جامع الزيتونة من محراب صلاة إلى جامعة للعلماء

37
جامع الزيتونة من محراب صلاة إلى جامعة للعلماء
جامع الزيتونة من محراب صلاة إلى جامعة للعلماء

أفريقيا برس – تونس. جامع الزيتونة المعمور، ويعرف أيضا بـ”المسجد المعمور” و”المسجد الأعظم”. أسسه والي أفريقية سابقا حسان بن النعمان عام 79 هـ في تونس، وهو أحد أقدم المساجد في أفريقيا.

وقد شهد توسعات كثيرة خاصة في العهدين العباسي والحفصي، وكان له دور طليعي في نشر الثقافة والفكر الإسلاميين، وانبثقت منه “مدرسة الزيتونة” أول مدرسة فكرية بأفريقيا تخرج منها عدد من المفكرين وعلماء الدين والشعراء، من بينهم ابن خلدون وعبد العزيز الثعالبي ومحمد الطاهر بن عاشور وعبد الحميد بن باديس وأبو القاسم الشابي.

النشأة والتأسيس

شيد جامع الزيتونة عام 79 هـ (698 م) على يد القائد العسكري العربي حسان بن النعمان الغساني الشامي (والي أفريقية زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان) وكان له دور بارز أثناء الفتوحات الإسلامية في المغرب العربي الكبير.

وقد وسع الغساني المسجد عام 84 هـ (704 م) ليشمل مساحة أكبر، ثم أمر عبيد الله بن الحبحاب (والي أفريقية في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك) بتوسعة الجامع وإتمامه عام 113 هـ (731 م).

الموقع

يقع الجامع في قلب المدينة العتيقة بالعاصمة التونسية، وحوله من الجهة الشمالية “سوق العطارين” ومن الجهة الجنوبية “سوق البلاغجية” (أي صناع الحذاء التقليدي المعروف باسم البلغة) إضافة إلى مدارس قرآنية قديمة مثل العصفورية والمرادية.

التسمية

اختلف المؤرخون حول أصل التسمية، فقد أشارت بعض الدراسات التاريخية إلى أن الجامع بني على أنقاض كنيسة بيزنطية كانت فيها قديسة تدعى “أوليفا” ومعناها “زيتونة”.

ولكن الراجح في روايات تاريخية أخرى أنه سمي “الزيتونة” نسبة إلى شجرة زيتون كانت تتوسط الهضبة التي بني عليها.

العمارة والفن الإسلامي

يتربع جامع الزيتونة على مساحة قدرها 5 آلاف متر مربع، وله 9 أبواب وبه قاعة داخلية تقوم على 184 عمودا، وهو ثاني أكبر جامع في تونس بعد جامع عقبة بن نافع بولاية القيروان.

ويتميز هذا الجامع بعمارة فريدة تجمع بين الطرازين الأندلسي والإسلامي المغاربي، فهو يشبه جامع قرطبة بالأندلس، إضافة إلى استعمال عناصر رومانية وبيزنطية في البناء.

يحتوي جامع الزيتونة على صحن خماسي واسع يحيطه رواق يرتكز على أعمدة من الرخام بألوان مختلفة، وتتوسط الفناء ساعة شمسية كانت تعتمد في تحديد مواقيت الصلاة في تلك الحقبة.

وتحتوي قبة الصحن -الموجودة في مدخل قاعة الصلاة- على زخارف من حجر المغرة والطابوق الأحمر، وقد بناها المنصور بن بلكبن بن زيري (أحد حكام الدولة الزيرية بالمغرب الإسلامي) أما المحراب فهو مزين بالجص والنقوش، ويرجع إلى العهد الفاطمي.

وقد صممت قاعة الصلاة بشكل شبه مستطيل يتخللها حوالي 160 عمودا رخاميا، وفي الجهة الغربية للجامع تنتصب مئذنة مربعة الشكل طولها 43 مترا، وهي مصنوعة من الحجر الجيري وبنيت بعد مئات السنين من تشييد المسجد على يد أحد الخلفاء العباسيين وسماها “المنارة”.

الإصلاحات والتوسع

شهد جامع الزيتونة تطورا معماريا وفنيا يعكس تتابع الحضارات الإسلامية في تونس، والتي سعت عبر إصلاحاتها للحفاظ على هويته التاريخية والدينية.

وترجع أول عملية تطوير شاملة للجامع إلى عهد الدولة الأغلبية (800/909 م) حين وسع الأمراء الأغالبة مبنى الجامع واهتموا بزخرفته وهندسته، وكان الأمير أبو إبراهيم أحمد أبرز من تولى هذه الأعمال حيث أعاد بناء أجزاء كبيرة من الجامع.

واستمرت الإصلاحات في العهد الفاطمي على يد الدولة الصنهاجية (971/1152 م) حين أنشئت القبة فوق البهو والرواق المواجه لبيت الصلاة، مما أضفى على الجامع جمالا معماريا جديدا يعكس خصائص تلك المرحلة.

وفي العهد الحفصي (1228/1574 م) بلغت إصلاحات جامع الزيتونة ذروتها، إذ شهد المسجد أكبر عمليات تحسين عمرانية في تاريخه، فقد جلب السلطان المستنصر بالله ماء زغوان إلى ساحة الجامع عبر قناة خاصة.

كما رممت الأبواب والخشب الداخلي، وأُنشئت 3 مكتبات هي: مكتبة أبي فارس عبد العزيز (822 هـ) ومكتبة أبي عمرو عثمان (854 هـ) والمكتبة العبدلية في القرن 10هـ، وقد خصصت لها أوقاف لتسيير شؤونها.

أما في العهد العثماني، فرفع الأمير محمد باي المرادي منارة الجامع، وأضاف مزولة (ساعة شمسية) رخامية لتنظيم أوقات الصلاة بناء على حركة الشمس، ثم رمم الشيخ تاج العارفين البكري الرواق الشرقي وزخرف بيت الصلاة وزيّن المحراب بالجبس المنقوش.

وفي الفترة ما بين 1705 و1957م واصل الحسنيون اهتمامهم بالجامع وإصلاحه بفضل أموال الأوقاف والأئمة والأعيان، واستبدلوا بالصومعة القديمة أخرى جديدة مزخرفة على الطراز المغربي الأندلسي عام 1312 هـ (1894 م) تحت إشراف جمعية الأوقاف.

جامع وجامعة

كان جامع الزيتونة في البداية مكانا لإقامة الصلاة فقط، لكنه تحول مع الوقت وأصبح مركزا علميا وتعليميا يعرف بـ”جامعة الزيتونة” وهي من أقدم الجامعات في العالم حتى قبل الأزهر والقرويين.

وبدأ العلماء في تدريس العلوم الشرعية واللغة العربية والفقه داخل الجامع نفسه، على شكل حلقات علمية كما هو معروف في المساجد الكبرى بالعالم الإسلامي، ومع ازدياد الطلبة أدخل الجامع علوما إضافية مثل الطب والفلك والفلسفة والرياضيات.

وفي العهد الحسيني نظّم المشير أحمد باي التعليم في جامع الزيتونة، وأسس “المشيخة” للإشراف على شؤون التعليم، ومن ثم بدأ بإدراج الامتحانات والشهادات والمناهج بشكل رسمي، وهنا بدأ يظهر اسم “جامعة الزيتونة” إلى جانب “جامع الزيتونة”.

وفي فترة الاستعمار الفرنسي سعت الجامعة إلى الحفاظ على الهوية الوطنية والثقافة الإسلامية، وفي الستينيات أُلحقت الجامعة بالنظام التعليمي الرسمي التونسي، وأُنشئت “جامعة الزيتونة” الحديثة التي تعنى بتدريس العلوم الإسلامية ضمن مناهج أكاديمية.

وعام 1958، ألغي “التعليم الزيتوني” بحجة توحيد التعليم في البلاد، وكانت آخر دفعة تخرجت من هذا التعليم سنة 1964، ثم استؤنف في 12 مايو/أيار 2012 بعد الثورة التونسية، إذ أعيدت المشيخة لمهامها السابقة في الإشراف على التعليم الشرعي.

أعلام الزيتونة

تخرج من جامعة الزيتونة كوكبة من المفكرين وعلماء الدين والشعراء والأدباء، ومن بينهم:

عبد الرحمن ولي الدين بن خلدون

مؤسس علم الاجتماع وأحد أبرز علماء القرون الوسطى ومن أكبر المؤرخين العرب، ولد في تونس عام 732 هـ (1332 م). ونشأ وسط أسرة عربية من أصول يمنية يمتد نسبها إلى الصحابي وائل بن حجر.

وتعلم أصول الدين والقرآن الكريم منذ صغره وكان والده معلمه الأول، ثم درس الفقه والعربية والفلسفة والعلوم الطبيعية في جامع الزيتونة، وتوفي والده وهو في الـ17 من عمره.

وتقلب بن خلدون بين مناصب سياسية عدة، فقد عمل وزيرا وحاجبا لدى الحكام، وجال بين أروقة القصور وذاق طعم المنفى والسجن مرات عديدة. وعندما بلغ الـ45 قرر اعتزال السياسة وتوجه إلى الكتابة.

ومن أشهر مؤلفاته كتاب “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” المعروف باسم “تاريخ بن خلدون” وكتب مقدمة لهذا الكتاب فاقت شهرة الكتاب نفسه.

وانتقل بن خلدون إلى الجزائر ثم إلى المغرب، ثم انتقل بعد ذلك إلى مصر واستقر فيها نحو 25 عاما، وتوفى هناك عن عمر ناهز 78 عاما، ودفن في مقابر الصوفية شمال القاهرة.

عبد العزيز الثعالبي

مفكر سياسي كرس حياته لتحرير تونس من الاستعمار الفرنسي، ودافع عن قضايا الدين والهوية العربية. وولد في 5 سبتمبر/أيلول 1876 في العاصمة تونس.

وبدأ تعليمه بمدرسة باب السويقة الابتدائية، ثم انتقل إلى المعهد الديني الملحق بجامع الزيتونة، ونال فيه شهادة التطويع عام 1896، وتابع بعد ذلك دراسته العليا في المدرسة الخلدونية.

وباشر الثعالبي نشاطه السياسي في الحزب الوطني عام 1895، ثم أسس الحزب الوطني الإسلامي، واستعمل قلمه وسيلة للنضال إذ كتب في الصحف والمجلات عن جرائم الاستعمار الفرنسي آنذاك.

وسافر إلى بلدان آسيا ودعا إلى تحرر الشعوب، وبعد عودته إلى تونس كرس ما تبقى من سنوات عمره للكتابة، ومن أشهر مؤلفاته “تونس الشهيدة” و”الروح الحرة في القرآن” و”تاريخ شمال أفريقيا” و”فلسفة التشريع الإسلامي”. وتوفي في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1944.

محمد الطاهر بن عاشور

ولد عام 1879 بالمرسى بالعاصمة التونسية، شارك بفعالية في إصلاح مناهج التعليم في البلاد، وهو أحد أبرز مفسري القرآن الكريم في العصر الحديث.

وقد نشأ في كنف عائلة علمية عريقة وفاعلة سياسيا، منحدرة من الأندلس، وحفظ القرآن في السادسة من عمره وتعلم قواعد العربية على يد علماء ومشايخ جامع الزيتونة حين التحاقه به عام 1893.

وعين ابن عاشور نائبا أول لدى المجلس العلمي للزيتونة عام 1907، ثم التحق بسلك القضاء عام 1911 عضوا بالمحكمة العقارية، ثم أصبح مفتيا عام 1923 وبعدها كبير المفتين عام 1924.

كما تقلد منصب شيخ الإسلام على المذهب المالكي سنة 1932، ثم أُعيد تعيينه سنة 1945 شيخا لجامع الزيتونة. وبعد استقلال تونس نصب شيخا وعميدا للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين حتى عام 1960.

وأحيل ابن عاشور بعد ذلك إلى التقاعد بسبب موقفه المنافي والرافض للحملة التي شنها الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة ضد بعض المظاهر الدينية، ومن أبرز ملامح هذه الحملة دعوته إلى الإفطار علنا في نهار رمضان.

وترك ابن عاشور مؤلفات قيمة في العربية وآدابها والفكر الإسلامي والعلوم الدينية، ومن ضمنها كتابه في التفسير “التحرير والتنوير” و”مقاصد الشريعة الإسلامية” وقد توفي في أغسطس/آب 1978.

عبد الحميد بن باديس

أحد رواد الحركة الإصلاحية والعلمية في الجزائر، ولد في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 1889 بمدينة قسنطينة (شرق الجزائر).

وقد عاش وسط عائلة عريقة ذات مكانة وجاه، وتلقى تعليمه الأول في الدين والعربية على يد والده ثم تتلمذ على يد الشيخ حمدان الونيسي وعلماء المدينة.

وسعى ابن باديس إلى صون هوية الشعب الجزائري وتعزيز ارتباطه بالدين الإسلامي والعربية والوطن الواحد، فركز جهوده على التربية والتعليم وفق مبادئ الإسلام، وأسس برفقة 72 عالما جزائريا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5 مايو/أيار 1931.

وقد ارتبط اسمه لدى الجزائريين بالعلم والإصلاح، ولذلك يحتفلون في 16 أبريل/نيسان من كل سنة بـ”يوم العلم” الذي يوافق ذكرى وفاته، تكريما لمسيرته ونضاله في مواجهة الاستعمار الفرنسي.

أبو القاسم الشابي

ولد عام 1909 في قرية الشابة بولاية توزر التونسية، ونشأ في أسرة متدينة ومثقفة. وحفظ القرآن في سن الـ9، وتعلم أصول العربية والدين على يد والده. والتحق بجامع الزيتونة في العاصمة لمواصلة تعليمه وحصل على شهادة الحقوق عام 1930.

وإلى جانب دراسته، كان شغوفا بالمطالعة. فنهل من الأدب العربي القديم والحديث، واطلع على الأدب الأوروبي بواسطة الترجمات، وارتاد مكتبات العاصمة والمجالس الأدبية.

وشارك الشابي في الندوات والمحاضرات، ودعا إلى تجديد الشعر العربي والانفتاح على الفكر الغربي، لكنه واجه انتقادات من المحافظين بسبب أفكاره التقدمية الداعية للإيمان بحرية الفرد وتجديد الشعر العربي.

وكتب في موضوعات متنوعة مثل الطبيعة والغزل والوطن، ومن أشهر أعماله ديوان “أغاني الحياة، الخيال الشعري عند العرب” كما أن قصائده نشرت بمجلة “أبوللو” في القاهرة.

واشتهر الشابي بقصيدته “لحن الحياة” التي تضمنت بيته الأشهر “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر” والذي أصبح شعارا لثورات الربيع العربي. وتوفي في 9 أكتوبر/تشرين الأول 1934 عن عمر لم يتجاوز الـ25 عاما.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here