
حذامي خريّف
أفريقيا برس – تونس. في صائفة 1982، ألهم حصار بيروت، وما كان يدور من نقاشات حوله في الساحة التونسية، الكاتب التونسي العربي السنوسي لكتابة مسرحية من إخراج البشير الدريسي وتمثيل ممثلو فرقة مدينة تونس، ومن بينهم شريف العبيدي وصالح الرحموني وعبدالعزيز المحرزي وفرحات الجديدي وغيرهم، ومعهم صالح خلف القطري.
تحمّست المجموعة للعمل على المسرحية التي حملت عنوان “الأخطبوط” أو دير ياسين وشتيلا” وهي مسرحية تتناول القضية الفلسطينية بصفة خاصة، والصراع العربي – الصهيوني بصفة عامة، ولكن بطريقة أخرى، لا تلك التي تعوّدناها… فهي مسرحيّة، لا لتمجيد بطولات زائفة، بل لتوعيّة الشعوب العربية قصد مواجهة هذا الخطر.
لكن، شاءت الأقدار أن لا تعرض هذه المسرحية بقرار من وزير الثقافة آنذاك، البشير بن سلامة، لتبقى المسرحية لسنوات طويلة حبيسة الأدراج إلى أن رأت النور مؤخرا ولكن ليس على الركح بل على الورق، حيث صدرت، بمناسبة أيام قرطاج المسرحية.
تمّ نفض الغبار عن هذا النص المسرحي إيمانا بأن الحرب العسكرية تحتاج إلى دعم ثقافي، وليس هناك أقوى من إبقاء الذاكرة حيّة لمواجهة الادعاءات الصهيونية ولتوارث القضية جيلا بعد جيل وإنتاج وعي يقلب الطاولة ويفضح زيف الاحتلال.
وفي مقدمة النسخة الورقية كتب العربي السنوسي، المختص في الدراسات الصهيونية، مستحضرا تلك التفاصيل حيث يقول: عملنا مع أعضاء فرقة مدينة تونس بقيادة المخرج البشير الدريسي، وتوضيب عبد العزيز المحرزي، وبمؤازرة عزّ الدين المدني، طيلة صائفة 1982، أثناء حصار بيروت ومجزرة “صبرا وشتيلا”، على إنجاز المسرحية، ووصل بنا الأمر إلى توجّس قيام الكيان الصهيوني بالاعتداء حتى على تونس (فكانت فعلا عملية حمام الشط سنة 1984).
وكان من المتوقّع أن يتمّ عرضها، بعد العرض الأوّل المقرّر لأسبوع المسرح في نوفمبر من نفس السنة، في عدّة معاهد ومدارس الجمهورية. إذ قام عندها المرحوم المنصف شرف الدّين، وقد كان مدير إدارة المسرح بوزارة الثقافة، ببرمجة عرضها في 200 معهد ومدرسة. لكن، في غرّة نوفمبر 1982، أصدر وزير الثقافة آنذاك، البشير بن سلامة، قرارا بمنع المسرحيّة منعا باتّا، لا بعرضها فحسب، بل وحتى بنشرها. لكن، بتحدّ للوزير، قام عزّ الدّين المدني، وكان في نفس الوقت رئيس تحرير الملحق الثقافي لجريدة “العمل”، بنشر نصّ المسرحية في نفس الملحق.
حاولنا معرفة سبب المنع، فما راعني من الوزير إلا أن عبّر عن مخاوفه من إثارة مظاهرات واحتجاجات سفرات الدول الغربية. وبالرغم من اقتراحي بتنظيم عرض خاص يدعو إليه من يريد، رفض ذلك رفضا قاطعا، معبرا أنّ النصّ، ببساطته، من “السهل الممتنع”، الذي، حسب تعبيره، “سيكون سببا في مظاهرات وفي احتجاجات السفارات الغربية”.
والآن، وفي الوضع المأساوي الذي عاشته وتعيشه غزّة من محاولة إبادة الشعب الفلسطيني بمعاضدة حكومات الدول الغربيّة، التي كشّرت عن أنيابها وأظهرت “نفاقها” لا إزاء فلسطين والعالم العربي- الإسلامي عموما، بل وكذلك اليهود أنفسهم الذين يريدون التخلص منهم على حساب العرب، ارتأينا نشر هذه المسرحيّة حتى يفهم العرب نوعا ما أسس الإيديولوجية الصهيونية، الراميّة بالوكالة عن الغرب، وخاصة المبشرين البروتستانت الأمريكيين، الذين لم يستسيغوا إلى الآن هزيمة الصليبيين في المشرق خلال القرن الثالث عشر الماضي، إلى إبادة الفلسطينيين فقط، بل وكذلك العرب، لتمكين “المسيح” (المشياح حسب تعبيرهم) من العودة لخلاص اليهود أنفسهم من غيّهم.
ولهذا اعتبرنا أنّ الصهيونية تمثل خطرا لا على العرب فقط، بل وأيضا على اليهود ذاتهم. فقد قال شلومو ساند، أحد المؤرخين “المراجعين” لتاريخ الكيان الصهيوني، بأنّ “الصهيونية ليست إيديولوجية يهودية، بل هي إيديولوجية المبشّرين البروتستانت (الافيلنجيون)، تبنّاها بعض اليهود لتحقيق المآرب العقائديّة لهؤلاء المبشّرين”. ولذلك لا نستغرب التدخل المباشر للولايات المتحدة والغرب عموما في مجريات الأحداث في غزّة وفلسطين عموما.
ويضيف العربي السنوسي: واعتمدت في كتابة هذه المسرحية على كتابات وتصريحات العديد من الفاعلين السياسيين الصهاينة… فمثلا شخصية “بيغين” استعملت في المسرحية تصريحات “شارون”، لأنّ الشخصيتين تمثلان نفس الاتجاه الفكري والسياسي.. واختار تصريحات ووضع مونتاج يخدم في النهاية القضية الفلسطينية.
قدمت المسرحية الوجه الآخر من الصراع العربي- الصهيوني… أي شرح الأسس العدوانية والعنصرية التي بُنيت عليها الصهيونية لا إزاء العرب فحسب، بل وأيضا إزاء اليهود أنفسهم… وقد اختار طريقة اسخيلوس الإغريقي في مسرحيته “الفرس”، وكذلك فركور في روايته “صمت البحر”… أي عوض أن يقدّم الفلسطيني السليب والمناضل في سبيل استرجاع حقّه، أراد تقديم “بيغين” وجماعته حتى نعرف – نحن العرب – الوجه الحقيقي للصهيونية، هذا الوجه الذي لازلنا، مع الأسف، نجهل عنه الكثير.
بعد التداعيات الأخيرة لم يعد أي عذر يبرر إيديولوجيا الهزيمة، وإذا كانت الحجة بأن إسرائيل تقف وراءها أقوى دول العالم وأكثرها تقدّما؛ فإن للحرب جبهات أخرى، أخطر وأقوى من حرب السلاح، هي حرب قوامها الفن والثقافة والإعلام في معركة مصيرية حاسمة انطلقت رحاها منذ عقود..
ومن يذكر مصير نيرون، وكيف طغى وتجبر، يذكر الجُبّ الذي وقعت فيه “إسرائيل” اليوم، ومثلما أحرق ذاك الطاغية روما حقيقة، ها هي عصابة الاحتلال بهجمتها «النيرونية» على غزة ولبنان كيانها بجدار شاهق من الكراهية ستحترق خلف أسواره مهما طال الوقت.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس