آمنة جبران
أفريقيا برس – تونس. مشروع الرئيس اكتمل، لكن مشروع تونس لم يكتمل اقتصاديًا واجتماعيًا”، بهذه العبارة قيّم سالم الأبيض، القيادي بحركة الشعب والوزير السابق، واقع المشهد السياسي في تونس، خلال حواره مع “أفريقيا برس”.
وأشار الأبيض إلى أن الوضع الحالي يستدعي توجه الرئيس قيس سعيد نحو حوار وطني شامل يجمع كل الفرقاء السياسيين لمواجهة الأزمات الداخلية والإقليمية. وأكد أنه “لا يمكن أن يقوم الحوار على الإقصاء، بل يتطلب الاعتراف بالمجتمع السياسي ودوره في معالجة القضايا الكبرى”.
واستبعد الأبيض أن “يراجع الرئيس قيس سعيد موقفه من الأجسام الوسيطة، لأن ذلك سيؤدي إلى تناقض الرئيس مع نفسه وفلسفته في الحكم، القائمة أساسًا على عدم الاعتراف بها”.
ولفت إلى أن “المؤسسات التي أفرزتها منظومة 25 جويلية كبديل للأحزاب، مثل المجالس المحلية والتنسيقيات وحتى الشركات الأهلية، لم تتمكن من ملء الفراغ السياسي الذي يعيشه الشارع التونسي. كما أنه لا يمكن إلغاء دور النخب التونسية في المشهد بجرة قلم، وهي عائدة لا محالة”، وفق تعبيره.
سالم الأبيض هو سياسي تونسي وقيادي بحركة الشعب، وأستاذ علم الاجتماع في الجامعات التونسية. شغل منصب وزير التربية في حكومة علي العريض من 13 مارس 2013 إلى 29 يناير 2024.
في ظل ما راج مؤخرا عن توجه الرئيس قيس سعيد إلى حوار وطني، هل تتوقع أن يمضي الرئيس في الحوار الوطني كآلية لحل الأزمة السياسية في تونس؟
الرئيس لم يتحدث بعد عن الحوار الوطني، وإنما تحدث عن “الوحدة الصماء”، وللرجل مفهومه الخاص للوحدة الوطنية الصماء، بأن يصطف خلفه أكبر قدر من الناس من مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية. وقد تبيّن أن الرئيس، بعد تجربة ناهزت 6 سنوات من الحكم لا يعطي مكانة للأجسام الوسيطة ولا يعترف بها ولم يشركها في إدارة الدولة، وهذه الأجسام هي الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني والنقابات العمالية وكل الروابط التي ينتظم فيها المجتمع بشكل أو بآخر، فكيف له أن يشرّكها في حوار وطني، فهو بذلك سيناقض نفسه وفلسفة حكمه.
لذلك أعتقد أن مفهوم الحوار الوطني لا يوجد في نظرية الحكم التي يعتمدها الرئيس قيس سعيد، وقد عبر عن ذلك بكل وضوح في السابق، عندما تحدث عن الحوار وطني الذي وقع تنظيمه سنة 2013 برعاية الرباعي الراعي للحوار، وبقبول من أغلب الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية والقوى المدنية، وقال عنه آنذاك “إن الحوار الذي يوصف بأنه وطني كما كان الشأن في السابق فلا هو حوار ولم يكن وطنيا على الإطلاق”، ما أدى إلى إثارة حفيظة الاتحاد العام التونسي للشغل، وردّ حسين العباسي الامين السابق للاتحاد مخاطبا الرئيس سعيد بالقول “أنت بقصر قرطاج رئيسا بفضل ذلك الحوار”.
وحتى لما انتظم الحوار الوطني المتعلق بالدستور سنة 2022، لم يكن ذلك الحوار إلا مضيعة للوقت وهدرا للمال، حيث ألقى الرئيس بمسودة الدستور المنسوبة لأستاذ القانون الدستوري صادق بالعيد بسلّة المهملات، وعرض على الاستفتاء وثيقة دستور خاصة به، وحين وقع الطعن في بعض تفاصيلها لم يحاور الرئيس أحدا، وإنما غير النسخة المنشورة في الرائد الرسمي يوم 30 جوان لما احتوته من اخطاء حسب اعترافه، بنسخة أخرى وعرضها على الاستفتاء وتم إقرارها في 25 جويلية 2022.
وبالتالي أعتقد أن الرئيس لم يتحدث عن حوار وطني، ولن يتحدث عن حوار وطني لأنه سيناقض رؤيته للحكم، وإذا اضطر إلى نوع من رص صفوف الجبهة الداخلية، فستكون مع مواليه وأوفيائه من الأحزاب السياسية، وهي أحزاب صغيرة لا تمثيلية لها، تؤيد مسار الرئيس وكل ما يتخذه من قرارات وما يعتمده من مراسيم وقوانين وسياسات وما يحدثه من تغييرات على الحكومات، وما يمارسه من سياسات خارجية، حتى وإن كانت متناقضة أو منتهية الاستخدام وغير قابلة للتطبيق، دون قيد أو شرط، وبدون نقد أو تحفظ.
ما هو المطلوب لجعل هذا الحوار ممكنا؟
الحوار الوطني يتطلب أولا الاعتراف، لا يمكن أن يقوم هذا الحوار على الإقصاء، والاعتراف جوهره سياسي بالأساس، أي أن يقع الاعتراف بمكونات المجتمع السياسي، وربما حتى المدني، وأن يكون حوارا وطنيا حول القضايا الكبرى. ومن شروط الحوار أن لا يُقصى إلا من أقصى نفسه، أو كان محكوما بأحكام قضائية باتة ومر بجميع مراحل التقاضي من الابتدائي إلى الاستئناف إلى التعقيب وثبت أنه مرتكب جريمة، وما عدى ذلك، فإن الحوار هو حق لكل من يرغب أن يشارك فيه، بقطع النظر عن التمثيلية، لأنه الآن لم نعد نعرف حجم التمثيلية الحقيقية لكل طرف سياسي في الحياة السياسية والمجتمعية التونسية.
هل تتوقع أن يراجع الرئيس قيس سعيد موقفه من الأحزاب والأجسام الوسيطة للذهاب إلى “وحدة وطنية صماء” كما تحدث عنها مؤخرا، أم يصعب ذلك خاصة أن مشروع الرئيس قائم بالأساس على إقصاء الأحزاب والتوجه مباشرة إلى الشارع؟
أعتقد أن الرئيس قيس لن يغير من موقفه تجاه الأجسام الوسيطة، وهذا ما كان ينظّر له طيلة الفترة الممتدة من 2011 إلى 2019، فلم تكن تلك الأحزاب، بالنسبة إليه، سوى منابر وأداة للوصول إلى كرسي الرئاسة، أما أن تشارك في الحكم وفي الحياة السياسية فالرئيس لا يعتقد في هذا المعتقد. من ناحية أخرى، فإن تجربة الرئيس في الحكم 2019 إلى 2025، بيّنت أن لا مكان للأحزاب لدى الرئيس، إلا في حدود تزيين قيادات أحزاب موالاة معيّنة بعض مجالسه دون الإعلان عن ذلك في صفحة الرئاسة بفيسبوك، أما على مستوى القبول بها كجزء من عملية الحكم أو المعارضة، والأخذ بأفكارها وتجاربها، لم يحدث طيلة السنوات الفائتة.
كيف تقيمون سياسة الرئيس التونسي بعد الانتخابات وتأثيرها على الوضع الداخلي؟
يمكن القول أن مشروع الرئيس قيس سعيد اكتمل، فقد وضع الدستور الذي يريد، وتم انتخاب المؤسسة التشريعية بغرفتيها البرلمانية ومجلس الجهات والاقاليم حسب ما وضعه من شروط، وتأسست الشركات الأهلية وطُبق الصلح الجزائي، وعاد القضاء مطيعا، وأصبح المرسوم عدد 54 مرجع النظر في السياسات الاتصالية والاعلامية وتشكلت الحكومات وتداول أعضاؤها ورؤساؤها وفق ما يريد الرئيس، ووضعت المؤسسات كلها تحت إرادته وإدارته، ولم تتبقّ إلا المحكمة الدستورية، ويمكن الرئيس أن يشكلها في جرة قلم، باعتبار أن تعيين أعضاءها يتمّ بالصفة حسب الدستور 25 جويلية.
ولكن يبدو أن الرئيس لا يضع المحكمة الدستورية من ضمن أولوياته في هذه المرحلة، رغم أن غيابها يشكل خطورة على الحياة العامة في تونس، باعتبار أنه في حال وقوع فراغ في الرئاسة لأسباب موضوعية (العجز أو الموت أو لأي سبب آخر)، فإن رئيس المحكمة الدستورية هو من يتولى الرئاسة لمدة 90 يوما حسب الدستور الجديد، ثم تنظم بعد ذلك الانتخابات الرئاسية، لذلك إذا وقع هذا الفراغ دون تشكيل تلك المحكمة، فإن البلاد ستجد نفسها في أتون أزمة دستورية حادة.
إذن مشروع الرئيس اكتمل، لكن مشروع تونس لم يكتمل اقتصاديا واجتماعيا، ودخول فكرة الحوار الوطني على الخط، هو بسبب عدم اكتمال مشروع تونس، وليس لعدم اكتمال مشروع الرئيس، كذلك الأزمة الاجتماعية والاقتصادية ما زلت حادة وخطيرة ومظاهره ندرة المواد وفقدانها وآخرها تلك المتعلقة بالغاز المنزلي. وما نعيشه في تونس هو أن المؤسسات التي أفرزتها منظومة حكم الرئيس قيس سعيد على المستوى السياسي، لتكون بديلة عن الأحزاب السياسية مثل التنسيقيات والمجالس المحلية والجهوية وحتى الشركات الأهلية، كل هذه المؤسسات لم تستطع أن تملأ الفراغ السياسي الذي يعيشه الشارع التونسي، ولم تستطيع أن تحقق ما نسميه في لغة علم الاجتماع “الضبط السياسي” للشارع والمجتمع في تونس. وفي هذا الوضع فإن المؤسسة الأمنية تجد نفسها تلعب دورا ليس من مهامها، وهو دور القيام بالضبط الاجتماعي والسياسي، في حين أن المؤسسة الأمنية يجب أن تكون في منأى عن الصراعات والتجاذبات ولا تدخل في المسالك السياسية المجتمعية الوعرة، وتكتفي بمراقبة وضبط الجانب الأمني فقط.
لقد تحقق للرئيس سعيّد ما أراد من إنهاء دور الأجسام الوسيطة وهذا من صميم مشروعه، لكن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تعطي الدليل على أن مشروع تونس لم يتحقق، وما تقوم به الحكومات التي جاء بها الرئيس من سياسات لا يتجاوز إطفاء إخماد نيران تلك الأزمات وبؤر التوتر.
كيف تقيم تأثير الأزمة الاقتصادية على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وما هي أهم الإصلاحات التي تعتقد يجب تنفيذها لإنقاذ الاقتصاد؟
في تقديري فإن قانون المالية يعكس السياسة الاقتصادية والمالية للدولة، ولا أرى أي إجراءات لصالح المطالب الاجتماعية في هذا القانون، لا نجد تخصيص مواطن شغل إلا لـ21 ألف من خريجي مدارس التكوين (الأكاديميات الأمنية والعسكرية ومدارس التعليم والصحة) من مجموع أكثر 600 ألف عاطل عن العمل، وحتى لما قرر الرئيس مؤخرا إدماج دفعة من الأساتذة والمعلمين النواب فقد اتخذ قراره خارج قانون المالية، ولا ندري من أين ستأتي الحكومة بالموارد المالية لتغطية هذه الانتدابات الجديدة غير المبرمجة في ميزانية 2025. ولا أرى أن قانون المالية القائم على ثنائية الجباية والتداين، قد تضمن إجراءات اجتماعية لمقاومة البطالة أو الحد من الفقر وغلاء الأسعار، أو برامج تنموية، وهو ما يعكس غياب السياسات الاجتماعية الحقيقية، وفي تقديري فإن قانون المالية هو قانون سيء جدا، وقانون للتفقير وقتل المبادرة لخلق الثروة.
كوزير تربية سابق، ما هي قراءتكم لقرار تسوية ملفات المدرسين في تونس مؤخرا، هل هو ذكاء سياسي أم ضرورة اجتماعية لقطع الطريق أمام أي أزمة اجتماعية قد تؤدي إلى توتر بالبلاد؟
أعتقد أنه من حظ هؤلاء أنهم تحركوا مباشرة بعد التحولات التي حدثت في سوريا، وما حدث في سوريا تخشاه جميع الدول والحكومات العربية خوفا من أن ينتقل كبقعة زيت تنتشر في كل الاتجاهات، بالتالي أغلب الدول أخذت احتياطاتها، حتى فكرة الحوار الوطني في تونس ودول عربية أخرى مثل مصر والجزائر برزت بعد أحداث سوريا. وبرأيي فإن عملية انتداب المدرسين دون سابق إدراج بميزانية الدولة لسنة 2025، لا يخلو من محاصرة عملية احتجاجية وحراك اجتماعي قد يتطور تحت تأثير معطيات داخلية أو عوامل إقليمية ودولية.
ما هي توقعاتكم للوضع الاجتماعي في تونس، وكيف يمكن التعامل مع الاضطرابات المحتملة، خاصة مع حديث المرصد التونسي عن ارتفاع وتيرة الاحتجاجات في المدن الداخلية مؤخرا، وكيف ترون الحل لتهدئة واسترضاء الشارع؟
في تقديري فإن الشأن التونسي هو شأن مشترك بين كافة التونسيين، وأعتقد كذلك أن الدول المتقدمة كلها تأخذ بآراء نخبها الفكرية والسياسية والمدنية وتجاربها التاريخية، وأعتقد أيضا أن التعدد والاختلاف في أي مجتمع لا يمكن أن ينفيه أي كان، وأرى أنه على السلطة الحالية وعلى الرئيس سعيد، إذا أراد أن يحمي تونس، وأن ينأى بها عن تداعيات الأزمات الإقليمية والدولية، هو أن يدعوا جميع الأطراف إلى طاولة الحوار لوضع تصور مشترك في هذه المرحلة وحماية بلدنا من هذه التبدلات السياسية السريعة في كل مكان، وقد تأتي بغتة، ولكي لا تأتي بغتة، أرى أنه على الرئيس سعيد، أن يجلس على طاولة الحوار مع كل الفرقاء السياسيين استعدادا لمثل هذه الأزمات، وحتى لا تتحول إلى وقائع خطيرة تهدد كيان المجتمع والدولة.
ويجب التذكير أن النخب التونسية هي نخب وطنية عريقة ولها تاريخ من النضال الفكري والسياسي المدني والنقابي له مكانة في المدونة التاريخية العالمية، ما يقارب 150 سنة، ولا يمكن اليوم إلغاء دورها بأي حال من الأحوال، وهي عائدة إلى المشهد لا محالة، والأفضل الاعتراف بها والاستئناس بآرائها، بدلا من اعتماد سياسة تقوم على تجاهلها ومعاداتها وإقصائها.
الرئيس استعاض عن النخب الوطنية السياسية وغير السياسية بالإدارة والحال أنها مجرّد أداة تنفيذ، كما الحال في كافة الدول المتقدمة، وبعد 6 سنوات من ولاية الرئيس وأربع سنوات من حكمه المطلق، مستخدما الإدارة والإداريين في تشكيل الحكومات وفي وضع السياسات، دون أن تتجاوز البلاد أزماتها، حانت ساعة المراجعة وتبديل المقاربات وإعادة السياسة إلى السياسيين، وإخلاء السجون من معتقلي السياسة والرأي والتدوين.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس