إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. دخل أهالي مدينة أم العرائس بولاية قفصة في الجنوب الغربي لتونس، في إضراب، احتجاجا على “تدهور” البنية التحتية فيها، ذلك عقب حادث مرور أودى بحياة عدد من أبناء المنطقة التي تعرف بـ”الحوض المنجمي” وتعتبر واحدة من أكثر المناطق “سخونة” وإثارة لقلق الأنظمة في تونس على مدار التاريخ.
ووصف فيصل حمدي، مسرحي وناشط في المجتمع المدني من مدينة قفصة، وشارك في الوقفة الاحتجاجية التي صاحبت الإضراب في أم العرائس، الاحتجاج بـ”الناجح”، لافتا في تصريحات لـ”أفريقيا برس”، إلى أنه “حان الوقت لتحقيق مطالب سنة 2008.. كان واضحا اتفاق الناس وتراص صفوفهم… والقرار يعود إلى رئيس الجمهورية لا إلى وزير ولا وال (محافظ)”.
وقال إبراهيم الدرغوثي، مدير مدرسة أم العرائس ومن المشاركين في الإضراب، لـ”أفريقيا برس”: “احتجاجات الحوض المنجمي مشروعة جدا، لأن المنطقة أهملتها فرنسا في عهد الاستعمار وأهملتها الدولة بعد الاستقلال، إهمالا تاما. منطقة أم العرائس مهمشة ومهملة وشبيهة بمدن موت، وقد ذكّرنا الحادث الأخير بذلك. الطرقات كارثية رغم ما يدره الحوض المنجمي”.
وكان أهالي المنطقة فجعوا بحادث مرور بين حافلة لنقل الركاب وشاحنة لنقل الفوسفات أودى بحياة ستة أشخاص وجرح تسعة. وما أثار غضب الأهالي واحتجاجهم، ضعف البنية التحتية حيث اضطرت الحماية المدنية لتوزيع الجرحى وجثث المتوفين على أكثر من مستشفى في مدن أخرى بعيدة عن المنطقة، ما أتعب أهالي الضحايا وأثار حنقهم.
وتفاعلا مع حالة الاحتقان، أعلنت النقابات الأساسية التابعة للإتحاد العام التونسي للشغل عن إضراب عام في معتمدية أم العرائس. وقال محمد عبدالوارث، أحد أهالي أم العرائس، لموقع “أفريقيا برس” إن “الحركة التجارية والإدارية توقّفت في البلاد، حيث أغلقت المؤسسات العمومية وحتى العديد من المتاجر والمحلات. وتوقفت الدروس في المدارس، فيما اقتصرت الخدمات بالمستشفى المحلي على قسم الطوارئ فقط”.
وأوضح الأمين العام الاتحاد الجهوي للشغل محمد الميراوي، في تصريحات صحفية، أن الإضراب جاء احتجاجا على تهميش المنطقة “التي لا تزال تفتقر إلى المعدات الأساسية والضرورية لمواجهة الكوارث”. وأضاف الميراوي أن “مدينة أم العرائس مدينة منجمية وتحتوي على الكثير من المناجم، ويجب أن تكون من بين المناطق الأولى التي تمتلك العناصر الأساسية على الأقل”، فيما لخّص فيصل حمدي الصورة بقوله لـ”أفريقيا برس”: “العرق والعمل في المناجم والمال في العواصم”، في إشارة إلى عدم تمتع المنطقة بعائدات الفسفاط.
ذات الأمر يؤكّده محمد عبدالوارث لـ”أفريقيا برس”، وهو ستيني متقاعد من شركة فسفاط قفصة، حيث أشتغل كغيره من سكان مدن أم العرائس والرديف والمتلوي والمظيلة، في مناجم الفسفاط، وهي تقريبا مجال العمل الوحيد المتوفر في المنطقة.
وكان الاتحاد الجهوي للشغل قد دعا السلطات إلى توفير أسطول “محترم” من وسائل النقل العام، وإنشاء مركز للحماية المدنية في أم العرائس التي يقطنها 40 ألف ساكن، فضلا عن تزويد المستشفى المحلي بالمعدّات اللازمة.
ويوضح عبدالوارث أن الأوضاع لطالما كانت المنطقة مهمّشة ولم تتمتع بعائدات الفسفاط الضخمة.
وازداد الوضع منذ ثورة جانفي 2011 فقد باتت الشركة، التي تأسست عام 1897 وكانت واحدة من أغنى شركات الدولة، تعاني الإفلاس والتهميش وأنهكها الفساد.
وكتبت الناشطة السياسية والمعارضة شيماء عيسى في تدوينة على صفحتها الرسمية: “…. أم العرايس ضحية التخاذل والنسيان والتقسيم غير العادل لكل شيء للبنية التحتية.. للنقل… للمياه.. للكهرباء… للصحة لكل شيء فعلا لكل شيء… كان مازال ثمة (وإذا هناك) مدينة اسمها أم العرايس وفيها حياة فهذا راجع لمتساكنيها المتشبثين بها ويقاومو (يقاومون) وفي كل مرة يدفعون الثمن باهض… وقتاش (متى) الدولة والسلطة باش تتلفت (ستلتفت) لام العرايس وتحد من الخسائر و تحمي الأرواح”.
مهد الثورة
تعتبر تونس من أهم منجي الفسفاط في العالم، وقدر إنتاجها بـ 8 ملايين طن من الفوسفات المستخدم كسماد في عام 2010، لكن تراجع ذلك إلى ما بين 2.7 و4 ملايين طن سنويا، بسبب الاضطرابات الاجتماعية المتكررة ونقص الاستثمار في المنطقة.
ويؤكّد محمد رشيد تاتي، وهو ناشط سياسي ومن سكان مدينة المتلوي، لـ”أفريقيا برس”، أن الحادثة الأخيرة بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس. واحتجاج الأهالي يجب أن يأخذ محل الجد من قبل السلطات فهذه المنطقة لا يستهان بها ولها تاريخ عريق في تحدّي الأنظمة منذ الاستعمار مرورا بحقبتي بورقيبة وبن علي، وحتى بعد 2011. وتعتبر أحداث الحوض المنجمي في سنة 2008، واحدة من أبرز الاحتجاجات في تاريخ المنقطة الحديث، وفي تاريخ المواجهة بين الشعب ونظام بن علي في فترة قوّته وقبضته المحكمة على البلاد.
وشهدت المنطقة مواجهات حامية بين الأهالي وقوات النظام التي استخدمت كل أواع العنف لمواجهة هذه الاحتجاجات السلمية التي دامت لأشهر وأسفرت عن مقتل عدد من الناشطين واعتقال العشرات من أبناء المنطقة ومن الناشطين الحقوقيين. وهناك من يعتبر أن هذه الأحداث هي البداية الحقيقية لثورة 14 جانفي، حيث ظلت المنطقة تشهد احتجاجات من وقت لآخر وغضب الأهالي لم يهدأ.
وقال محمد بن عثمان، عن فرع حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي بأم العرائس، إن “الفاجعة، التي ذهب ضحيتها ستة قتلى من معتمدية أم العرائس وعدد من الجرحى كانوا على متن حافلة متجهة نحو مدينة صفاقس أغلبهم طلبا للعلاج، كشفت حقيقة الوضع الذي تعيشه منطقة الحوض المنجمي ككل على مستوى تدهور الخدمات الصحية وتردي خدمات النقل العمومي ولجوء المواطنات والمواطنين للتنقل لمسافات طويلة في ظروف غير آمنة طلبا للعلاج”.
وقبيل هذه الحادثة بأيام قليلة، كان صدر عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية (يوم 13 فبراير 2025) بيان نقل دعوات أهالي مدينة الرديف لحصولهم على “الحق في الرعاية الصحية”. وجاء في البيان الصادر عن مكتب الحوض المنجمي أن “عشرات المرضى من أصيلي مدينة الرديف يقومون بتصفية الدم بصفة دورية بمعدل 3 حصص أسبوعيا يتنقلون خلالها إلى مدينة المتلوي التي تبعد حوالي 45 كم في ظروف صعبة ولا إنسانية سيما في فصل الصيف الذي تتضاغف فيه معاناتهم أضف إلى ذلك الوضعية المتردية للطريق بسبب شاحنات نقل الفسفاط”.
ودعا البيان وزارة الصحية والسلطات المعنية إلى توفير مركز للعلاج في المنطقة وايلاء الاهتمام بالبنية التحتية الصحية للحوض المنجمي عموم، الذي ضاعفت حالة جفاف غير مسبوق من تردي الأوضاع فيه.
وتكررت مثل هذه الدعوات وغيرها على مدار سنوات، لكن في كل مرة تفشل الإدارة المتعاقبة في تحقيق التوازن في التنمية بل إن الأوضاع في المنطقة، وبشهادة الأهالي ازدادت سوءا، والوضع قد يؤدي إلى انفجار لم يسبق له من قبل في ظل تفاقم الأزمة الاجتماعية والسياسية في البلاد.
ودعا مراقبون الرئيس قيس سعيد إلى عدم الاكتفاء بالدعم المعنوي والخطاب الذي يعترف بحقوق أهالي المنطقة والوعود الشفوية بالتنموية إلى المرور إلى مرحلة الفعل وتطبيق السياسات تجنّبا لأي تصعيد النظام والبلاد الآن في غنى عنه.
وخلال الأشهر الأخيرة شهدت المنطقة عدة احتجاجات وإضرابات، منها إضراب عمالي المنجم بالأقاليم الأربعة (الرديف-المتلوي-المظيلة-أم العرائس) يومي 25 و26 ديسمبر 2024 للمطالبة بتحسين الأجور. وقد سبِق هذا الإضراب بعض التحركات الاحتجاجية العمالية وسلسلة من المفاوضات بين شركة فسفاط قفصة والدولة والطرف الاجتماعي النقابي.
حقوق مهدورة
يشير الباحث في علم الاجتماع خالد طبابي، في دراسة حملت “عنوان إضراب عُمّال مناجم قفصة: حُقوق هادرة وسُلطة جاحدة”، صدرت عن المنتدى الاجتماعي والاقتصادي، إلى أنه “رغم الخطابات السياسية الرسمية بعد 25 جويلية 2021 والتي تؤكد على تطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية، إلاّ أنّ عمّال المناجم يعيشون على وقع تدهور اقتصادي واجتماعي وصحي في ظرفية ظلّت فيها شركة الفسفاط أحد مؤسسات النهب والإذلال”.
ويضيف خالد طبابي أنه رغم زيارات الرئيس قيس سعيّد “الميدانية وإقراره بتشخيص الأوضاع، لم تعرف شركة فسفاط قفصة ولا المجتمع المنجمي تحولا جذريا. حيث ظلّت القرى المنجمية غارقة في الوحل: تشكوا من البطالة واللاعدالة البيئية وهدر الموارد المائية وانتشار الغبار وكثرة الأمراض وهشاشة المرافق العمومية والبنية التحتية. وهكذا فإنّ النظام السياسي بعد 25 جويلية 2021 وبعد الانتخابات الرئاسية 6 أكتوبر 2024 لم يقطع مع المقاربات الاقتصادية السابقة وعجز في إيجاد حلول تقطع مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالقرى المنجمية”.
“الخطابات السياسية الرسمية حول الحوض المنجمي وأغلب القضايا الأخرى” تندرج، وفق الباحث التونسي، “ضمن خصائص الشعبوية الفريدة والتي من بينها اعتماد تعويذة الدلالات الفارغة أو التعويم وغياب البرامج الاقتصادية والتبعية للدوائر الامبريالية… لم يعرف عمّال المناجم طفرة اقتصادية سواء كان ذلك بعد سنة 2011 أو بعد 25 جويلية 2021، حيث تصاعدت مشاعر الحقرة والمظلومية بين البروليتاريا المنجمية”.
في المقابل، يرى المحلل السياسي باسل ترجمان أن النظام “يتعامل مع واقع ورثه وواقع موجود”، لافتا في تصريحات لـ”أفريقيا برس” إلى أن “المنطقة تم تجاهلها منذ 2011، كل الوعود التي أعطيت لأبناء الحوض المنجمي لم يقع تحقيقها، وبالتالي تواصلت الاعتصامات والاحتجاجات والغضب في تلك المنطقة، إضافة إلى أن الكثير من رعاة الفساد استفادوا واستغلوا تلك المنطقة لتحقيق مكاسب كبرى نذكر تماما كيف تم تعطيل عمل شركات الحوض المنجمي ونقل وإنتاج الفسفاط”.
لكن ذك لا ينفي وفق، ترجمان، أن “هناك أطراف تريد أن تستغل هذه الأزمات في محاولة العودة إلى المشهد السياسي، وأتحدث تحديدا عن أطراف نقابية وجدت نفسها خارج المعادلة جراء الأزمة النقابية التي يعيشها اتحاد الشغل، وفي تقديري كل طرف يريد الركوب على أزمة لأجل العودة سيكون هو الخاسر الأكبر لأن هذه الأزمات سيتم حلها لكن لن يكون شريكا في الحل لأنه كان شريكا في الأزمة”.
ويوافق عدد المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي ومن الغاضبين من الاتحاد العام التونسي للشغل هذا الرأي رافضين تدخّله في الأزمة، بل ذهب بعضهم إلى اعتبار اضراب الخميس “ركوبا على الأحداث في وقت يشهد فيه الاتحاد العام التونسي للشغل أزمة داخلية ناسفة”.
في المقابل، يردّ المؤيّدون من أعالي المنطقة أن الحركة النقابية والعمالية نشطة جدا في منطقة الحوض ولطالما كانت المحرك الرئيسي للاحتجاجات والمنظم لها. وعلى النظام أن لا يستهين بـ “غضب أبناء منطقة الحوض المنجمي” وأن لا يتحجج من جديد بـ”نظريات المؤمراة” و”الركوب على الحدث”، فحتى لو كان ذلك صحيحا فإنه لا ينفي تردي الأوضاع في المنطقة.
يؤكّد محمد عبدالوارث أنها كانت في الماضي البعيد (أيام الاستعمار) تلقب بباريس الصغرى (petit Paris) في إشارة إلى مدينة المتلوي التي تحولت اليوم إلى مدينة فارغة تفتقر لأدنى مقومات العيش وهي تضم مقومات سياحية هامة لم يتم استغلالها بشكل يجعل من السياحة رافدا اقتصاديا موازيا لإنتاج الفوسفاط.
ويحذّر المتابعون من تبعات حالة الإهمال المزمنة، التي لا تعني فقط احتجاجات بل لها تداعيات ديمغرافية وعمرانية واجتماعية أيضا، حيث ارتفعت معدلات الهجرة الداخلية من إقليم الحوض المنجمي إلى العاصمة تونس والمدن الكبرى.
وعلى غرار دعوة فيصل حمدي، يؤكّد إبراهيم الدرغوثي لـ”أفريقيا برس”: “يتوقّع أن تتعامل السلطة مع تداعيات الحادث الأخير كسابقاتها بإهمال، مع ذلك نأمل أن يتحرك الرئيس وينظر بعين الجدية لما يقع بحوض المنجمي، ولا ننسى أن احتجاجات الحوض المنجمي هي التي أطاحت ببن علي”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس