحركة الوطنية التحررية وبعد الاستقلال لم يتخل الاتحاد عن دوره كرمانة ميزان بين الشارع والنظام وتمسّكه بحقوق العمال حتى لو أدى الأمر إلى الدخول في صراع مع النظام.

وظلّ الاتحاد المنظمة النقابية الشاملة والوحيدة في البلاد، رغم محاولات نشأة كيانات عمالية موازية على غرار الاتحاد الوطني التونسي للشغل والجامعة العامة التونسية للشغل، (لم تعترف بها السلطة) وقد أسسها سنة عام 2006 “منشقون” عن الاتحاد رأوا أنه فشل في أزمة المناجم في الجنوب الغربي للبلاد.

بعد الثورة، لم يعد الاتحاد يحتكر الساحة حيث زاحمه، إلى جانب الجامعة العامة التونسية للشغل، المنظمة التونسية للشغل التي تأسست في 26 أوت 2013 على يد مجموعة أطلقت على نفسها توصيف “جبهة تصحيح المسار النقابي” داخل الإتحاد العام التونسي للشغل.

وفي 1 ماي 2011، أسس إسماعيل السحباني، الذي شغل خطة الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل في الفترة من سنة 1989 إلى سنة 2000، “اتحاد عمال تونس”. ورغم ذلك لم يفقد الاتحاد العام التونسي للشغل مكانته وظل يتمتع بمكانته التاريخية والرمزية لدى التونسيين.

بعد ثورة 2011 كان ينظر إلى الاتحاد باعتباره مؤسسة حامية للبلاد وداعمة لمسار الثورة بتاريخه النضالي وبمواقف النقابيين المعروفة في عدة أزمات على غرار أزمة الحوض المنجمي. وكان الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس، من أول المتظاهرين منذ 17 ديسمبر 2010 إلى غاية سقوط النظام في 14 يناير 2011.

وفي 2014، كانت البلاد تغلي عقب اغتيال الناشطين السياسيين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، وبدأت تدخل في منعرج سياسي خطير، وكان النقابيون في مرمى أهداف جماعات متشددة تابعة لأنصار الشريعة كفّرت وحرضت ضد النقابيين.

حظي الاتحاد بثقة الشارع في تلك الفترة أكثر من الأحزاب والسياسيين. وتدخلت المنظمة النقابية (بقيادة الأمين العام حسين العباسي) إلى جانب الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين بتونس لقيادة حوار وطني في 5 أكتوبر 2013 نجح في الخروج بالبلاد من أزمتها وتمرير دستور 2014 وتنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية.

في عام 2016، بدأ المتابعون يشعرون أن الاتحاد يزج بنفسه في عالم السياسة بشكل يؤثر على دوره النقابي الاجتماعي. وتغير الوضع كثيرا في تونس وبدأت تظهر أزمة اجتماعية واقتصادية وكثرت الإضرابات التي يقودها الاتحاد، وتسبب ذلك في خروج عدد من الشركات الأجنبية وبطالة الكثير من الموظفين والعمال.

ولأن صوت الاتحاد كان أعلى، سعت الحكومات المتعاقبة، ورغم الصراع المعلن، إلى “ترضية” الاتحاد من بوابة التعيينات والزيادات في الأجور والترقيات لفائدة قطاعات نقابية وبضغط من الاتحاد العام التونسي للشغل، بشكل أفقده شيئا فشيئا ثقة التونسيين الذين بات عدد كبير منهم اليوم يحمّلون الاتحاد مسؤولية الوهن الاقتصادي للبلاد واستشراء الفساد وتأخر الخدمات.

وبدأت الأوضاع تزداد سوءا منذ سنة 2023، وتحديدا مع نقابات التعليم والتهديد بسنة بيضاء الأمر الذي اعتبرته العديد من العائلات التونسية لعبا بمستقبل أبناءها وأمرا لا يمكن السكوت عنه. وبدأت الدعوات إلى الإضراب تفقد زخمها خاصة مع تعطل مصالح المواطنين في قطاعات الصحة والبريد والنقل. وازداد تذمر الشارع واتسعت الهوة بينه وبين الاتحاد.

واعترف نورالدين الطبوبي، الذي يترأس المنظمة الشغيلة منذ سنة 2017، “بوجوب مواكبة المتغيرات عبر تجديد العمل النقابي”. وأقر، في تصريحاته التي نقلتها وكالة الأنباء التونسية الرسمية، “بضرورة القيام بمراجعات والعمل على تغيير خطاب الاتحاد تجاه منظوريه الذين تغيروا بشكل كبير وصارت لهم متطلبات مغايرة لجيل الستينات والسبعينات والتسعينات”.

ووفق عبدالجليل بوقرة: “يعتقد البعض أن تغيير القيادة الحالية كفيل بتجاوز الأزمة… وأرى أن هذا التصور سطحي ولم يفهم عمق الأزمة ولم يقدرها. إنها أزمة هيكلية وستزيدها تداعيات الثورة التكنولوجية (آجلا أو عاجلا) عمقا وحدة”.

ولكن ذلك لا يعني غياب الحلول العاجلة والتي يلخصها بوقرة في بعض المقترحات التي يوججها إلى النقابيين “النزهاء من غير الباحثين عن المغانم والامتيازات”، من ذلك إلغاء التفرغ النقابي، بل بالعكس ممارسة النقابيون لوظائفهم وأعمالهم يضمن تواصلهم المباشر مع نظرائهم ومع ظروف عملهم.

كما يتقرح عبدالجليل بوقرة “انتداب مختصين في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والإدارية لمساعدة النقابيين أثناء التفاوض مع الأعراف ومع الحكومة بإعداد ملفات التفاوض. وتحديد كل المسؤوليات النقابية بدورتين فقط”.

يوفر اتحاد الشغل حاليا الكثير من الامتيازات للمسؤولين النقابيين، وهذا ما يسبب في حدة الصراعات وخروجها أحيانا عن الأخلاقيات النقابية النبيلة… وهذا يسبب أيضا في تشبث المسؤولين بالكراسي… لذا في إلغاء تلك الامتيازات مساهمة جدية في عقلنة الاختلافات وفي عودة الاتحاد إلى دوره الاجتماعي الأصيل وتخلصه من الفاسدين”، وفق الباحث التونسي.

أكثر من مجرد اتحاد

في متابعة لأزمة الاتحاد العام التونسي للشغل، كتب الباحث والصحفي الاسباني المتخصص في قضايا العالم العربي ريكارد غونزاليس، في صحيفة “equal times”: من الواضح الدور الرئيسي الذي لعبه الاتحاد العام التونسي للشغل في تاريخ تونس المعاصر، والذي يعتبره العديد من المحللين الاتحاد الأكثر تأثيرا في العالم العربي. لكن في السنوات الأخيرة، وجد الاتحاد نفسه يواجه أزمة وطنية.

واعتبر غونزاليس أن الأزمة الراهنة تخدم رغبة النظام في أن يرى الاتحاد العام التونسي للشغل يتخلى عن دوره كلاعب سياسي ويقتصر على تمثيل مصالح أعضائه”، وهو الذي كان على حد وصف هالة يوسفي، مؤلفة كتاب “الاتحاد العام التونسي للشغل، شغف تونسي”، أكثر من مجرد اتحاد، لكنه أقل من حزب”.

وقد جاء أول صدام بين قيس سعيد والاتحاد العام التونسي للشغل في أعقاب إصدار المنشور رقم 20 في عام 2022، والذي يحظر على أي مؤسسة حكومية التفاوض مع النقابات دون إذن مسبق من الرئاسة. وبعد بضعة أشهر، سحبت الحكومة المنشور. ومع ذلك، استمر الضغط على الاتحاد، بل وتم اعتقال نقابيين ومحاكمتهم.

في متابعته للأزمة، كتب الباحث وأستاذ تاريخ العالم العربي المعاصر بجامعة باريس الثالثة، عادل لطيفي في تدوينة معتبرا أن “الرهان الوحيد الذي يجب أن يتمحور حوله اليوم أي تحرك لتغيير وضع الاتحاد العام التونسي للشغل هو مسعى السلطة لضرب المنظمة وضرب العمل النقابي ومن ورائها حقوق الأجراء. فقط لا غير هذا الرهان يفرض نفسه الآن. من يعتبر أن سياق ضرب الحريات والحقوق وضرب المؤسسات التي تمثلها اليوم، وعلى رأسها المنظمة الشغيلة، هو سياق ملائم للإصلاح، فسيجد نفسه، عن قصد أو لا، بصد ضرب الاتحاد لا إصلاحه. بل ربما يكون “الإصلاح” و”الديمقراطية” الداخلية مجرد مداخل لذلك.

وفي رأي منذر ثابت من “الضروري الذهاب إلى مؤتمر أمر حتمي لحسم هذا التناقض الذي شل الاتحاد… الاتحاد اتخذ موقفا داعما لمسار 25 جويلية وقطع مع منظومة ما قبل 25 جويلية، وهو الذي كان دائما المستفيد من صراعات السلطة وتناقضات الساحة السياسية، يبدو أن هذه الاستفادة وصلت إلى مستوى من العطالة الوظيفية، لم يعد بإمكان الاتحاد أن يؤدي دور تحكيمي ومرجعي في الساحة”، وهو الآن وبلا شك “يمر بأزمة وجودية تحتاج إلى تغليب صوت الحوار وإلى استحضار “الحكماء” لتجاوزها وللحفاظ على هذا “الصرح” التاريخي النقابي.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here