مهمّة عسيرة

لا مناص من اختيار عقيدة لبناء الحكومة وعلى كلّ وزير أن يكون قابلا، إن لم نقل، مقتنعا بهذه العقيدة وملتزما بها قبل أن يقع الحديث عن انتمائه و كفاءته. و بالنسبة للظرف الحالي و النتائج التي أفرزتها مؤخّرا صناديق الاقتراع، أتخيّل أن أمام صاحب القرار ثلاث إختيارات:

عقيدة ثوريّة بالكامل تفترض القبول و تحمّل تبعات مهمّة والاستعداد للتعامل معها، من قبيل الصدام الإجتماعي و غضب القوى العالميّة.

عقيدة مهادنة مسايرة للنمط، حيث تكون تونس دولة عالم ثالث ملتزمة مباشرة بالدور الذي تمليه عليها العولمة، و تكون فيها الديمقراطيّة من باب المساحيق لا أكثر ولا أقل.

عقيدة الوفاق، تأخذ من السابقتين وتحاول مراوغة المعطيات المعقّدة المحيطة في انتظار ظروف أفضل، ولعلّ التوافق الشهير في السنوات الأخيرة كان تطبيقا لهذه العقيدة.

يجنّب اختيار العقيدة عدد من التجاذبات ويقوّي مكانة رئيس الحكومة بالنسبة لوزرائه وأمام البرلمان لأنّ المرجعيّة واضحة ولا يزايد أحد على أحد.

من جهة أخرى، تفترض الحوكمة الرشيدة، وجود منوال تنموي واضح المعالم بين يدي سلطة سياسيّة مالكة لقرارها. و بالنسبة لتونس، حسب الدستور، قمّة الهرم السياسي هو مجلس نواب الشعب الذي هو بالتالي مركز القرار و المُملي للتوجّهات الإستراتيجيّة العامة والقطاعيّة. لكن الإنتخاب المباشر لرئيس الجمهوريّة يفترض أيضا أخذ خطاب الرئيس ومواقفه بعين الاعتبار.

الإرادة الشعبية، الواردة إلى مجلس الشعب عبر النوّاب، والمعبّر عنها أثناء الحملات الانتخابية، رغم صدقها، ليست بالضرورة بالغة الحكمة، و لا تأخذ حتميّا بعين الاعتبار كلّ العوامل ( ظروف وإمكانيات و أجندة زمنيّة). ويجتهد الخبراء في إعداد منوال التنمية الأقرب تجاوبا مع إرادة صاحب القرار واعتبارا للعقيدة الحكوميّة التي يختارها الحزب أو الأحزاب التي تتحمّل دستوريّا تكوين الحكومة.

وقد تدخل زيارة رئيس الحكومة المكلّف لرئيس الجمهوريّة يوم الثلاثاء 26 نوفمبر في استكمال الرؤيا ذلك أن عقيدة الحكومة مرتبطة عضويّا باختيار مجموعة الأحزاب التي ستمنحها الثّقة وهذه المجموعة ليست واضحة المعالم حتّى السّاعة.

يبرز على السّاحة الإعلاميّة حاليّا مسؤولون تنفيذيوّن كبار، من رحم آلة التسيير، في الأصل، الدور الطبيعي لهؤلاء، والذي يجري في عروقهم هو تثمين الاختيارات التي يتمّ إقرارها ثمّ تنفيذها حسب ما لديهم من إمكانيّات، وفي حالة الإخفاق يحمّلون، وهم محقّون المسؤوليّة لصاحب القرار وللظروف. هؤلاء المسؤولون الكبار “محافظون” بطبيعة وضعيّتهم دون أن يتنافى ذلك مع قناعاتهم السياسيّة.

يبرز أيضا على السّاحة الإعلاميّة حاليّا قياديّو منظّمات مهنية من محامين و خبراء محاسبين و فلاّحين و غيرهم و القطاعات المهيكلة كثيرة. دورهم الطبيعي هو السعي لتحسين ظروف قطاعهم وقد يذهب بعضهم إلى المطالبة باستقلال القطاع تصوّرا وتسييرا كأنّما هو دولة بذاته.

أثناء إعداد المنوال التنموي العام أو القطاعي، بعد إقرار الرؤية الإستراتيجيّة، تقع استشارة هؤلاء و هؤلاء لإبداء الرأي قصد التعديل مع المحافظة على التوجّه الرئيسي و الأهداف.

لا بدّ لرئيس الحكومة المكلّف من وضوح الصورة، رؤيا استراتيجيّة وعقيدة حكوميّة، حتّى يتسنّى له الحسم في اختيار أعضاء الحكومة و المسوؤلين الكبار. ونتمنّى أن تتمخّض مجهودات المكلّف على ما يرضى القواعد الشعبيّة المتعطّشة للكرامة ودرجة من الرّخاء.

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here