آمنة جبران
أفريقيا برس – تونس. قدم الناشط اليساري، محمد الكيلاني، في حواره مع “أفريقيا برس” تحليلاً للتحولات الجارية في سوريا عقب انهيار نظام بشار الأسد وصعود الجماعات المسلحة إلى الحكم. ورأى أن “الاستبداد الجديد في سوريا آتٍ من جهة الإرهابيين الذين يقبلون بدخول بيت الطاعة الأمريكي الصهيوني العثماني الجديد”، مشيرًا إلى أن “هذه الجماعات، التابعة لـ”جند القاعدة”، والتي تتولى اليوم إدارة المرحلة الانتقالية، لا يمكنها أن تؤمن بالديمقراطية”.
وتوقع أن “تكون سوريا عمادًا من أعمدة الشرق الأوسط الجديد الذي دعت إليه كوندوليزا رايس في مطلع الألفية الثالثة، وقد بدأت أمريكا في تنفيذ هذا المخطط بالاعتماد على تدمير غزة والضفة الغربية ولبنان”.
أما بخصوص الموقف التونسي من التغيير في سوريا، فرجح أن “لا يقبل الرئيس قيس سعيد بالحكام الجدد رغم إسلاميتهم، وذلك لأنهم يمدون أيديهم إلى إسرائيل”، محذرًا من “خطورة عودة المقاتلين في صفوف داعش إلى تونس وما يشكله ذلك من تهديد لأمن البلد”.
محمد الكيلاني هو ناشط يساري ومؤسس الحزب الاشتراكي التونسي.
حول التحولات الجارية في سوريا، ما هي الأسباب التي قادت إلى انهيار النظام السوري في أيام رغم صموده 13 عاما؟
انطلقت حركة الجماعات المسلحة التي تقودها هيئة تحرير الشام بزعامة أبو محمد الجولاني أحد وجوه تنظيم القاعدة في سوريا والعراق، فقد كانت جنبا إلى جنب مع الزرقاوي والبغدادي، ولمّا اختلف مع البغدادي حول الإعلان على الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وحول “الخلافة” ودخل معه في مواجهة مسلحة خسر فيها ما أخذه من عتاد ورجال من البغدادي، فوجد ضالته في الوحدة مع مجموعات إسلامية أخرى لتأسيس جيش تحرير الشام الذي تحوّل إلى هيئة تحرير الشام. ومنذ ذلك الحين أصبحت له علاقات وطيدة مع تركيا والتنظيمات التابعة لها.
لذلك ما أن بدأت التحرّكات الأولى في إدلب، معقل الجماعات المسلّحة، تحت اسم “ردع العدوان” وفي نفس الوقت تحركت جماعات الجنوب ومن جهة الحدود التركية السورية، بعد أن سوّت أمريكا بين تركيا وتنظيم قسد الكردي بشأن بعض بلدات الارتكاز. ومنذ 27 نوفمبر تطوّرت الأمور بسرعة فائقة، حيث سقطت حلب وتبعتها حماة وحمص ودرعا وسائر المدن بأريافها، وظل الجيش السوري يتخلي عن مواقعه وعتاده وأسلحته الثقيلة، تحت هجمات البيكوب رباعية الدفع والدراجات النارية، وحتى المعارك التي خاضها البعض منه لم تكن كافية لقلب مجرى الأحداث. وتوجّه البعض الآخر منه إلى العراق بكل ما لديه، حوالي 2000 رجل. مما يعني أن الجيش السوري انهار بسرعة فائقة ومعه النظام العلوي البعثي، فرحل بشار الأسد وعائلته إلى روسيا وترك البلاد والشعب السوري لأبي محمد الجولاني.
لم يأت انهيار الجيش الوطني السوري بمثل هذه السرعة من العدم، بل فقد عقيدته القتالية منذ أن بدأت أوضاعه المادية والمعيشية تتدهور، بحيث لم يعد بإمكان قواته إعالة عوائلهم، وأصبحوا يعانون من صعوبات الحياة جراء التضخم وانهيار العملة السورية وفقدان المواد الأساسية في سلاسل التداول.
وزيادة على ذلك فإن انسحاب حزب الله من حلب ومن محيط دمشق وعودته إلى لبنان وانسحاب المستشارين الإيرانيين من سوريا وخروج جزء هام من القوات العسكرية الروسية من القاعدتين العسكريتين البحرية والجوية، وهي العناصر الثلاثة التي ساعدت النظام السوري على الصمود أمام الضربات التي وجهتها له داعش والمعارضة المسلحة، يفقدها جميعا. تلك هي العوامل التي ضربت العقيدة القتالية للجيش العربي السوري وقادته إلى الانهيار السريع.
أمّا من الناحية السياسية فإن النظام العائلي السوري لم يترك قوة سياسية أو مدنية واحدة معارضة تشكل مجمّعة سلطة معارضة تقف في وجه السلطة القائمة لمّا تستبد وقادرة على تقديم مشروع بديل في كنف الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، باعتباره توجّه لها بالقمع تعذيبا وسجنا وحرمانا من أبسط الحقوق الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتصرّف معها مثلها تتصرف الجماعات المسلحة والإرهابية، بحيث أنه فكك الجبهة الداخلية وأضعفها بشكل لم يبق أمامه من سبيل غير التعويل سوى على الأجهزة الصلبة للدولة، وبصورة خاصة على الجيش، وعلى القوى الخارجية، روسيا وإيران وحزب الله، للدفاع عن وجوده.
ومن جهة أخرى، اجتمعت روسيا وإيران وتركيا، في الدوحة لمناقشة الوضع في سوريا، واتفقت في النهاية على ترك النظام السوري يواجه مصيره بنفسه. وتبع هذا الاجتماع، آخر موسّع شمل بعض دول الخليج والسعودية ومصر والأردن، مع الثلاثي، ليقرر الإعداد لما بعد بشار. ولمّا تغيّرت مكوّنات القوى التي أحاطت بوجوده انهار كقصر من القش.
ما هي قراءتكم للتطورات في سوريا بعد سقوط نظام الأسد؟
غادر بشار الأسد الحكم ودخل أبو محمد الجولاني دمشق. فتحت أبواب السجون، وبصورة خاصة سجن صيدنايا الذي لا يقلّ في وحشيته ومعاملته للسجناء والسجينات عن سجن أبو غريب سيء الذكر وعن سجن غوانتانامو، حيث تمّ إعدام الآلاف والاعتداء على السجينات دون حساب بشكل أن أطفالا ولدوا وكبروا في السجن، لا يعرفون العالم الخارجي ولا يعرف أحد آبائهم، وتتالت الشهادات التي تكشف عن فضاعات الديكتاتورية. وفتح القصر الرئاسي ونقلت قناة الجزيرة ككل مرّة مظاهر البذخ من أثاث وسيارات وسبائك وغير ذلك، ونقلت حالات من ثأر الشعب لنفسه بإسقاط تماثيل حافظ الأسد والإستيلاء على بعض أثاث القصر.
وبالمقابل أغرق أبو محمد الجولاني الشعب بالوعود للعيش في وطنهم بكل حرّية، ووعد “إسرائيل” التي لم تنفك تقصف ثكنات الجيش السوري العسكرية وجيشها يتقدّم على الأراضي السورية، معلنا أنه لن يخرج منها إلا بعد استقرار الأوضاع، زيادة على إعلان نتنياهو الجولان أرضا إسرائيلية إلى الأبد. تماما كما يفعل الجيش التركي في الشمال، الذي يريد أن تكون المناطق الفاصلة بين أكراد الشرق والغرب تحت أنظاره بدعوى مقاومة الإرهاب الذي يمارسه حزب العمال الكردي.
وفي نفس الوقت ما فتئت أمريكا وتركيا تؤكدان أن المؤشرات كلّها تشير إلى أن أبو محمد الجولاني تغيّر، وعلى استعداد لاحترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات وحقوق المرأة، وهو التفاؤل والوعود التي سمعناها لمّا دخل طالبان عاصمة أفغانستان، بعد أن تخلّت أمريكا عن النظام الذي كان قائما بعد مفاوضات دامت سنة تقريبا كانت قطر شريكا فيها، تماما كما حدث بشأن سوريا.
وتعرفون جيدا ما الذي حلّ بأفغانستان تحت حكم الطالبان الذي تلقى نفحة من العصرنة. فهل يعقل أن “جند القاعدة” بالأمس مدعومين بحركة إخوان المسلمين، التي تولى أحد وجوهها البارزة في سوريا رئاسة الحكومة الانتقالية، أن يؤمن بالديمقراطية اليوم؟ وما هو واضح هو التفاهم الحاصل في التحاور المتبادل عبر التصريحات بين إسرائيل والقيادة السورية الجديدة، وتقبل أمريكا بكثير من التأييد مثل التفاهم بين الطرفين، وبالتالي فإن سوريا ستكون عمادا من أعمدة الشرق الأوسط الجديد الذي دعت له كونداليزا رايس في مطلع الألفية الثالثة، وتنفذه أمريكا حاليا بالاعتماد على تدمير غزة والضفة وإبادة الشعب الفلسطيني ولبنان وإخضاع سوريا والعراق ودول البتردولار الخليجية، وستمضي هذه التغييرات في اتجاه جعل الكيان الصهيوني ضمن هذه السوق الواسعة كي تصبح مجالا لتدخلها ولرواج بضاعتها.
كيف تقرأ ردود الفعل السياسية والشعبية التونسية بعد سقوط نظام بشار الأسد؟
لا أرى انقساما واسعا بين القوى السياسية والشعبية بعد سقوط نظام بشار الأسد، بين مساند ومناهض لهذا السقوط، لكن الشعب التونسي وقواه السياسية يحمل في وجدانه مرارة التغييرات غير المحسوبة التي غالبا ما دفع ثمنها غاليا. فمن ناحية يعتبر أن التخلّص من مستبد حتى وإن كان على يدي مستبد آخر يريحنا من الأشكال القديمة، ويترك أمر الصراع مع المستبد الجديد للظروف الجديدة، والاستبداد الجديد في سوريا آت من جهة الإرهابيين المرسكلين القابلين بدخول بيت الطاعة الأمريكي الصهيوني العثماني الجديد. ومن ناحية أخرى فالشعب هو في وضع يشبه الوضع الذي نحن فيه غير أنه أعقد منّا عشرات أو مئات المرات لأن الذي ينتظره لا أحد يدري بأنه سيعود به قرونا إلى الوراء، لسبب بسيط؛ فلا الشعب التونسي ولا الشعب السوري تمكنا من إنشاء قوى ديمقراطية وشعبية تتبنى مطالبهما ومطامحهما تقوم مقام البديل يقود نضالها ويعطيها أفقا مستقبليا.
كيف تنظر الدولة التونسية للتغييرات التي حدثت في سوريا، حسب رأيكم؟
لا يمكن أن نعرف ماذا يدور في كواليس الحكم لأنها مغلقة ولا يخرج عنها إلا ما هو رسمي وهو خطاب خشبي كما الذي يدور في وسائل الإعلام الحكومية وكأننا في العهد النوفمبري (عهد زين العابدين بن علي). لكن بإمكاننا أن نقرأ ما وراء السطور، فالرئيس مناصر للنظام السوري، وكان ندد بموقف السلطة الانتقالية بقطع علاقاتها مع النظام السوري وبتنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا، وإلى جانب ذلك فالقادة الجدد مناهضون لإيران ويمدون اليد لإسرائيل، لذلك ورغم إسلاميتهم فسيكون ضدهم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه فهل سنستخلص الدرس الذي يمكن الخروج به من سوريا؟ إن ضرب الجبهة الداخلية باعتماد أساليب الحكم الفردية والاستبدادية والديكتاتورية والقمع بمختلف أشكاله وغلق الباب أمام الحريات يؤدي حتما إلى عزل النظام ويجعله مستهدفا ويسهل اختراقه من القوى الإقليمية والعالمية، وتتخلى عنه تلك التي ناصرته ودعمته وتدفع بالقوى الحليفة لها بالنهوض ضده في اللحظة الحاسم.
كيف يمكن أن يؤثر إطلاق سراح آلاف المقاتلين من الجماعات المسلحة على الأمن والاستقرار في تونس؟
كلنا يتذكرّ عملية بن قردان، كيف كان الشعب التونسي داعما للجيش والحرس والقوات الخاصة لإفشال هذه المحاولة. حدث ذلك لأنه كان له شيء من الثقة في حكامه ويأمل في تحسن أدائهم. والمهاجمون مازالوا رابضين على الحدود يترقبون الفرصة السانحة. ولا أعتقد أنهم سيترددون لحظة واحدة لمّا يتلقون الضوء الأخضر من أمريكا وتركيا وحين يتلقون الدعم من دول البتردولار، كما أن الجماعات الإرهابية مازالت على حدودنا الغربية، ولا تنسوا الخلايا النائمة ومخازن الأسلحة المدفونة في ربوع تونس ولا أحد يعرف عنها شيئا سواهم. وإذا تذكرنا بأننا البلد العربي الأول الذي صدّر لسوريا إرهابيين، ولا أظن أن هؤلاء سيبقون في سوريا لأن أمريكا تطوّع ما استطاعت إليه سبيلا منهم وتعود بالبقية إلى أوطانهم، إذا لم تبعثهم زيت مدافع لمناطق توتر أخرى.
النخبة العربية منقسمة بشأن الحالة السورية وخاصة اليسار في تونس، هل يحتاج اليسار إعادة تكييف دوره مع الحالة العربية ككل؟
من الطبيعي جدا أن تنقسم النخب ومعهم الرأي الشعبي في الأحداث الكبرى التي تهز بلدانهم أو العالم، وما جرى في سوريا حدث كبير له تبعات محلية وإقليمية وعالمية، يفرض وجود تقديرات مختلفة ومن ثمّ تظهر مواقف مختلفة، وهذا الاختلاف يشق اليمين كما اليسار. ومن الطبيعي أن تتغيّر الأحوال في العديد من البلدان تبعا لما يحدث بين ظهرانيها أو في الإقليم الذي تنتمي إليه، وأن تتكيف القوى السياسية مع المستجدات، وهو ما يتناسب مع الدور الذي يجب القيام به في الأوضاع المستجدة.
لذلك لا أعتقد أنه ممكنا لليسار المتعدد أن يكون له نفس التفاعل مع الأحداث ومواقفه المتعددة، إذا لم تمس الخطوط الحمر بالتحالف مع قوى الإرهاب وإخوان الظلام أو مع سُلط الاستبداد، لا تمثل أبدا مشكلا بل تعتبر مصدر إثراء وتعميقا لتملك متغيّرات الواقع. واليسار التونسي في حاجة إلى أن يتعلم العمل مع بعضه البعض ومع غيره على أساس الحد الأدنى. لأن السياسة تجري عامة على أساس الحد الأدنى، ولا تصبح المهام الإستراتيجية على طاولة التغييرات المباشرة إلا حينما تنضج الظروف لذلك.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس