الاعتراف بفلسطين: كسرٌ لظلمٍ تاريخي ووفاءٌ للإنسانية

4
الاعتراف بفلسطين: كسرٌ لظلمٍ تاريخي ووفاءٌ للإنسانية
الاعتراف بفلسطين: كسرٌ لظلمٍ تاريخي ووفاءٌ للإنسانية

هالة بن يوسف، نائبة رئيس الأممية الاشتراكية للنساء

أفريقيا برس – تونس. قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرًا: ” لقد حان الوقت » في إشارة إلى الاعتراف بدولة فلسطين. عبارةٌ تبدو قوية، لكنها تطرح سؤالًا ملحًّا: حان الوقت لمَن؟ هل للدبلوماسية الفرنسية، أم للشعب الفلسطيني؟ فبالنسبة للفلسطينيين، الزمن توقّف منذ أكثر من خمسة وسبعين عامًا وفي غزة اليوم، تُباد العائلات، وتُقصف المستشفيات، ويُشوَّه الأطفال. الأرقام صادمة: عشرات الآلاف من الشهداء، غالبيتهم من المدنيين، خلال بضعة أشهر فقط. يضاف إلى ذلك الحصار، والجوع، وتلوث المياه، وانعدام الرعاية الصحية.

الزمن الفلسطيني ليس أفقًا دبلوماسيًا مجرّدًا، بل زمن دماء وأنقاض وصراع يومي من أجل الكرامة الإنسانية. وبينما تنشغل العواصم الغربية بـ “جداول سياسية”، يخوض شعبٌ بأكمله معركة البقاء.

فماذا يعني أن تقول فرنسا اليوم إن “الوقت قد حان”؟ أليس هذا الوقت قد فات منذ أكثر من نصف قرن؟ كان على باريس أن تعترف بفلسطين منذ اللحظة التي شاركت فيها مع بريطانيا، في مطلع القرن العشرين، في رسم خرائط الاستعمار وتقسيم أوطان لم تكن ملكًا لها. من وعد بلفور سنة 1917، إلى الانتداب على فلسطين، كانت هذه القوى الأوروبية شريكة في غرس بذور المأساة، متجاهلة عهودًا ومعاهدات أبرمت مع الدولة العثمانية آنذاك، والتي كانت تؤكد وحدة الأرض وحماية شعوبها.

إن مسؤولية فرنسا لا تُقاس فقط بما ورثته من مبادئ التنوير والثورة، بل أيضًا بما ورثته من التزامات لم تفِ بها. كان يفترض أن تكون في طليعة الدول التي تعيد التوازن للعدالة، لا أن تؤجّل لحظة الاعتراف عقودًا طويلة، تاركة جرحًا مفتوحًا ينزف منذ سبعين عامًا وأكثر.

اليوم، الاعتراف بفلسطين ليس انصياعًا لموجة دبلوماسية عابرة، بل هو عودة إلى روح العالمية في حقوق الإنسان. كيف لجمهورية قامت على قيم الحرية والإخاء والمساواة أن تبقى متأخرة عن أكثر من 140 دولة سبقتها إلى هذا الاعتراف؟

وفي مقابل هذا الصمت الفرنسي الطويل، يبرز صوتٌ آخر في أوروبا: إسبانيا. بقيادة حكومة اشتراكية اختارت منذ البداية موقفًا واضحًا وجريئًا، لم تتردد مدريد، ولم تنتظر إذنًا من واشنطن أو تل أبيب. بل أعلنت قرارها السياسي بوضوح: الانحياز للعدالة وللقانون الدولي. إنها تجربة تؤكد أن أوروبا ليست محكومة بالعجز، متى وُجدت حكومات تحمل قناعات ومبادئ، لا حسابات ومصالح ضيّقة.

ليست الدولة خطوطًا على خريطة، بل هي لغةٌ تحفظ الذاكرة، وشِعرٌ يوقظ الروح، ومطبخٌ يحمل نكهة الأرض، وموسيقى تفتح أبواب الحنين. فلسطين تسكن في كل بيت شعري لمحمود درويش، في كل طبق مقلوبة على مائدة عائلية، في كل لحن عودٍ يعبر المتوسط، في كل تطريزة تروي حكاية قرية أُحرقت حجارتها وبقيت في الذاكرة.

ما دامت الذاكرة حيّة تنتقل بين الأجيال، فلن يُمحى أي شعب. والتاريخ شاهد: أممٌ كاملة قاومت المنفى والاضطهاد بقوة ثقافتها وإصرارها على الحياة. فلسطين ليست وعدًا مؤجلًا، بل حقيقة إنسانية وثقافية حاضرة، لا يمكن اقتلاعها. والاعتراف بفلسطين ليس مجرد اعتراف سياسي، بل هو رفض لمحاولة محو شعب متجذّر منذ آلاف السنين؛ هو تأكيد أن كل حياة لها قيمة، وأنه لا وجود لترتيب هرمي بين الضحايا، وأن السلام الحق لا يُبنى على الظلم، بل على العدالة وحدها.

الاعتراف بفلسطين التزام قانوني دولي، نصّت عليه ميثاق الأمم المتحدة (المادة 1 الفقرة 2) التي تؤكد حق الشعوب في تقرير مصيرها. كما ذكّرت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري بتاريخ 9 يوليو 2004 حول الجدار: على جميع الدول أن لا تعترف بالوضع غير القانوني الناتج عن بناء الجدار، وألا تقدّم أي عون أو دعم لاستمراره». وعليه، فالاعتراف بفلسطين ليس منّة بل واجب. إنه إغلاق لأبواب الظلم وفتحٌ لأبواب السلام العادل. وعلينا أن نتذكّر: عندما يبكي مثقفون أو سياسيون أو مواطنون فرنسيون ضحايا السابع من أكتوبر، فمن الطبيعي أن يبكي الإنسان السوي كل ضحية للإرهاب، سواء كانت إسرائيلية أو فلسطينية، أوكرانية أو روسية، مؤمنة أو ملحدة. أن نبكي بعضًا ونغفل عن آخرين، هو خيانة للإنسانية.

لا يجب أن نقبل بالصهيونية كمنطق استعماري تمييزي. علينا أن نواجهها لنستعيد السلام والعيش المشترك. وعلينا أن نتعلم أن نضع أنفسنا مكان من اقتُلع من بيته وأرضه وذكرياته. والأهم، أن لا نسمح للتاريخ أن يعيد نفسه بالأخطاء ذاتها. إن الاعتراف بفلسطين هو أيضًا اعتراف بحق أوكرانيا في تاريخها، وهو رفض لأي استعمار مستقبلي لأرض أو ثقافة أي شعب.

إن الاعتراف بفلسطين هو تعهّد بإغلاق أبواب الجور وفتح أبواب السلم العادل؛ هو وعد بمستقبل تصان فيه الكرامة وتُحمى فيه الإنسانية. ذلك هو الخير المشترك الذي ينبغي أن نصونه جميعًا.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here