آمنة جبران
أفريقيا برس – تونس. نفّذ الأطباء في تونس خلال الأيام الأخيرة تحركًا احتجاجيًا أمام البرلمان، بالتزامن مع جلسة مناقشة ميزانية وزارة الصحة، وذلك تعبيرًا عن رفضهم لما وصفوه بتجاهل الوزارة لالتزاماتها السابقة.
وأوضح عبد الوهاب بن حامد، الكاتب العام للمنظمة التونسية للأطباء الشبان، في حوار مع «أفريقيا برس»، أن المنظمة تواصل نضالها النقابي المشروع للدفاع عن حقوق منظوريها، ولأجل تطبيق الاتفاق المبرم مع وزارة الصحة في 3 يوليو الماضي، الذي بقي، على حدّ قوله، «حبراً على ورق».
وأضاف بن حامد أن أبرز مطالب الأطباء الشبان تتمثل في تسوية المتخلدات المالية الخاصة بحصص الاستمرار، إضافة إلى تفعيل الزيادة المقررة في منحة الأطباء الشبان التي تراجعت عنها الوزارة، معتبرًا أن هذا الموقف «يعكس استهانة بحقوق الأطباء الشبان ومطالبهم المشروعة».
وفي قراءته لإصلاح قطاع الصحة المنهك، شدّد الكاتب العام على أن الانتقال من قطاع عمومي هشّ إلى قطاع فعّال يتطلب «رؤية وطنية واضحة، وإدارة قائمة على البيانات، واستثمارًا ذكيًا وموجّهًا، وحماية للموارد، وإعادة الاعتبار للمستشفيات العمومية باعتبارها ركيزة للدولة الاجتماعية».
بما أنكم الكاتب العام للمنظمة الوطنية للأطباء الشبان، ماهي أبرز مطالب الحراك الاحتجاجي الأخير الذي وقع تنظيمه أمام البرلمان التونسي؟
التحرك الأخير أمام مقر مجلس نوّاب الشعب هو استمرار طبيعي لتحرك “تمرمدنا”الذي خضناه بين شهري أفريل وجويلية 2025، والذي أسفر عن إمضاء محضر اتفاق يحتوي على جملة بنود واضحة وصريحة، ورغم متابعتنا الدؤوبة وحرصنا على فتح أبواب الحوار، واصلت وزارة الصحة تجاهل التزاماتها، وبقي الاتفاق حبر على ورق، ومطالبا تتمثل في:
أولاً: المطالبة بخلاص المتخلدات المالية بخصوص حصص الإستمرار، والتي نصّ عليها محضر الاتفاق، حرفياً لا تزال دون تنفيذ وزملاؤنا محرومون من حقوقهم ومستحقاتهم المادية، بما في ذلك حصص الاستمرار، التي يعود بعضها إلى سنة 2020،وهو ما يمثل إخلالاً واضحاً بالاتفاق.
ثانياً: التنكر للزيادة الخصوصية في منحة الأطباء الشبان ومحاولة إدماجها ضمن الزيادة العامة للوظيفة العمومية يعكس تجاهلاً صريحاً لما نص عليه الاتفاق، ويظهر استهانة الوزارة بحقوق الأطباء الشبان ومطالبهم المشروعة.
ثالثاً:عدم إصدار الاتفاقية الخاصة بسنة الخدمة المدنية، حيث حرّم زملاءنا من حقوقهم في الإعفاء أو التأجيل أو البقاء على نفس مقر السكن بإجراءات واضحة ومؤسسة بعد حوار شمل جميع المتداخلين في الموضوع (وزارة الصحة وممثلي وزارة الدفاع وعماد الأطباء والمنظمة التونسية للأطباء الشبان ) وهو ما يفاقم الأزمة ويزيد الإحباط داخل المنظومة.
وبعد مراسلات عديدة للوزارة دون أي تجاوب لم يكن أمامنا سوى الانتقال إلى المرحلة الثانية من التحرك، للمطالبة بتنفيذ اتفاق جويلية 2025، الذي كان نتاج حوار وطني حقيقي. وللأسف، تخلي وزارة الصحة عن التزاماتها، وتخلي عمادة الأطباء عن أمانة الوساطة، دفعنا مرة أخرى إلى الشارع، دفاعاً عن حقوق الأطباء الشبان وفرض احترام الاتفاق الممضى. وهذا التحرك رسالته واضحة: لن نتراجع عن الدفاع عن حقوق منظوري المنظمة، وسنواصل كل أشكال النضال النقابي المشروع حتى يتم تنفيذ الاتفاق كاملاً وبدون أي تجزئة.
رفعتم في التحرك الاحتجاجي شعارات مثل “وعود كاذبة” و”استغلال الأطباء الشبان”، كيف ترى تعامل الحكومة مع مطالبكم؟
يمكن طرح الحوار والخطاب، الذي صدر عن وزير الصحة في مجلس نواب الشعب يوم 19 نوفمبر الجاري، كنوع من التخلي على الإتفاق الذي كان نتيجة لنضالات الأطباء الشبان، وعليه، تؤكد المنظمة أنّ ما قُدّم بخصوص الزيادة في المنحة الشهرية للأطباء الشبان يتضمن مغالطة واضحة، إذ أنّ هذه الزيادة لا تندرج ضمن ما يُسمّى بالزيادة في الوظيفة العمومية أو تعديل الأجور، كما ورد على لسان الوزير بل هي نتيجة مباشرة لنضال الأطباء الشبان والتفاوض المستمر مع الوزارة بشأن زيادة خصوصية في منحة الشهرية وتحديداً في منحة الأكل والغذاء، ويعدّ إنكار هذا أو التقليل من شأنه فعلًا غير مقبول ويعكس عدم جدية الوزارة في الالتزام بعهودها تجاه منظوريها.
كذلك من منطلق متابعة مدى الالتزام بتنفيذ الاتفاق، تسجّل المنظمة أنّ مسألة خلاص المستحقات المالية للمتربصين الداخليين والمقيمين عن حصص الاستمرار ما تزال معلّقة، وأن الجزء الأكبر من المتخلّدات بالذمة لم يُسدد، رغم التذكير المتواصل والتنصيص الصريح على ذلك داخل الاتفاق، ويُعدّ هذا الملف مؤشرًا واضحًا على تعطّل تنفيذ الاتفاق؛ ما يوضح أنّه لا يمكن تقديمه للرأي العام باعتباره «منجزًا» بينما الواقع الميداني يعكس عكس ذلك.
أما، فيما يخص سنة الخدمة المدنية، تبيّن المنظمة أنّ الاتفاقية التنظيمية الخاصة بهذا المسار لم تصدر بعد، على الرغم من أنّها تمثّل عنصرًا أساسيًا في تنفيذ اتفاق 3 جويلية وفي هذا الإطار، تدين المنظمة أيضًا توصيف بعض الزملاء باعتبارهم «حالات اجتماعية»، مؤكدة أنّ الوضعيات المعنية وجب أن تخضع لإطار قانوني وترتيبي واضح يمنح أصحابها حق الإعفاء أو التأجيل أو الإبقاء على مقر السكن، دون أن تقلّل أي تصنيفات من قيمة هذا الحق أو تحيد به عن طابعه المهني والمؤسساتي.
ماهي تحركاتكم في حال لم تلتزم الحكومة بالمفاوضات الاجتماعية الخاصة بقطاع الصحة؟
في حال لم تلتزم وزارة الصحة بالإتفاق الذي تم إمضاءه في جويلية 2025 بوساطة عمادة الأطباء، وبعد الوقفة الحاصلة يوم 19نوفمبر 2025 ؛تقرر نقاش الخطوات القادمة بالعودة لمنظوري المنظمة التونسية للأطباء الشبان طلبة، أطباء داخليين ومقيمين، لتحديد الخطوات القادمة للتحرك من أجل ضمان تطبيق بنود الإتفاق. العادة في المنظمة التونسية للأطباء الشبان:تؤكد على ضرورة اختيار كل خطوة من تحركاتنا بالعودة للقواعد.
كيف يمكن النهوض بقطاع الصحة وتحسين وضعية الأطباء الشبان خاصة أنك وجهت انتقادات حادة للقطاع بسبب ظروف المستشفيات العمومية المتدهورة؟
للنهوض بقطاع الصحة العمومية في تونس أقترح رؤية تقنية مبنية على الواقع، وهذا رأيي الشخصي ككاتب عام منظمة الأطباء الشبان، والتي تتطلب جملة من الخطوات أبرزها:
أولاً:إصلاح الحوكمة بمنهجية قائمة على نتائج الواقع التونسي الذي يكشف أن أغلب المؤسسات الصحية تعمل بمنطق “إدارة الأزمة اليومية” لا بمنطق التخطيط، فأحيانا ملفات بسيطة مثل اقتناء مستلزمات الجراحة أو مواد التعقيم أو إصلاح مصعد تمرّ عبر مسار إداري معقد وهو ما يُعطّل الخدمات ويُرهق الإطار الطبي. الحل التقني يبدأ بإعطاء المستشفيات العمومية استقلالية تسيير شبيهة بما هو مطبّق في بعض المؤسسات الجامعية الكبرى، مع تحديد مؤشرات أداء إجبارية مثل:معدّل آجال المواعيد ؛نسبة جاهزية التجهيزات؛ نسبة تغطية الحراسة؛وقت الانتظار في الاستعجالي، كما يجب رقمنة المسار الاستشفائي بالكامل والتي تشمل: الملفات الطبية، نظام الحجز، التزويد، الصيانة في تونس اليوم تعمل بـ “أوراق كرتونية” في أقسام فيها آلاف المرضى سنوياً، وهذا غير قابل للاستمرار.
ثانياً: الإعتماد على الخرائط الصحية لتحديد النقص الجغرافي. مثلاً: بعض الولايات تُعاني نقصاً صارخاً في أخصائيي الإنعاش والأشعة، وبعض الولايات الأخرى تعاني من نقص في أقسام الولادة تعمل دون الحدّ الأدنى من التخدير، هذه المعطيات يجب أن تُترجم إلى توزيع ميزانيات مبني على بيانات (تساهم في رسم مسار الإنتداب والتجهيز وتحسين الموارد)، لا على معايير سياسية، ولا على “الميزانية العامة الكلاسيكية.”
ثالثاً: إستراتيجية موارد بشرية قائمة على معايير مضبوطة، اليوم الطبيب المقيم في أقسام الاستعجالي أو الإنعاش يشتغل أحيانا 120 ساعة في الأسبوع بسبب النقص الحاد في الموارد البشرية، مع عدد مهول من ساعات الإستمرار في الشهر، الطريقة التقنية الصحيحة لقياس الاحتياج هي استعمال المنهجية المستعملة في دول متقدمة ومنظمة الصحة العالمية. هذه المنهجية تحدّد: كم طبيب يلزم فعلياً في كل قسم ؛”أين تتركّز النقائص الحقيقية”. كما يجب إصلاح جذري لنظام الحراسة حتى يصبح قائماً على: تعويض عادل مرتبط بصعوبة القسم؛ ساعات عمل محددة بقانون مع احترام فترات الراحة، ولحماية الطبيب الشاب يجب تفعيل منظومة حماية قانونية واضحة عند الاعتداءات، مع توحيد الإجراءات بين الأمن والقضاء والمؤسسات الصحية.
رابعاً: تأهيل البنية التحتية وفق معايير الجودة والسلامة، فكثير من المستشفيات العمومية لديها مباني عمرها أكثر من 40 سنة، ولا تخضع للصيانة الوقائية. النتيجة:أعطاب متكرّرة في أجهزة السكانار؛نقص في أسرّة الإنعاش؛أقسام تعمل دون تدفئة أو تهوئة سليمة، والحل التقني هو اعتماد برنامج صيانة دورية إلزامية يمكّن من تجنب الأعطاب قبل وقوعها. إضافةً إلى:{تحديث غرف العمليات وفق معايير ؛إعادة تنظيم مسار الاستعجالي لتقليص الاكتظاظ، الذي بلغ في بعض الجهات درجات قصوى مثل استعجالي صفاقس ) ؛ العمل على إنشاء وحدات طبية جهوية متخصصة لتقليل الضغط على المستشفيات الجامعية.
خامساً: يجب اعتماد منظومة معلومات صحية وطنية قائمة على البيانات حيث تفتقر تونس اليوم إلى قاعدة بيانات موحّدة حول: عدد المرضى والموارد البشرية ونسب الإيواء وتشغيل المعدات.لذلك علينا إنشاء منظومة وطنية للمعلومات الصحية حتى نضمن: توجيه الميزانية حسب الأدلة مع تحديد النقاط السوداء والنقائص على حسب كل جهة وكل مستشفى، وتحسين التخطيط الوقائي ومتابعة الأدوية والمستلزمات بشكل لحظي، وهذا الإصلاح وحده كفيل بتقليص الهدر من الميزانية الحالية.
الخلاصة فان إصلاح الصحة ليس خطاباً، هو بناء منظومة بالكامل، حيث لا يمكن أن ننتقل من قطاع عمومي هشّ إلى قطاع ناجع إلا عبر: رؤية وطنية واضحة وإدارة تعتمد البيانات واستثمار ذكي وموجّه وحماية الموارد البشرية من” أعوان صحة ممرضين وتقنيين ساميين وأطباء وخاصة الأطباء الشبان”، وإعادة الاعتبار للمستشفيات العمومية كركيزة للدولة الاجتماعية، ويجب التذكير أن التجارب العالمية أثبتت أن المنظومة الصحية تنهض حين تُعامل كـمنظومة علمية وتقنية لا كملف ثانوي أو قطاع مناسب للمساومات.
في ظل التراجع المقلق في تونس للكفاءات الطبية، ماهي رسالتكم للأطباء الشبان حتى يعدلوا عن فكرة الهجرة والتفكير بدل ذلك في مستقبل الصحة العمومية بالبلاد؟
نحن ندرك تماماً أن فكرة الهجرة التي تراود الأطباء الشبان، ليست مجرّد رغبة في تحسين الدخل ولا في اكتشاف آفاق جديدةـ بل هي في جوهرها ردّة فعل طبيعية على منظومة منهكة لم تعُد قادرة على حماية الطبيب الشاب، ولا على توفير الحدّ الأدنى من ظروف الممارسة المهنية، وأعلم أن الكثير من الزملاء باتوا على ثقة أن مستقبلهم المهني خارج البلاد وليس داخلها احتراما لما قدموه من تضحيات طيلة مشوارهم الدراسي والمهني،أتفهم هذا الشعور،لكن رغم كل هذا أريد أن أقول للأطباء الشبان أن قوة البلاد اليوم تتجسد فيكم أنتم، فالمنظومة الصحية مازالت صامدة بفضل تعبكم وصبركم الطويل على الظروف الصعبة.
الهجرة خيار مشروع صحيح، لكن لا يجب أن تلجئوا إليها نتيجة ليأس مفروض عليكم بل بقرار واع، وأريد أن أذكركم أن المنظمة تخوض معركتها الأساسية لأجل توفير ظروف عمل محترمة في بلدنا فيها مردودية وتقدير. وأود أن أقول لهم أن صمودكم وإصراركم على إصلاح حقيقي للمنظومة يشكل وسيلة ضغط على السلطة حتى تستجيب لمطالبكم وتحركاتكم، بقائكم ليس ضعف بل ورقة قوة. نحن نراهن عليكم اليوم، على وعيكم وعلى إيمانكم بدوركم، وهذا الكلام ليس مجرد خطاب عقلاني، بل واقعي. لا يوجد أي إصلاح صحي دون وجود الأطباء الشبان فأنتم العمود الفقري للقطاع. مستقبل الصحة مازال ممكنا في تونس، بشرط استمراريتنا ووحدتنا وفي المرافعة والدفاع على كرامتنا المهنية، وستبقى المنظمة الوطنية للأطباء الشبان سندكم، وسنواصل لأجل الدفاع عن حقوقكم حتى نحقق الإصلاحات المنشودة بإجراءات فعلية وحقيقية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس





