إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. تقول الكاتبة التونسية حفيظة قارة بيبان في حوار مع «أفريقيا برس» إن «الكتابة مسؤولية وموقف، وهذا ما يفترض أن يكون عند الكتّاب العرب أمام الإجرام اللامسبوق الذي نشهده الآن في فلسطين. ولكننا للأسف نشهد سقوط الكثير من الأقلام العربية، في صمتٍ مهين».
وتؤكد قارة بيبان، التي تُعدّ من أكثر الكتّاب التونسيين تخصيصًا للقضية الفلسطينية حيّزًا هامًّا في موضوعات كتاباتهم، ارتباطها الوثيق بالقضايا الإنسانية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. ومن خلال رواياتها مثل «العراء» و«دروب الفرار»، تقدّم بيبان فلسطين بطريقة إنسانية وعميقة، متجاوزةً السياسة والتقارير الإعلامية، لتجعل من الرواية شاهدًا على التهجير والمنفى والهوية الممزقة، ولتسليط الضوء على الصراع الإنساني الذي يعانيه الشعب الفلسطيني.
هذا الحوار يكشف كيف يمكن للأدب أن يكون صوتًا للمقاومة ونافذةً لفهم المعاناة الإنسانية على أعمق مستوى.
في عالم تسوده الصور السريعة والخطابات المنفعلة، ما الذي يمكن أن يقدّمه الأدب اليوم لقضية مثل القضية الفلسطينية؟
الأدب سلاحٌ آخر للمقاومة، كما الصورة والأغنية ومختلف الفنون. قد لا يكون تأثيره آنيًّا، ولكن الأدب هو الشاهد المُعري الفاضح والمدين للواقع، وهو المُخلِّد للفكرة والقضية. الأدب الصادق المتوهّج بإمكاناته الجمالية وقدرته على الجذب والتشويق، يمكنه الوصول إلى أعماق كل إنسان ليكون التفاعل الحقيقي بين إنسانٍ وآخر.
لا يمكن أن ننسى أن غسان كنفاني تم اغتياله لأنه كان، من خلال قصصه ورواياته، الصوت الصادح لفلسطين؛ ما جعل زعيم الصهاينة مناحيم بيغن يقول يوم اغتياله: «اليوم تخلّصت إسرائيل من كتيبة جيش بأكملها».
هل ترون أن هناك مسؤوليةً تقع على الكتّاب العرب تجاه فلسطين؟ أم أن لكل كاتب حرية اختياره دون إملاءات وجدانية أو قومية؟
الكتابة تنبع من حرية الذات وإيمانها وجُرأتها؛ لا يمكن أن تكون صادقة وفاعلة تحت الطلب. الكتابة مسؤولية وموقف، وهذا ما يفترض أن يكون عند الكتّاب العرب أمام الإجرام اللامسبوق الذي نشهده الآن في فلسطين. ولكننا للأسف نشهد سقوط الكثير من الأقلام العربية في صمتٍ مهين، في حين ترتفع أصوات غير عربية من شتّى أنحاء العالم لإدانة الاستعمار الإجرامي والقوى الكبرى الداعمة له.
هل الرواية قادرة على تقديم فلسطين بطريقة أكثر إنسانية وعمقًا من التقارير السياسية أو الإعلامية؟
الرواية هي التي تكتب التاريخ الحقيقي للإنسان؛ لأنها تعبّر عن أعماقه، وتفاصيله، وهشاشته، وضعفه وقوّته، لمقاومة الواقع المتردّي، في سردٍ تبنيه جماليات الفنّ الروائي. لذلك تتخطّى الحواجز وتصل إلى كل إنسان.
الرواية الآن، بما تتوفّر عليه من إمكانات، وما تغتني به من معرفة وقدرة على إعلاء معمارٍ روائيٍّ لافتٍ مبتكر، حين تنتصر لقضايا الإنسان، تُخلِّد الشهادة الباقية التي يعليها الفنّ، ويمكنها الوصول إلى كل إنسان في العالم. ولهذا تخشى القوى الاستعمارية الفنّ المقاوم وتغتال أصحابه كما فعلت سابقًا مع غسان كنفاني الذي كتب قصص التهجير والمعاناة الفلسطينية.
قد تكون الرواية العربية عمومًا لا تحضر فيها فلسطين بقوّة إلا من خلال بعض التجارب القليلة، ولكن تظلّ الرواية الفلسطينية هي الأكثر حضورًا وثراءً لإعلاء صوت فلسطين المؤثّر في العالم. لا يمكن أن ننسى مثلًا روايات غسان كنفاني ورشاد أبو شاور ونصر الله إبراهيم… وكذلك روايات الكتّاب الجدد التي تتناول مشاغل الفلسطيني ومعاناته من زوايا مختلفة وبأساليب جديدة.
كيف تعاملتم في «العراء» مع مفهوم الهوية الممزّقة والمنفى والحرمان، وهي مفاتيح تتقاطع مع التجربة الفلسطينية؟
في «العراء»، كان التقاطع بين تجربة الجسد الأنثوي وتجربة الأرض المقدّسة بعد أن تسرّب إليهما السرطان. تجلّى هذا في لقاء دجلة العامري التونسية وغسان سلمان الفلسطيني المهرَّجَر، في قصة حبٍّ مستحيل، كما عبّر عن ذلك د. محمد آيت ميهوب.
من خلال لقاء دجلة وغسان، نقرأ تاريخ التَّغريبة الفلسطينية الثانية، من سنة 1982، في 28 أوت، يوم قدوم الباخرة اليونانية إلى ميناء بنزرت قادمةً من بيروت الحرب، محمّلةً بحوالي ألفٍ من الفلسطينيين المهرَّجين.
يتعرّى الواقع الذي يغزوه السرطان، في الجسد والأرض. يتسلّل إلى الجسد الخِصب العفيّ لدجلة من النهد إلى الرحم، وينشب أصابعه الأخطبوطية القاتلة، من الشرق إلى قرطاج (غارة حمّام الشط 1985 في تونس، مقتل أبو جهاد 1988).
تتداخل هموم الفرد وهموم الجماعة، وتتراشح المأساتان؛ إذ تتحوّل تجربة الجسد الأنثوي إلى تجربة الجسد العربي الممزّق في عالمٍ تحكمه سلطة الأقوى، الضاربة للهوية، المفترسة للأرض، الماحقة للقيم.
يحتدّ الصراع لمقاومة السرطان، فيتزاوج التخيّيلي والمرجعي والنثري والشعري، وتتلاقح الفنونُ لمقاومة الخراب. ويمسي جسد دجلة، حبيبةِ غسان، هو الجسد العربي المدقوق بمسامير القمع. لكن دجلة وغسان ينتصران على السرطان والفناء بكتابة «العراء»، الروايةِ الشهادة التي أكمل الفصل الأخير فيها غسان بعد رحيل دجلة إلى السماء.
رواية «العراء» تحضر فيها فلسطين بقوة رغم أن المكان الروائي ليس بالضرورة فلسطينيًا. كيف ترون حضور القضية الفلسطينية في النص الروائي العربي عامةً ونصوصِكم خاصةً؟
لم أَخترْ مظالمَ الوطن، بل هي التي اختارتني وفرضت نفسها عليَّ لأكتب الشهادة وأُعليَ معمارَ الرواية؛ سلاحي الكلمةُ يتزاوج فيها الواقعُ بالخيال.
«العراء» هي روايةُ التاريخ الفلسطيني بتونس، بدءًا من قدوم باخرة التهجير الفلسطيني من بيروتِ الحرب سنة 1982. ولكن الرواية تستعيد التاريخ الماضي.
في روايتي «دروب الفرار»، تحضر أيضًا فلسطين وإنْ كجزءٍ من الجغرافيا المحاصَرة، وتتعرّى الأوطان العربية المستباحة: لبنان، تونس، فلسطين؛ فإذا الإنسان العربي، والمرأةُ خاصةً، الممزّق بين قضايا الأوطان، ينتهي إلى دروب الفرار والانهيار، كما حدث لشرود عاشقة الموسيقى التي تنتهي، بين التطرّف الديني والقمع السياسي، إلى مستشفى الأمراض العقلية. هذه الرواية اختير نصٌّ منها «صديقة من فلسطين» ليكون في البرنامج الدراسي في كتاب العربية للسنة السابعة.
في روايتي «نساء هيبو وليالٍ عشر» الصادرة في 2024، نتابع ما تلا جريمة اغتيال عالمٍ تونسيٍّ طوّر طائرات «أبابيل» المساهمة في الدفاع عن غزة المحاصَرة في إحدى الحروب. هي روايةُ البحث عن الخلاص من نساء هيبو، بعد اختفاء الحبيب، الطالب التونسي نادر. هي روايةُ بحثٍ وإدانةٍ للقانون الأعمى الذي حَكَم به الإرهابُ العالمي، واستنجادٌ بالمحبّة.
هل هناك مشروعٌ قيد الكتابة يتناول فلسطين أو قضايا عربية مشابهة؟
«العراء» شهادةٌ على التاريخ الفلسطيني بتونس؛ هي روايةُ الجسد بكل رموزه تجاه الفناء. ولكن لعلَّ أهمَّ ما أرادت دجلة العامري قوله من خلال هذه الرواية هو أن الكلمة سلاح. في الصفحات الأخيرة، تلتقي في بياض سمائها بالمتنبي ليستقبلها منشِدًا:
كم قد قتلتُ وكم قد مِتُّ بينكمُ
ثم انتفضتُ فزال القبرُ والكفنُ.
مشروعي القادم قيد التشكل؛ قد يكون مختلفًا عن كتاباتي السابقة، ولكنه لا ينفصل عن مشروعي الروائي في أن أكتب روايةَ الإنسان المقاومِ أقدارَه، لتقديم حكايةٍ تنطلق من مدينتي بنزرت، ولكنها تكتب شهادةَ نسائها ورجالها وقصصَ الحبّ الضائع خلال حربٍ ماضية. آمل أن يتركني العالمُ لأتوغّل في دروبها وأتوهّج بنيرانها لأكتب بدمي روايتي القادمة.
كيف تقرؤون دور المرأة الكاتبة العربية في الدفاع عن قضايا عادلة مثل فلسطين؟
لا أرى اختلافًا بين دور الكاتب والكاتبة في الانتصار لقضايا الإنسان؛ قد يكون للمرأة حساسيةٌ خاصة وهي الأمُّ والحاضنةُ لهذا العالم، ما جعل الناقد المغربي محمد معتصم يقول: «إن السرد عند المرأة العربية المعاصرة مشحون بالقيم، شديدُ الحساسية تجاه ما يقع في العالم حولنا».
ولكن التجربةَ الخاصة لكل كاتبٍ أو كاتبة، وعمقَ إحساسه بالمظالم، مع إيمانه بسلاح الكلمة، هو الذي يجعل من النص الجيد المتوهّج حاملًا لقضية الإنسان الباحث عن حريته، المقاومِ بكلماته، لأجل الهوية المستهدفة والأرضِ المسروقة والإنسانِ المحاصَر. وهذا دورُ كل كاتبٍ حرٍّ، رجلًا كان أو امرأة.
ما رأيكم في الانتقال من الرواية إلى منصّات التواصل أو وسائط جديدة لتوسيع دائرة تأثير الأدب الملتزم؟
أكيد، سيكون لاستغلال كل الوسائل الحديثة دورٌ كبير في انتشار النص الأدبي الملتزم أمام تراجع الكتاب الورقي. مع هذا، فإن تلاقي الفنون وتلاقُحَها انطلاقًا من النص الأدبي يتيح لهذا الأدب فرصةً ثمينةً ليَشِعَّ أكثر ويفتح آفاقًا جديدةً للفن الملتزم.
وهذا ما تجلّى لي بعد تجربةٍ فريدة كانت لي مع مجموعة «أجراس» الموسيقية والفنان المبدع عادل بوعلاق، الذي حوّل مقطعًا من رواية «العراء» إلى مقطعٍ موسيقيٍّ غنائي، قُدِّم في مهرجان قرطاج في عرضٍ بعنوان «مسارات».
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس





