يعود مهرجان أيام قرطاج السينمائية في دورته الثامنة والعشرين ببرمجة استثنائية كالعادة، لا تخرج عن توجّهه العام كمهرجان يولي كل الأهميّة للسينما العربيّة والافريقيّة، ولا عن انفتاحه على العالم من خلال مختلف الأقسام. فبالإضافة إلى المسابقة الرسميّة بقسميها الروائي والوثائقي، نجد الأقسام الموازية التي تميّزت هذا العام بقلّتها وبانتقائيّتها في آن، من بينها “تحت المجهر” الذي سيتمّ خلاله الاحتفاء بالسينما الجزائرية، بالإضافة إلى السينما الآسوية، اللاتينيّة والجنوب افريقيّة. لا يفوتنا طبعا ذكر أهم قسم موازي وهو سينما العالم، فرصتنا لمشاهدة الإنتاجات العالمية الجديدة بعيدا عن القرصنة وشاشات الحواسيب، إنّما على الشاشة الكبيرة. أخيرا وليس آخرا، هناك قسم السينما الواعدة المخصّص للشباب الذين تحمل أفلامهم روح مستقبل سينمائيّ هام.
نحن إذا أمام عشرات الأفلام التي تختلف صبغتها ومعاييرها الجمالية عن بعضها البعض حدّ التناقض، كما تختلف اسباب مشاهدتها لأسباب مختلفة، منها الأصداء العالميّة عن الفيلم وعلاقتنا الخاصة بسينما مخرج أو بلد ما. أفلام يصعب مشاهدتها جميعا إلّا في حالة التفرّغ التام لأيام المهرجان فنشاهد أربعة أفلام كلّ يوم. ولأنّ هذه المعادلة صعبة وشبه مستحيلة بالنسبة لأغلبية رواد المهرجان، سنقدّم لكم حسب المقاييس التي ذكرناها وغيرها، مجموعة اختيارات لأفلام، لا تخلو طبعا من الذاتية،لكنّنا نعي أنّها من بين الأعمال التي لا يجب تفويتها، حتى نساعدكم في هذه المهمّة.
“ضربة في الرّأس” لهشام العسري من المغرب: حتى وإن لم نكن نعرف شيئا عن هذا الإسم، فمن الأكيد أنّنا سمعنا عن “هم الكلاب C’est eux les chiens (2013) » أو شاهدناه، فيلم ليس الأوّل لهشام، لكنّنا لنقل أنّه قد صنع نجاحه لما يحمله من مقاربة تصويريّة جديدة على السينما العربيّة وغير مألوفة. نجاح أكّده هذا المخرج مع “جوّع كلبك Starve Your Dog »، مواصلا خلاله نقد السلطة المغربيّة مستعملا كلّ المجازفات الممكنة والغير ممكنة على مستوى الصورة، راجّا بذلك المتفرّج بمشهديّة غير مألوفة ولنقل صعبة الهضم لكنّها تحمل جماليّة مدهشة. يقدّم هشام العسري الجديد دوما من خلال أفلامه لكنّه يخلق بالأساس نوعه الخاص من السّينما التي يجب متابعتها تتطوّر وتتغيّر لنلمّ بهذا الشاب وبأعماله، ولنستمتع بشكل أخص بما يقدّمه خاصّة وأنّ “ضربة في الرّأس”، يحمل بعدا فكاهيّا رغم محتواه المأساوي.
قضية رقم 23 لزياد دويري من لبنان: رغم الجدل الكبير القائم في هذه الأيام حول المخرج اللبناني زياد دويري، يبقى سماع اسمه ولو صدفة، يأخذ بنا نحو مشاهد علقت في ذاكرتنا من “بيروت الغربيّة (1998)، هذه التحفة الفنية التي شكّلت نقطة تحوّل كبير في تاريخ السينما اللبنانيّة التي لم تجد لنفسها هويّة حقيقيّة سوى في العقدين الأخيرين. صوّر زياد دويري في “بيروت الغربيّة” انقسام بيروت إلى جهة غربية خاصة بالمسلمين وأخرى شرقيّة خاصة بالمسيحيّين، ولم تنته معالجته للأزمات الطائفيّة للشعب اللبناني خلال أفلامه اللاحقة وصولا إلى”قضية رقم 23 » الذي يطرح أزمة أخرى قائمة منذ عقود في لبنان، وهي علاقة شعب هذا البلد باللّاجئين الفلسطينيّين. بالإضافة إلى تمرّس هذا المخرج في السينما والتزامه بتقنيات عالية الحساسيّة والجمال، فهو لا يكفّ عن استفزاز المتفرّج اللبناني والعربي.
فيليسيتي Félicité لآلان غومي Alain Gomis من السينيغال: سنتّبع نفس التمشّي الذي انتهجناه مع الفيلمين السابقين، فنحن أحيانا نثق في فيلم جديد لمخرج ما بفضل عمل أو أعمال سابقة أثارت إعجابنا وطبعت أذهاننا. في رصيد آلان غومي عدّة أفلام أخذ منها “Aujourd’hui » الحيّز الأكبر في قلوب من شاهدوه، فهي قصّة شاب يقضيّ آخر يوم في حياته بعد وقوع قرعة القربان عليه حسب تقاليد بلدته في السينيغال. رغم عيشه منذ سنوات في فرنسا، فإن سينما غومي لم تخرج عن طريقته في الانطلاق من حياة شخصيّة واحدة للغوص في أغوار مجتمع بأسره، وكشف ثقافته وعقليّته.
« 120 Battements Par Minute » لروبن كومبيلو Robin Campillo من فرنسا: لم يقم روبن كومبيلوبأفلام فقط، إنّما حاز بهذه الأفلام على أرقى وأهمّ الجوائز في العالم، من السعفة الذهبية إلى السيزار وفينيزيا. يعود إلى استفزاز الاعجاب المفرط وإقامة الجدل في المشهد السينمائي العالمي الذي عاد بنا من خلاله إلى سنوات التسعينات، أحد أشدّ الفترات التي عانى فيها المجتمع الغربي من انتشار مرض السيدا، فترة تجنّدت فيها العديد من مكوّنات المجتمع المدني للتحسيس بهذه القضية وللتقليص من انتشار الوباء. كلّ هذا من خلال قصّة متخيّلة تجعل منك متمسّكا بالفيلم ومشدوها في جماليّته منذ اللّقطة الأولى.
The Square لروبن أوستلاند Ruben Östlund من السويد: اذا لم تكن حوزته على السعفة الذهبية في الدورة الفارطة لمهرجان كان Cannes كافية لاستدرار الفضول والذهاب لرؤيته، فإنّ الإجماع العالمي للنقاد على كونه قطعة فنية مميّزة واستثنائيّة، كفيل بذلك.