ماجد البرهومي
أفريقيا برس – تونس. طوى التونسيون صفحة الدستور واستفتائه المثير للجدل، وسينتهي فصل الراحة والاستجمام بعد أسابيع ليبدأ الاستعداد فعليا للعودة المدرسية والجامعية بجيوب فارغة وأخرى لا شيء فيها لدى الكثير من التونسيين، وسيسود القلق والتململ والتذمر من الأوضاع الاجتماعية السائدة. وسينسى المنتشون بالدستور الجديد نشوتهم، كما سيتجاوز الغاضبون والرافضون غضبهم، وستعود قضية تدهور القدرة الشرائية للمواطن التونسي إلى الواجهة ما لم تجنح الحكومة إلى إجراءات عملية للتخفيف من وطأة هذه العودة مثلما يحصل في بعض البلدان.
وسيسعى الإتحاد العام التونسي للشغل خلال الفترة المقبلة، وبضغط من قواعده من الموظفين والعمال بالفكر والساعد، ونتيجة للظروف المعيشية المزرية، إلى مواصلة المطالبة بالزيادات التي طالب في وقت سابق ولم تجد آذانا صاغية من الحكومة إلى حد الآن. ويبدو أن قيادة الإتحاد ستكون مجبرة على التفاعل إيجابيا مع قواعدها التي تئن باعتبارها شريحة هامة من عموم مواطني هذا البلد الذين أنهكهم غلاء المعيشة وتدهور مقدرتهم الشرائية طيلة عشرية بالتمام والكمال.
وقد يتزامن شهر كانون الأول/ديسمبر الذي ستجرى فيه الانتخابات التشريعية، وفقا لخريطة الطريق التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد في وقت سابق، مع احتجاجات واضطرابات اجتماعية ما لم تأخذ الحكومة العبرة من الحكومات السابقة وتقوم بما يجب القيام به لتجنب وقوعها. فقد دأبت الأطراف الحاكمة منذ سنة 2011 على الاهتمام بالاستحقاقات السياسية الكبرى وبالصراعات فيما بينها وأهملت مطالب كثير من التونسيين التي خرج البعض من أجلها يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 وهي مطالب اجتماعية بالأساس تهم معيشة التونسيين.
لقد أكدت تونس خلال العشرية الماضية أنها قادرة على النجاح في تنظيم الاستحقاقات السياسية، رغم الكثير من الهنات التي شابتها، لكنها فشلت اقتصاديا واجتماعيا إلى حد بعيد، ولم تتبع التحولات الديمقراطية التي حصلت نهضة اقتصادية تحقق التنمية التي تحفظ هذه “الديمقراطية الوليدة”. وحتى المكاسب الموروثة عن دولة “الاستبداد” كما يسميها الثورجيون، تم التفريط فيها ولم تتم المحافظة عليها وتدعيمها بمكاسب أخرى، فعم الخراب وزاد الفساد على ما كان عليه في عهد الرئيس الراحل زين العابدين علي وهو ما عجل برحيل منظومة 2011.
وبالتالي ما على الرئيس قيس سعيد وجماعته إلا إدراك الحقيقة التي مفادها أن الشعب التونسي لا يرحم إذا تعلق الأمر بمعيشته، وأنه سيطيح بهم إذا لم يحققوا له مطالبه البسيطة في العيش الكريم في ظل دولة قوية يحترمها محيطها خلافا لما يحصل اليوم بعد أن أصبح من هب ودب يتدخل في شؤون تونس ويناقش مصيرها مع القادة الأجانب بعد أن شعر بوهنها. ففي الماضي القريب وحتى بداية الألفية لم تكن الخضراء تستورد المحروقات من النفط والغاز وكان لديها اكتفاؤها الذاتي من إنتاجها المحلي، لكنها اليوم تتعرض للإذلال من أقرب الأقربين لأنها باتت تستورد نسبة هامة من استهلاكها وهو أمر يزعج كثيرا الوطنيين والأحرار، وهناك دعوات لإيجاد حل لهذه المعضلة من خلال مضاعفة إنتاج بعض الحقول وإدخال المكتشفة حديثا حيز الاستغلال وفتح ملفات الفساد المتعلقة بها، والذهاب بعيدا في مجال الطاقات البديلة.
صندوق النقد الدولي
ولعل السؤال الذي يطرح اليوم ماذا لو رفض صندوق النقد الدولي منح تونس القرض الذي ترغب به والذي يقدر بقرابة الأربعة مليارات دولار، والذي تتفاوض من أجله منذ فترة مع الصندوق، ويفرض عليها بمقتضاه إملاءات تمس من صبغتها التي عرفت بها منذ الاستقلال من أنها دولة اجتماعية ترعى الفئات الفقيرة والهشة في كافة الميادين؟ ماذا لو استجاب الصندوق لمطلب جبهة الخلاص المعارضة للرئيس قيس سعيد واعتبر السلطة الحالية في تونس سلطة انقلاب ولا شرعية شعبية لها مثلما دعته الجبهة نفسها إلى ذلك إثر الإعلان عن نتائج الاستفتاء، مؤكدة له أن أي التزامات يقوم بها الصندوق مع الحكومة الحالية ستكون خارج الشرعية، وأن 76 في المئة من المعارضة لن تلتزم بها برأيها، أي أنها تطالبه صراحة بعدم منح تونس القرض في ظل الحكم الحالي؟
كيف ستتم في هذه الحالة تغطية العجز الحاصل في ميزانية هذا العام 2022 والذي قدر بذلك المبلغ المطلوب من صندوق النقد الدولي، والمرشح للزيادة بعد مفاجأة الحرب الروسية الأوكرانية التي لم يقرأ لها من أعد الميزانية أي حساب، والتي جعلت أسعار المحروقات والحبوب ترتفع بشكل جنوني؟ هل ستكفي مداخيل تصدير المواد الفلاحية من زيت زيتون وغيره، وتطور تصدير بعض الصناعات الهامة على غرار صناعة السيارات وقطع غيار السيارات وقطع غيار الطائرات والصناعات التكنولوجية وصناعة تكنولوجيا الطاقات البديلة والأدوية، والفوسفات الذي عادت تونس إلى تصديره مع الصناعات الكيميائية المرتبطة به، لسد العجز الذي سيزيد في الميزانية مع ارتفاع أسعار النفط والحبوب بفعل الحرب الروسية الأوكرانية؟
إن ما يلومه البعض على الحكومة الحالية هو عدم معالجتها لملفات الفساد بعد أن سارت على خطى الحكومات التي سبقتها خلال العشرية الماضية، وهي ملفات كانت ستغير من واقع الاقتصاد التونسي كثيرا على غرار ملف حقل نوارة النفطي والغازي ذي الإنتاج العالي، على سبيل المثال، والذي قيل مع بدايات اكتشافه أنه سيحد كثيرا من نزيف التوريد للغاز الذي يكلف خزينة الدولة الكثير. كما أن ما يلام على هذه الحكومة أيضا عدم ترفيعها في نسق تصدير مادة الفوسفات التي تضاعف ثمنها في السوق العالمية ثلاث مرات بالنظر إلى الحاجة العالمية لهذه المادة في إنتاج الأسمدة الفلاحية وإنتاج الغذاء في ظل أزمة الغذاء العالمية التي تسببت فيها الحرب الروسية الأوكرانية.
ولعل ما يثير القلق لدى كثير من التونسيين ان الحكومة لم تتحدث عن برنامج اقتصادي للفترة المقبلة، ولا أوضحت للرأي إن كانت لديها خطط بديلة في حال لم تتحصل على قرض من صندوق النقد الدولي وبقي الغموض يلف عملها طيلة الأشهر الماضية. كما أنها سلبية في علاقة بالطرف النقابي ولا تتفاعل مع مطالب الإتحاد العام التونسي للشغل الذي اضطر إلى الإضراب في قطاع المنشآت والمؤسسات العمومية من دون أن يجد طرفا حكوميا يدعوه إلى الحوار وإيجاد الحلول.
فأغلب الظن أن حكام تونس الجدد وقعوا في الفخ وساروا على خطى سابقيهم واهتموا بالمسائل السياسية تحت ضغط الداخل والخارج، فأجروا “الاستشارة الوطنية” و”الحوار الوطني” ومؤخرا “الاستفتاء” وبعد أشهر الانتخابات التشريعية، ولكن لم يحصل أي إنجاز يذكر فيما يتعلق بالمسألتين الاقتصادية والاجتماعية، ولم ير التونسيون إجراءات عملية للخروج من مستنقع العشرية الماضية. لقد اقتصر الأمر على انتقاد هذه العشرية، وتحميل المسؤولية عن الأوضاع المزرية إلى من حكموا فيها، تماما مثلما حمل قبلهم حكام هذه العشرية كل عجزهم لنظام بن علي الذي طبق طيلة السنوات الماضية الشماعة التي يعلقون عليها عجزهم.
فالدروس لم تُستق على ما يبدو من منظومة 2011 وإذا لم تغير الحكومة استراتيجيتها وتصارح الناس بحقيقة الأوضاع الاقتصادية وتقدم لهم خططا وبرامج حقيقية يمكن تطبيقها على أرض الواقع، لا أشياء هلامية يحلم أصحابها بقدرتها على إخراج البلد من هذا الوضع المزري، مع القيام بإجراءات عملية ملموسة كبادرة لحسن النية، فإن مصيرها ومصير من نصبها سيكون كمصير سابقيهم. فقد بان بالكاشف أن شعبية السياسيين في تونس مؤقتة ومرتبطة بما ينجزونه، ومن يرغب في الاستمرار عليه أن يحقق مطالب عموم التونسيين على أرض الواقع من جهة، وأن يغادر في الوقت المناسب وبدون التمسك طويلا بكرسي الحكم، وإلا تم إخراجه من قبل شعب يشهد تاريخه منذ عصر قرطاج أنه ميال إلى الثورة والتمرد بخلاف ما يتراءى لمن لم يتعمق في دراسته من الناحيتين السوسيولوجية والتاريخية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس