إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. في هدوء تام، مرت الذكرى الـ14 لثورة “14 يناير 2011”. خلت الشوارع من مختلف المظاهرات الشعبية ومن الناس الذين استغل أغلبهم اليوم باعتباره عطلة للاستكانة إلى الراحة بعد أسبوع مرهق قضته العائلات في التحضير للامتحانات.
في السنوات الماضية، كانت الشوارع تعج بالمتظاهرين من مختلف الأعمار والمشارب والطبقات. اليوم، هناك حركية لكن الأمر لا علاقة له بالثورة بل بأيام قرطاج السينمائية، فيما عدا ذلك تحولت هذه الذكرى إلى مناسبة رسمية بروتوكولية.
لكن، ما الذي تغيّر في تونس منذ 17 ديسمبر 2010 /14 يناير 2011، سؤال يتردد صداه وسط المدن والشوارع التي شهدت انفجار بركان غضب التونسيين، وقد طرحناه بدورنا على مواطنين التقينا بهم في الشارع وبعض السياسيين والنواب.
وأجمع أغلبهم على أن تونس حققت، منذ أن حرق محمد البوعزيزي جسده خطوات هامة باتجاه ترسيخ نظام تكون فيه الحقوق والحريات الجماعية والفردية مضمونة، لكن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، دون استثناء، لم تنجح في ضمان الحد الأدنى المطلوب لضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين والوضع أصبح أكثر صعوبة وأكثر عتمة.
ووفق النائب عبد السلام الدحماني “قد يكون 17 ديسمبر لمجموعة محددة من التونسيين مجرد لحظة زمنية غيرت المشهد السياسي ولم تغير المشهد الاجتماعي.. وقد يكون 17 ديسمبر لمجموعة أخرى مجرد لحظة ماضية يمكن استعادتها احتفاليا كعنوان لمرحلة جديدة لكن تبقى ذكرى وطنية خالدة تستعاد فيها الطقوس التي تمارس عادة في الاحتفالات الوطنية.. أو حتى وفي صورة مقلوبة مناسبة للتذمر والاحتجاج…”.
ويضيف الدحماني في تصريحاته لـ”أفريقيا برس”: “إلى ذلك يبدو أن التاريخ يظل مجردا من المعنى ومفرغا من الدلالة. ويبدو أن الأحداث الفارقة إذا ما بقيت في مستوى الاستعادة الاحتفالية تضمحل وتتلاشى وهو ما يعني أن قيمة الحدث التاريخي ليست في استعادته وإنما في المراكمة والإضافة ومحاولة الانجاز ورفع التحديات ومواجهة الصعوبات والخيبات على مرارتها”.
17 ديسمبر أم 14 يناير
أخذنا السيارة وقمنا بجولة في شوارع العاصمة، ونحن نردد تساءل النائب عبدالسلام الدحماني: “هل مازال لهذا التاريخ معنى في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس والصعوبات المعيشية للمواطن هل من بعد دلالي لتاريخ 17 ديسمبر؟”.
كانت الوجهة الرئيسية شارع الحبيب بورقيبة. في الطريق استوقفتنا أمام مدينة الثقافة احتفالية رسمية رفعت خلالها الأعلام وكورال يغني في مدخل المدينة التي تحتضن فعاليات أيام قرطاج السينمائية، وهي فعالية لم تتضمن ضمن برامجها أي محور له علاقة مباشرة بما حدث قبل 14 عاما.
أسباب كثيرة تقف وراء تراجع شعلة الثورة في الشارع التونس- وإن لم تخمد- لعلّ أبرزها التاريخ في حدّ ذاته. بالنسبة للتونسيين التاريخ الفصل هو 14 جانفي/يناير وليس 17 ديسمبر.
في 14 جانفي/يناير2011 سقط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي إثر انتفاضة انطلقت شرارتها يوم 17 ديسمبر 2010 في محافظة سيدي بوزيد بعدما أضرم البائع المتجول محمد البوعزيزي النار في جسمه احتجاجا على تعامل الشرطة البلدية معه.
ومنذ 2011 يحتفل سنويا ورسميا في تونس بيوم 14 جانفي عيدا وطنيا للثورة إلى أن قرّر الرئيس قيس سعيّد في سنة 2021 تغيير التاريخ إلى يوم 17 ديسمبر من كل سنة. ولم يؤيد الكثير من التونسيين هذا التغيير معتبرين أن الرمزية الأكبر للثورة ترتبط بسقوط نظام بن علي وخطابه الشهير ليلة 14 يناير 2011 وخروج الناس إلى شارع الحبيب بورقيبة.
سنة بعد سنة، لم يكن يمرّ ذكرى للثورة إلا والشارع يعجّ بالغاضبين والمحتجين والمطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.. واستمر الحال لسنوات إلى غاية يوم 25 جويلية 2021 حين أعلن الرئيس قيس سعيّد تجميد البرلمان وحلّ الحكومة، وقد بارك الكثير من التونسيين ذلك القرار ورأوا فيه استمرارية لجهودهم وتأثّرا بمظاهراتهم ضدّ الطبقة السياسية التي غلّبت مصالحها على مصالح البلاد والعباد.
لكن، منذ ذلك التاريخ، دخلت البلاد منعرجا آخر يمكن القول إنه أيضا من أسباب صمت الشارع التونسي في ذكرى الثورة.
أغلب قادة المعارضة يقبعون في السجن، فيما فقد بقيّتهم القدرة على تجييش الشارع وحمله على الخروج أفواجا كما حدث سابقا، وذلك بسبب فقدان الثقة بين الشارع والمعارضة وأيضا بسبب تضييق السلطة والجهات الرسمية فمجرّد التجمهر في مكان عام صار يعتبر “جريمة” يعاقب عليها القانون وأية مسيرة تحتاج إلى ترخيص مسبق من الجهات البلدية والأمنية المعنية.
وتقول ألفة البعزاوي، القيادية بحزب العمال، لـ”أفريقيا برس”: “لا نستطيع التحدث اليوم عن احتفال بذكرى 17 ديسمبر في ظل عدم تحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية حتى بعد الثورة في ظل حكم النهضة ونداء تونس، الأزمة الاقتصادية والاجتماعية احتدت أكثر بعد 25 جويلية. كذلك على المستوى السياسي نعتبر، في حزب العمال، أنه من أخطر لحظات الثورة المضادة هي لحظة 25 جويلية بسبب التراجع الكبير في مكاسب الحريات التنظيم والتعبير والمحاكمات التي تطال السياسيين والمواطنين بسبب المرسوم 54”.
وتضيف البعزاوي: “هناك تضييق كبير على الشأن العام والحياة السياسية، لذلك نحن نحيي هذه الذكرى اليوم مع دق ناقوس الخطر ودعوة إلى توحد الطيف التقدمي والديمقراطي للدفاع على المكاسب التي جاءت بها الثورة”.
كانت هناك حركية من نوع آخر في الحبيب بورقيبة. الشارع كان يعجّ بضيوف تونس من الممثلين والمخرجين والسينمائيين العرب والأجانب. وكانت هناك مجموعات من الشباب التونسي لكن لا علاقة له بالثورة، هو أساسا من جيل الثورة أي من أولائك الذين كانوا أطفالا يوم 17 ديسمبر وكبروا خلال فترة ما بعد سقوط النظام وما يحدث بالنسبة لهم أمر عادي وطبيعي.
لكن، كان هناك أيضا كهول وأجيال أخرى سبقت الثورة وعاصرتها وعاشتها بكل تفاصيلها. سألنا السيد فؤاد الرباعي، الذي كان بصدد احتساء قهوته في إحدى المقاهي على حافة شارع الحبيب بورقيبة، عن قراءته للوضع اليوم بعد 14 سنة من اندلاع شرارة الثورة.
ابتسم وهو يعدّل جلسته قائلا: “علينا أن نحمد الله على ما وصلنا إليه. شوفوا (شاهدوا) سوريا وليبيا… جات (أتت) على غلاء الأسعار هذا وضع عالمي ونحن لسنا استثناء”.. وأضاف مشيرا بيده إلى الشارع: “شوفوا (شاهدوا) ما أحلاها تونس.. يكفي هذا المشهد (الشارع وحركية المشهد الثقافي) لنقول إننا نجحنا رغم كل شيء”.
وبذات النفس التفاؤلي يقول المحلل السياسي باسل ترجمان لـ”أفريقيا برس”: “الشعب التونسي يحيي اليوم الذكرى 14 لثورة 17 ديسمبر وفي اعتقادي هناك حالة ارتياح شعبية رغم الأزمات التي عاشتها البلاد لكن كشف الملفات الخطيرة جدا للفساد التي عاشته تونس وكان مخفيا إلى فترة قريبة يعكس أن هناك توجه جدي من أجل أن يكون هناك تغيير حقيقي”.
ويضيف ترجمان: “الأزمة الاقتصادية ليست جديدة هي أزمة مسترسلة ومتواصلة جراء النهب والتوريط في القروض خلال العشرية الأخيرة لكن الإرادة في تغيير الواقع تبدو جلية رغم أن هناك أطراف في الإدارة التونسية تسعى لتعطيل وعرقلة هذا التغيير.. في اعتقادي الطريق مازالت طويلة لكن بوادر الانفراج بدأت تظهر. من خلال انخفاض نسبة التضخم وأسعار المواد الغذائية”.
لكن الأمر يختلف مع السيدة عربية، وهي امرأة في العقد الرابع من عمرها، كانت تجمع قوارير البلاستيك، قريبا من السوق المركزية بالعاصمة. تقول عربية وقد احتد صوتها بعد أن خنقتها عبرة البكاء: “قبل 14 عاما كنت مع الناس في الشارع.. حليت داري (فتحت أبوابي) للشباب الذي كان هاربا من البوليس.. استبشرت خيرا لكن اليوم ها أني أتجوّل في الشوارع أجمع القوارير والقمامة حتى لا أتحوّل إلى متسولة أو يموت أطفالي جوعا”.
“الثورة ربح منها الكبار.. أما نحن فلنا الله”، تقول عربية، بصوت عربية مرتفع، وهي تجر عربتها المليئة بالقوارير. يمر بجانبها شخص آخر سمعها وفهم موضوع الحديث، فابتسم وهمس حين مرّ بجانبنا: “هم قالوا عملنا ثورة”. (وهذه عبارة يرددها التونسيون حين يريدون التشكيك في شيء).
أي معنى للاحتفال؟
قبل 14 سنة، ثار التونسيون ضد الفساد لكن الفساد تضاعف، ثاروا ضد الغلاء لكن الوضع ازداد سوءا طالبوا بالعمل لكن نسبة البطالة في ارتفاع، ويضاف إلى ذلك ثقافات جديدة طرأت على المجتمع وحرية تحولت إلى فوضى، وتهديد إرهابي عاد لينفض الرماد من تحت نيرانه.
ويقول النائب بوبكر يحيى لـ”أفريقيا برس”: “الحقيقة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة وتداعيتها على المستوى المعيشي يصبح لا معنى للاحتفال بذكرى تتطلب الكثير من الحديث والتحليل”.
ويتساءل يحيى: “أو ليس 14 جانفي ذكرى أخرى لسقوط نظام كامل… التحرك كان للمطالبة بالشغل والحرية والكرامة الوطنية وكل هذه الشعارات لم تتحقق إلى حد الآن”.
يتردّد صدى تلك الأصوات المنتفضة على مسامعنا ونحن نتجول في شارع الحبيب بورقيبة وخيال أحداث ذلك اليوم تظهر وتختفي في مخيّلتنا، هل حقّا عشنا تلك الأحداث بكل ذلك الزخم. ذلك يوم لا ينسى.
مخاض الثورات يبقى سنوات وعقود لتتضح الصورة ويزهر ربيعها، وهذا ما يؤكّده عدد من الزملاء الصحافيين الذين صادفونا خلال جولتنا وكنا قد التقينا بهم قبل 14 سنة في نفس المكان تقريبا لكن بملامح مختلفة يكسوها بعض القلق فنحن، في تلك الفترة، لم نكن معتادين على مثل هذه المظاهرات التي تنادي مباشرة بسقوط النظام ومن أمام مبنى الداخلية. مهما كانت الأسباب لحظة انكسار حاجز الخوف ستبقى راسخة في الأذهان.
“17 ديسمبر لا ينبغي أن يتجلى إطلاقا في ما تقدم بل يجب أن يكون انفتاحا على المستقبل وبناء مستمرا لوطن يتسع للجميع وأن يكون له زخمه القيمي الذي ينشد العدل والكرامة والحياة الكريمة”، على حد تعبير عبدالسلام الدحماني.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس