أفريقيا برس – تونس. منذ تأسيس اتحاد الكتّاب التونسيين سنة 1971، كان الهدف المعلن هو أن يكون مظلة جامعة للأدباء والشعراء والباحثين، وأن يوفّر لهم فضاءً للتعبير والدفاع عن حقوقهم المادية والمعنوية، إضافة إلى تمثيلهم أمام الدولة والمجتمع. غير أن مسيرة الاتحاد لم تكن دائمًا مستقرة، فقد عرف منذ بداياته توترات داخلية مرتبطة بالتمويل، بالشرعية، وبالقدرة على استقطاب الكتّاب من مختلف الأجيال. ومع مرور العقود، تراجع عدد المنخرطين بشكل ملحوظ، إذ انخفض من أكثر من 500 عضو إلى حوالي 261 فقط، وهو ما يعكس أزمة ثقة عميقة. كما أن الاتحاد فقد تدريجيًا حضوره في المشهد الثقافي الوطني، فلم يعد يصدر المجلات أو الكتب كما كان في السابق، واقتصر نشاطه على بعض النوادي الأدبية.
مؤتمر القيروان: محطة انتخابية تحولت إلى أزمة شرعية
انعقد المؤتمر الانتخابي الثاني والعشرون يوم 21 ديسمبر 2025 بمدينة القيروان، وكان من المفترض أن يكون مناسبة لتجديد القيادة وإعادة الثقة في الاتحاد. لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا. فقد أسفر المؤتمر عن انتخاب الكاتب محمد سعد برغل رئيسًا جديدًا، غير أن ظروف انعقاده أثارت جدلًا واسعًا. النصاب القانوني لم يكن متوفرًا، إذ حضر 79 كاتبًا فقط من أصل 261 منخرطًا، واعتمدت 53 نيابة منها 36 غير موثقة بالإمضاء البلدي، وهو ما اعتُبر خرقًا صريحًا للنظام الأساسي. إضافة إلى ذلك، لم يتم توزيع نسخ مكتوبة من التقريرين الأدبي والمالي، واكتفى المؤتمر بتلاوتهما شفويًا، ما أثار اعتراضات حول غياب الشفافية. حتى المكان الذي انعقد فيه المؤتمر، وهو دار شباب، اعتُبر غير لائق بمؤسسة ثقافية وطنية، خاصة أنه لم يوفر إقامة أو تعويضات للكتّاب القادمين من خارج القيروان. كل هذه التفاصيل جعلت المؤتمر محطة أزمة بدلًا من أن يكون لحظة تجديد.
اعتراضات، استقالات، ودعوات للحل
ردود الفعل لم تتأخر، فقد قدّم الكاتب محمد المي اعتراضًا رسميًا مدعومًا بمحضر عدل منفذ، طاعنًا في شرعية المؤتمر ومخرجاته. كما استقال عضو المكتب المنتخب زهير الذوادي مباشرة بعد المؤتمر، معتبرًا أن الظروف لا تسمح بعمل جدي. هذه المواقف كشفت عن انقسام داخلي حاد بين الكتّاب، بين من قبلوا بنتائج المؤتمر رغم التحفظات، وبين من اعتبروه فاقدًا للشرعية. بعض المثقفين ذهبوا أبعد من ذلك، فدعوا إلى حلّ الاتحاد وإعادة تأسيسه على أسس ديمقراطية وشفافة، معتبرين أن الأزمة الحالية ليست مجرد خلاف انتخابي بل أزمة وجودية تهدد بقاء المؤسسة نفسها. هذه الردود أبرزت أن الاتحاد لم يعد قادرًا على لعب دوره الجامع، بل أصبح ساحة صراع داخلي.
أزمة شرعية تهدد البقاء
من الناحية القانونية، الطعن في النصاب والنيابات يضع الاتحاد أمام احتمال إبطال نتائج المؤتمر قضائيًا، وهو ما يعني أن القيادة الجديدة قد لا تتمتع بشرعية قانونية. من الناحية التنظيمية، تراجع عدد المنخرطين يعكس أزمة ثقة داخلية، ويطرح سؤالًا حول قدرة الاتحاد على استقطاب الكتّاب الشباب. كما أن غياب الشفافية في التقارير المالية والأدبية يثير مخاوف حول سوء إدارة الموارد، خاصة أن الاتحاد يتلقى دعمًا من وزارة الثقافة. هذه الأبعاد تجعل الأزمة أكثر تعقيدًا، فهي ليست مجرد خلاف داخلي بل أزمة شرعية وتنظيمية قد تؤدي إلى شلل كامل في عمل الاتحاد.
فقدان المصداقية وتراجع الدور
الأزمة الأخيرة كان لها أثر مباشر على المشهد الثقافي التونسي. فقد خسر الاتحاد مواقع تمثيلية في لجان وزارة الثقافة، مثل لجنة معرض تونس الدولي للكتاب ولجان دعم الكتاب، وهو ما قلّص من تأثيره في السياسات الثقافية. كما أن توقف إصدار المجلة الفصلية “المسار” وتراجع المشاريع الثقافية جعلا الاتحاد شبه غائب عن الساحة. بالنسبة للكتّاب، هذا الغياب يعني فقدان فضاء للتعبير والدفاع عن حقوقهم، وهو ما يضعف مكانتهم في المجتمع. بالنسبة للجمهور، الأزمة تعكس صورة سلبية عن المؤسسات الثقافية، وتثير تساؤلات حول جدوى وجود اتحاد لا يقوم بدوره. بهذا المعنى، الأزمة ليست داخلية فقط بل لها تداعيات وطنية على الثقافة التونسية ككل.
إعادة بناء على أسس جديدة
أمام هذه الأزمة، هناك عدة مقترحات للخروج منها. أولًا، إعادة الانتخابات وفق شروط قانونية صارمة، مع التثبت من النيابات وضمان النصاب. ثانيًا، إصلاح النظام الأساسي لضمان الشفافية والديمقراطية الداخلية. ثالثًا، توسيع قاعدة المنخرطين عبر فتح باب الانخراط مجددًا واستعادة ثقة الكتّاب الشباب. رابعًا، تأمين التمويل المستدام من وزارة الثقافة أو عبر شراكات مع مؤسسات خاصة، لتجنب الأزمات المالية. خامسًا، إعادة الاعتبار للكاتب من خلال تنظيم مؤتمرات في فضاءات ثقافية لائقة، وتوفير الدعم اللوجستي. سادسًا، إطلاق مشاريع ثقافية جديدة مثل مجلات وملتقيات لإعادة الاتحاد إلى المشهد.
أزمة بنيوية في العمل الثقافي الجماعي
الأزمة الأخيرة تكشف عن أزمة بنيوية في اتحاد الكتّاب التونسيين. فهي نتيجة تراكمات طويلة من ضعف الديمقراطية الداخلية، غياب الشفافية، وتراجع التمويل. لكنها أيضًا تعكس أزمة أوسع في العمل الثقافي الجماعي في تونس، حيث تعاني المؤسسات من نقص الدعم وضعف الحوكمة. هذه الأزمة قد تكون فرصة لإعادة التفكير في دور الاتحاد، وتحويله من مؤسسة شكلية إلى فضاء حيّ يعبّر عن صوت الكتّاب ويعزز مكانتهم في المجتمع. لكن ذلك يتطلب إرادة جماعية من الكتّاب أنفسهم، ودعمًا فعليًا من الدولة والمجتمع المدني.
بين الحل المؤسسي والانقسام المستمر
إذا نظرنا إلى الأزمة الراهنة في اتحاد الكتّاب التونسيين، فإنها لا تقف عند حدود الخلافات الانتخابية أو الطعون القانونية، بل تفتح الباب أمام مجموعة من السيناريوهات المحتملة التي ستحدد مستقبل هذه المؤسسة الثقافية. السيناريو الأول يتمثل في إعادة الانتخابات بعد إبطال نتائج مؤتمر القيروان قضائيًا، وهو ما سيعيد الاتحاد إلى نقطة البداية لكنه قد يمنحه فرصة لتصحيح المسار إذا ما تم تنظيم مؤتمر شفاف وقانوني. السيناريو الثاني هو الإصلاح الداخلي، حيث قد تقرر القيادة الحالية فتح حوار مع المعارضين، مراجعة النظام الأساسي، وتوسيع قاعدة المنخرطين، وهو خيار صعب لكنه قد يحافظ على وحدة الاتحاد. السيناريو الثالث هو الانقسام المستمر، إذ قد يواصل الاتحاد العمل بشرعية مطعون فيها، ما سيؤدي إلى فقدان المزيد من المصداقية والتأثير في المشهد الثقافي، وربما إلى عزوف الكتّاب الشباب عن الانخراط فيه. السيناريو الرابع والأكثر جذرية هو حلّ الاتحاد وإعادة تأسيسه على أسس جديدة، وهو خيار يطرحه بعض المثقفين الذين يرون أن الأزمة الحالية كشفت عن فشل بنيوي لا يمكن إصلاحه إلا بإعادة البناء من الصفر. وأخيرًا، هناك سيناريو خامس يتمثل في تدخل الدولة عبر وزارة الثقافة، إما بدعم مالي وتنظيمي لإنقاذ الاتحاد، أو بفرض حلول قانونية تضمن استمراريته. هذه السيناريوهات تعكس أن الأزمة ليست مجرد حدث عابر، بل هي مفترق طرق سيحدد ما إذا كان الاتحاد سيستعيد دوره كواجهة ثقافية وطنية، أم سيتحول إلى مؤسسة شكلية فاقدة للشرعية والتأثير.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس





