تونس بحاجة إلى تعديل مسار بوصلتها نحو العمق الأفريقي

38
تونس في حاجة إلى تعديل مسار بوصلتها نحو العمق الأفريقي
تونس في حاجة إلى تعديل مسار بوصلتها نحو العمق الأفريقي

إلهام اليمامة

أفريقيا برس – تونس. صدرت في الأيام الأخيرة عن مسؤولين تونسيين تصريحات تشدّد على أهمية علاقات تونس بمحيطها الإقليمي (المغاربي/الإفريقي)، في سياق يرى خبراء ومحللون أنه محاولة لتصحيح مسار العلاقات بين تونس ومحيطها الأفريقي بعد توترات أثارها ملف الهجرة غير الشرعية ووصلت ببعض التقارير أن قالت إن “تونس في عهد قيس سعيّد تدير ظهرها لأفريقيا”، القارة التي أعطتها اسمها.

اليوم، تونس، وكما قال الدبلوماسي السابق عبد الله العبيدي والباحث والمؤرّخ لطفي عيسى، في تصريحاتهما إلى “أفريقيا برس” بحاجة إلى تحيين علاقتها مع الدول الأفريقية والبناء على رصيد هام ممّا تحقّق في السابق من اتفاقيات وتعاون في وقت تشهد فيه القارة تنافسا وتزاحما من مختلف الجهات للتواجد والحضور والاستفادة من خيراتها وثرواتها.

أفريقيا التي نريد

خلال افتتاح الدورة العادية الخامسة لأشغال اللجنة الفنية المتخصصة للوظيفة العمومية والجماعات المحلية والتنمية الحضرية واللامركزية، في العاصمة تونس، أكّد رئيس الحكومة كمال المدوري على أن بلاده منخرطة في الاستراتيجيات الإفريقية.

وقال المدروي: “تونس تنخرط كليا في الاستراتيجيات والتحديات الإفريقية تأكيدا لانتمائها في محيطها الإفريقي ودعم مسار مقاومة الاستعمار والتمييز العنصري والانفتاح على قيم العمل متعدد الأطراف على قاعدة المصالح المشتركة”.

في ذات السياق تنزّل تصريح وزير الشؤون الخارجية محمد علي النفطي حيث شدّد على استعداد تونس للتعاون مع هياكل الاتحاد الإفريقي في شتى الميادين بما يدعم مشروع الاندماج الإفريقي وتفعيل أجندة الاتحاد الإفريقي 2063 “أفريقيا التي نريد”.

وأجندة 2063، هي إستراتيجية للتحول الاقتصادي والاجتماعي للقارة على مدار 50 عاما القادمة. ووصف الاتحاد الأفريقي هذه الرؤية بأنها “خارطة طريق جريئة وطموحة لتحوّل أفريقيا. وهي تعبير عن الإرادة الجماعية وتصميم الشعوب الأفريقية على تشكيل مصيرها”.

لا شكّ في أن تونس، التي كانت من الأعضاء المؤسسين لمنظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي)، مدعوة للمشاركة بزخم في تحقيق هذا الحلم وتحويل هذه الرؤية إلى واقع في ظل المتغيرات الدولية وتصاعد التنافس الاستراتيجي في القارة.

أشاد الدبلوماسي التونسي السابق عبد الله العبيدي، بـ”علاقات تونس العريقة مع محيطها الإفريقي”. وقال في تصريحات لـ”أفريقيا برس”: “كانت لدينا لجنة في وزارة الخارجية تهتم بمحيطها وتونس من مؤسسيي منظمة الوحدة الأفريقية. وهي من الدول التي التزمت بالفعل بالحياد الحقيقي ولم تنخرط لا في المعسكر الغربي ولا الشرقي. كانت دائما تكيّف علاقاتها حسب مصلحة شعبها بالأساس”.

وهذا الحياد، الذي يتصدّر مبادئ الدبلوماسية التونسية، مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى، ويؤكد على ذلك عبد الله العبيدي، مشددا على أن “علاقات تونس الخارجية بحاجة إلى تقوية وتحيين لتحقيق التوازن الحركي كما يقول بورقيبة، خاصة في هذا المرحلة مع تشكيل خارطة جيوسياسية جديدة، وهناك تعويل كبير من قبل القوى الكبرى على أفريقيا خاصة بتواصل الحروب في أوروبا والشرق الأوسط”.

من هنا، تستمد تصريحات المسؤولين التونسيين عن التعاون أهميتها، والمضي قدما في تحقيق ذلك يدعو تونس إلى مراجعة علاقاتها مع دول القارّة الإفريقية وتجاوز تأثيرات الأزمة التي طرحت مع بعض الدول بسبب ملف المهاجرين غير الشرعيين.

روابط تاريخية

العلاقات التونسية الأفريقية متجذّرة في القدم. وترسّخت بشكل أعمق بعد استقلال تونس ضمن سياسة اتبعها الرئيس الأسبق الراحل الحبيب بورقيبة تجاه العمق الأفريقي والتي ترجمتها مشاركة تونس في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية. وكانت عاصمة لعديد المؤسسات والمؤتمرات الأفريقية. وكانت للرئيس بورقيبة، ولوزرائه، عدة زيارات لعواصم أفريقية ووطد علاقاته بزعماء دول أفريقيا الغرب الناطقة بالفرنسية بشكل خاص.

ظلّت العلاقات التونسية الأفريقية محلّ تميّز وتقدير متبادل في عهد زين العابدين بن علي، وحتى بعد سقوط نظامه في 2011، ففي عهد المنصف المرزوقي صدر قرار بتسهيل إجراءات الحصول على التأشيرات للأفارقة للدخول إلى تونس، وأيضا مع خلفه الباجي قائد السبسي الذي صدر في عهده كتاب «البعد الإفريقي في السياسة الخارجيّة التونسية (1956 – 1986)». وكتب الباجي مقدّمته التي جاء فيها: “آن الأوان للقيام بمراجعة عميقة لسياسة بلادنا تجاه القارّة الإفريقية وتطوير التعاون مع البلدان الواقعة جنوب الصحراء شرقا وغربا”.

لكن، عوض العمل بهذه الوصية، شهدت العلاقات التونسية الأفريقية توتّرا غير مسبوق وذلك على خلفية تصريحات أدلى بها الرئيس قيس سعيد (2023)، في ذروة أزمة هجرة غير شرعية وتدفق أعداد كبيرة من مهاجرين أفارقة إلى تونس.

وقال سعيّد حينها، – وفي تلك الفترة طغت على خطاباته وتصريحات نظريات المؤامرة-، إن “جحافل المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء تدفقوا إلى تونس” ضمن ما اعتبره “ترتيبا إجراميا” لتوطين المهاجرين الأفارقة في بلاده، بهدف تغيير تركيبتها الديموغرافية كـ “دولة عربية وإسلامية”.

ونددت منظمات حقوقية تونسية وإقليمية بتصريحات الرئيس التونسي ووصفتها بـ”العنصرية”. ودان الاتحاد الإفريقي في بيان له ما جاء في تصريحات قيس سعيد، فيما دعت دول أفريقية مواطنيها في تونس إلى العودة وسخرت مالي وغينيا والغابون وساحل العاج رحلات إجلاء جوية.

واعتبرت الانتقادات أن تصريحات الرئيس التونسي تأتي ضمن اتفاق الهجرة الذي وقّعه مع الأوروبيين وبشكل خاص مع إيطاليا، وسط تحذيرات من أن هذه السياسة ستحرم تونس من خصوصية علاقتها بالقارة.

وفي مسعى لتهدئة الأوضاع، سارعت وزارة الخارجية التونسية إلى الردّ ورفضت ما ورد في بيان الاتحاد لأفريقي من عبارات واتهامات، قالت إنه “لا أساس لها من الصحة”. واعتبرت الخارجية التونسية، أن موقف المفوضية بني على فهم مغلوط لمواقف السلطات التونسية، وأسفت لما وصفته “بالخلط غير المبرّر بين المهاجرين الأفارقة، الذين يعيشون بسلام تحت حماية قوانين الدولة التونسية، وبين الجماعات غير القانونية التي تتاجر بالبشر وتزج بهم في قوارب الموت”.

وبالمثل، اعتبر قيس سعيّد أن من “اتهموه بالعنصرية يبحثون عن الفرقة والفتنة والمساس بعلاقاتنا بأشقائنا الأفارقة”. وبعد ذلك عمل الرئيس التونسي في عدة مناسبات على التأكيد على “ضرورة أن تكون الدول الإفريقية شريكا فاعلا، فالقارة الإفريقية تعج بالثروات والخيرات وشعوبها تتطلع إلى مستقبل جديد يقطع مع الماضي وآلامه”.

وسعت تونس إلى تأكيد ذلك خلال مشاركتها مؤخّرا في أشغال الدورة العادية 19 للمؤتمر الوزاري والدورة العادية 23 لقمة السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (الكوميسا) في بورندي (29 – 31 أكتوبر 2024).

وكانت تونس انضمّت رسميا إلى (الكوميسا) في يوليو 2018. ولقيت تلك الخطوة ترحيبا باعتبارها تقوي الحضور التونسي في السوق الإقليمية. ووصف سفير تونس بكينيا أنور بن يوسف، في تصريحات إذاعية، “القرار السياسي” القاضي بانضمام تونس للكوميسا بأنه “قرار صائب”، باعتبار أهمية هذه السوق وبشكل يفتح آفاقا أكبر لتعزيز مستوى التبادل التجاري بين تونس والدول الأفريقية، خاصة بلدان أفريقيا جنوب الصحراء.

لكن، ولتفعيل هذا التوجه، تحتاج تونس إلى تقوية حضورها الدبلوماسي في القارة الأفريقية. وكان وزير الخارجية التونسي كشف، خلال جلسة عامة بالبرلمان، في نوفمبر الماضي، أن “الانتشار الدبلوماسي التونسي يعتمد على 60 سفارة موزعة في كافة أنحاء العالم”، لافتا إلى أنه “من بين هذه السفارات 18 سفارة في العالم العربي و22 في أوروبا و7 في آسيا و5 في أميركا و10 في أفريقيا جنوب الصحراء موزعة على 48 دولة، إضافة إلى 23 ما بين قنصليات وقنصليات عامة”.

وأكّد الوزير أنّه “على وعي بأنّ هذا الانتشار الدبلوماسي لا يفي بالحاجة، ولا يمكن أن يحقق الأهداف المرجوة من سياساتنا الخارجية، ولكن تونس حريصة على توسيع تمثيلها الدبلوماسي متى توفرت الظروف الملائمة لذلك”.

وفي تصريحات لـ”أفريقيا برس”، قال المؤرخ التونسي لطفي عيسى، أحد المساهمين في تأليف كتاب «البعد الإفريقي في السياسة الخارجيّة التونسية (1956 – 1986)»، إن تونس اليوم بحاجة إلى “استغلال رصيدها الهام من الاتفاقات مع الدول الإفريقية، والاستفادة من مكانتها، وهي التي كانت من أبرز داعمي حركات التحرر الوطني، وكانت حاضنة حقيقية لحركة التحرر في جنوب أفريقيا”.

نفس جديد

يوضح لطفي عيسى أن “تونس كانت تخير العلاقات الثنائية على العلاقات الجماعية، ولم تكن منخرطة بشكل كاف في العمل الجماعي الخاص بمنظمة الوحدة الأفريقية”، لافتا إلى “أن الجانب الثنائي قوي جدا وقد كانت المرحلة تستوجب هذا النوع من العلاقات في ظل القطبية خاصة في زمن المعسكرين الشرقي والغربي، لذلك كان التوجه أكثر نحو أفريقيا الغربية بحكم اللغة الفرنسية”.

لكن، اليوم “هذه العلاقات يجب أن تأخذ نفسا جديدا وتعمل تونس على تطويرها بنسق أسرع، والبناء على ما تحقق وخاصة على الاتفاقيات والمعاهدات التي تم توقيعها منذ الاستقلال مع الدول الأفريقية وتفعيلها بشكل يسمح لتونس أن تعيد صياغة حضورها واستغلال فرصها الجغرافية والسياسية والاقتصادية والثقافية والتاريخية”.

جغرافيا، تتمتع تونس بموقع يتيح لها أن تكون رابطا بين أوروبا وأفريقيا جنوب الصحراء، وجسرا تجاريا مع الجنوب. وعلى المستوى السياسي تحظى البعثات التونسية بتقدير خاص نظرا لحرصها على التمسك بمبدأ صفر تدخل في الشؤون الداخلية للدول؛ فيما يعتبر الموظفون التونسيون، خاصة في القطاع الطبي، ورجال الأعمال محل تبجيل من الشركاء المحليين. وكان للمؤسسات العمومية، خاصة شركة الكهرباء والغاز حضور مؤثر في أفريقيا.

ويضيف لطفي عيسى أنه كان يمكن لتونس أن تكون رابطا بين بلدان الخليج وبلدان المشرق والبلدان الإفريقية ويمكّنها موقعها من أن تعيد صياغة المشاريع على مستوى رابح-رابح ورصد تمويلات في مواجهة الحضور الصيني والتركي والإسرائيلي إلى جانب الحضور التقليدي الفرنسي والأميركي.

ووفق الدبلوماسي التونسي السابق عبد الله العبيدي “لدى تونس كفاءات قادرة على تحيين العلاقات مع المحيط الإفريقي وترتيب الأولويات بما ينسجم ومصالحها الإقليمية والدولية”.

إلى جانب ذلك، تملك تونس ميزة هامة تقوي علاقتها بأفريقيا، وهي عضويتها دول اتحاد المغرب العربي، هذا التكتّل الذي يعاني من حالة جمود يؤكّد محللون أن كسره يساهم بشكل كبير في خلق ديناميكية خاصة للعلاقات المغاربية (الأفريقية) -الأفريقية ضمن رؤية “أفريقيا التي نريد”.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here