تطويع القضاء التونسي… إجراءات رئاسية لتفكيك منظومة العدالة

تطويع القضاء التونسي... إجراءات رئاسية لتفكيك منظومة العدالة
تطويع القضاء التونسي... إجراءات رئاسية لتفكيك منظومة العدالة

أفريقيا برس – تونس. صادر الرئيس التونسي قيس سعيد استقلالية المرفق القضائي، لتتوالى الانتهاكات بحق المواطنين، وهو ما يتصل بسلسلة من الإجراءات أشاعت الرعب داخل منظومة العدالة.

– في ليلة واحدة، ضرب إعصار رئاسي “القضاء الجالس” في تونس، حين أقدم الرئيس قيس سعيد على فصل 57 قاضياً في قرارٍ واحد، متجاوزاً كل الضمانات القانونية والإجراءات التأديبية المنصوص عليها. وكان القاضي هشام بن خالد أحد ضحايا القرار الصادم (رقم 516 لسنة 2022) والصادر في الأول من يونيو/ حزيران 2022.

ما يزال غضب بن خالد متأججاً، ليس فقط لما تعرّض له ورفاقه من إقصاء تعسفي، بل لما يمثله القرار من انتهاك صارخ لهيبة القضاء واستقلاليته.

والأكثر إيلاماً أن هؤلاء القضاة لم يُدانوا بأية جريمة، فيما حُرموا حتى من أبسط حقوق الدفاع عن أنفسهم أمام اتهامات لم يواجهوا بها أصلاً، لذا يقول بن خالد، بصوت يرتجف غيظاً، “أُقصيت بقرار فوقي من قيس سعيد، وبموجب مرسوم لا يُطعن فيه إلا بعد الحصول على أحكام جزائية باتة بالبراءة، وهذا في قضايا غير موجودة أصلاً”، ثم تصاعد انفعاله بينما يضيف: “حين يُقصى القاضي لأنّه لم يُطأطئ رأسه، وحين تُسخّر المحاكم لتصفية الخصوم السياسيين، فإنّ العدالة تتحوّل إلى قناعٍ للبطش. وحين تُمزّق السلطة مبدأ الفصل بين السلطات، وتحوّل القضاء إلى وظيفة، تصبح الدولة بلا روح، والمواطن بلا أمان، بالتالي يصبح الحديث عن العدالة ضرباً من الخيال”.

منذ ذلك يتزايد ضحايا منظومة البطش، وقد بلغت الانتهاكات حدّ الحكم بالإعدام في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على مواطن بسبب منشورات سلمية على “فيسبوك”، وإن “كان المتهم قد حصل على عفو رئاسي بعد أيام، لكن الحكم وحيثياته غير مسبوقين في تونس”، بحسب ما تقول منظمة هيومان رايتس ووتش، ويدخل ذلك ضمن سياق كامل من إهدار مبادئ العدالة كافة، ففي 19 إبريل/ نيسان الماضي، أصدرت المحكمة الابتدائية في تونس العاصمة أحكاماً بالسجن تراوحت بين أربعة أعوام و66 عاماً بحق 37 شخصاً، من بينهم شخصيات سياسية معارضة بارزة، ومحامون، ومدافعون عن حقوق الإنسان. ويعلّق موقع منظمة العفو الدولية على تلك الأحكام، مشيراً إلى أنها “على خلفية تُهم لا أساس لها، والمتهمون أدينوا لمجرد ممارستهم السلمية لحقوقهم الإنسانية. وقد شابت محاكمتهم انتهاكات إجرائية وجوهرية، وتجاهلٌ صارخ لحقوق الدفاع”.

كيف سيطر الرئيس على القضاء؟

مثّلت “قضية التآمر على أمن الدولة” تتويجاً لجملة من الإجراءات المتتالية التي قامت بها السلطات التونسية للسيطرة الكاملة على القضاء، بعد حلّ البرلمان وإعلان الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو/ تموز 2021، كما يوضح رياض شعيبي أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية وأحد المتهمين في القضية، قائلاً: “وجدت نفسي متهماً بالتآمر واستهداف رئيس الدولة من دون أن يكون هناك رابط فعلي بين أغلب المتهمين، ودون تقديم النيابة العمومية دليلاً واحداً على ادعاءاتها”.

وركّز الرئيس جميع الصلاحيات في يده وعمل على تفكيك سيادة القانون واستقلالية القضاء، فتراجعت المكاسب الديمقراطية المتحققة خلال العقد الماضي، كما يقول تقرير صادر عن اللجنة الدولية للحقوقيين في ديسمبر/ كانون الأول 2023، بعنوان “الاعتداءات على القضاة وأعضاء النيابة العمومية في تونس: إعفاءات وملاحقات جنائية تعسفية”.

ولتعزيز سيطرته، أصدر سعيّد في الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول 2021 المرسوم الرئاسي رقم 117 لسنة 2021، القاضي بتعليق الجزء الأكبر من دستور عام 2014، وإطالة أمد تعليق عمل البرلمان وتخويل نفسه صلاحيات تنفيذية وتشريعية كاملة، بما فــي ذلك الحكم بمرسوم فــي المسائل المتعلقة بسير عمـل السلطة القضائية، بحسب المصدر السابق.

إضافة إلى تغيير الإطار الدستوري والقانوني الناظم، يدعم الرئيس إحكامه للسيطرة على القضاء عبر قرارات ومراسيم ومواد قانونية، منها ما جاء في دستور 2022 بأن “القضاء وظيفة” بدلاً من “سلطة مستقلة” كما نص على ذلك دستور 2014، وبالإضافة إلى ذلك المرسوم الرئاسي الصادر في 12 فبراير/ شباط 2022، رقم 11 لسنة 2022، وقضى بحلّ المجلس الأعلى للقضاء الذي كان يتمتع بالاستقلالية المؤسساتية بحسب دستور 2014، وكان مسؤولاً عن تعيين القضاة وترقيتهم وتأديبهم، واستبدل المجلس المنتخب بالمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، على أن يعين أغلب أعضائه رئيس الدولة. ليمنح المرسوم هذا الرئيس سلطة مباشرة في تشكيل المجلس المؤقت (من خلال تعيين جزء كبير من أعضائه) وسمح له بالتدخل في عمله، وهو ما قوّض بشكل كبير استقلالية السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، بحسب رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي.

و”لا يمكن فهم خلفيات حلّ المجلس الأعلى للقضاء ثم تنصيب مجلس معين بصلاحيات محدودة وإدارة القضاء بقرارات إدارية، إلا بالسؤال عن فكرة الفصل بين السلطات وموقف الحكم منها”، يقول القاضي عفيف الجعايدي؛ عضو جمعية القضاة التونسيين، مضيفاً: “نُلاحظ أن النظام لا يخفي رفضه لاعتبار القضاء سلطة مستقلة، وبالتالي استهدافه للقضاة المستقلين وللمؤسسات”.

رعب القضاة

في 14 أغسطس/آب 2022، نشرت صفحة وزارة العدل على “فيسبوك” أن القضاة المشمولين بالإعفاء هم محل إجراءات تتبعات جزائية. وحتى بعد توقيف المحكمة الإدارية قرار إعفاء 49 قاضياً في 23 يناير/ كانون الثاني 2023، لطعنهم على القرار في نهاية يونيو 2022، وطلبها من السلطة التنفيذية والمجلس الأعلى المؤقت للقضاء تقديم معلومات عن أسباب الإعفاء والأدلة الداعمة له، لم يتمكن الطاعنون من العودة إلى مناصبهم، وفق تقرير “الاعتداءات على القضاة وأعضاء النيابة العمومية في تونس”. ومن بين الذين تقدموا بطعن للمحكمة الإدارية، القاضي حمادي الرحماني، الذي شمله قرار الإعفاء، لتصدر المحكمة الإذن بتوقيف القرار، وفق أوراق القضية، لكن يظل الأمر دون جدوى وتُهدد أحكام القضاء بعدما أهدرت استقلاليته.

ومن هنا يبدي رئيس جمعية القضاة حسرةً على ما آل إليه حال المرفق بأكمله، ويصفه بأنه “بات يتيماً دون مؤسسة تحميه، ما سهّل سيطرة السلطة التنفيذية عليه”، مضيفاً أن “وزارة العدل باتت تتولى دون أي نص قانوني التحكم في المسارات المهنية للقضاة بالنقل والتعيين في الوظائف القضائية المهمة والحساسة بواسطة مذكرات العمل الصادرة طول السنة القضائية وفق قاعدة الجزاء والعقاب، ما أتاح تغيير المشهد القضائي برمته وإشاعة أجواء الخوف والرعب بين القضاة وتطويع القضاء لخدمة أجندات وأهداف السلطة السياسية”.

فوضى وانهيار في المرفق القضائي

يقضي القيادي السابق في حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي عقوبة السجن منذ اعتقاله في فبراير 2023، والحكم عليه بـ 13 عاماً، ضمن ما يُعرف بقضية التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، التي ضمت أربعين شخصية سياسية وإعلامية، تراوحت عقوبة سجنهم بين 13 و66 عاماً.

ولا يختلف حاله عن المحامي أحمد صواب المعتقل في 21 إبريل 2025، بعد يومين فقط من مشاركته في مؤتمر صحافي، وانتقاده غياب معايير المحاكمة العادلة الخاصة بـ”قضية التآمر”، بصفته محامي دفاع ثلاثة من المتهمين في القضية. ليُخفى قسرياً مدة يومين، قبل أن يصدر قرار احتجازه قيد الإيقاف التحفظي ويواجه تهم “تكوين وفاق بقصد ارتكاب جرائم إرهابية ونشر أخبار كاذبة”، بحسب ما نشرته منظّمة العفو الدولية في 30 أكتوبر 2025، التي وصفت هذه التهم بأنها “لا أساس لها وتنطوي على أحكام شديدة بالسجن” لمجرد ممارسة صواب حقه في حرية التعبير وأداء واجباته المهنية كمحامٍ حقوقي، وقالت المنظمة إن اعتقال صواب وملاحقته القضائية كانا انتقاماً من انتقاده عدم اتباع الإجراءات القانونية الواجبة وعدم استقلال المحكمة، فيما يخصّ قضية التآمر التي كان يمثّل فيها ثلاثة متهمين.

علاوة على ما سبق، يضيف الأكاديمي شعيبي الذي شُطب اسمه من ملف القضية لوجود طعن في قرار دائرة الاتهام بالتعقيب قائلاً إن السبب الحقيقي لهذه المتابعات هو إقصاء كل صوت معارض لانقلاب قيس سعيد، والتنكيل به، مضيفاً: “بادرت مجموعة من الشخصيات السياسية بالمناداة لحوار يجمع التونسيين على ميثاق ديمقراطي اصطلح على تسميته (عهد تونس) وأمام جدية هذه المبادرة واستشراف قدرتها على أن تمثل سداً أمام تغوّل السلطة التنفيذية على ما سواها، لم يجد رئيس الدولة حلاً غير اختطاف بعض قيادات المبادرة من منازلهم، وحشر مجموعة من الأسماء الأخرى لا صلة لهم بها، وفتح تحقيق وملاحقة آخرين بقوا في حالة سراح (أُفرج عنهم على ذمة القضية) أو فُرض عليهم التهجير والنفي، كل ذلك يأتي في إطار مشروع السلطة لغلق الفضاء العمومي وكبت كل الأصوات الحرة وإقصاء المعارضة نهائياً من الفعل السياسي في البلاد”.

تناغماً مع الإعصار الرئاسي وآثاره المتفاقمة على المرفق القضائي، ضربت جهات التحقيق في القضية هذه بعرض الحائط الإجراءات القانونية المتعلقة بسير التحقيق، إذ يخلص الشعيبي إلى وضوح نية جهات التحقيق اصطناع قضية وهمية، مدللاً على ذلك بأنه، على مدى سنتين ونصف من الإيقاف، لم يكلف المحقق نفسه سماع المتهمين أكثر من مرة واحدة، أما من بقي في حالة إطلاق سراح مثله، فقد تعرّض للمتابعة والتفتيش من دون الوصول إلى دليل إدانة واحد.

السلطة هي المُخلّص

يُحذر القضاة من مآلات الوضع القانوني، وكما يقول هشام بن خالد: “لقد انهار المرفق القضائي من الداخل، لم تعد العدالة هي التي تزن أفعال الناس، بل السلطة هي التي تزن القضاة أنفسهم، في المحاكم القضاة يتجنبون الحديث حتى في القانون، الكلمة نفسها أصبحت تهمة”، مضيفاً: “لم تكن عبارة (تطهير القضاء) سوى غلاف لغوي لعملية ترويض ممنهجة، لقد بدأت الحملة بتشويه سمعة القضاة عبر صفحات الموالاة ووسائل إعلام تُقدّمهم للرأي العام كعقبة أمام الإصلاح، ثم تتالت اللقاءات المركزة والمتكررة بين قيس سعيّد ووزيرة العدل، ليلي جفال، لتكرّس خطاباً مفاده أن القضاء فاسد، والسلطة هي المُخلّص”.

ويلخص بن خالد ما جرى بأن “تطهير” سعيّد المزعوم للقضاء لم يكن محاربة للفساد “بل كان تركيعاً للكلّ وتدنيساً للعدالة كحق إنساني وتصفية للاستقلالية، بدعم وسائل إعلام ومنصات رقمية موالية للرئيس”.

بالتالي، يقول القاضي الحمادي، الذي يعد واحداً من ثمانية قضاة خضعوا لإجراءات تأديبية،: “ما يجري خطره كبير جدا، الثقة بالقضاء اهتزت بشكل كبير والادعاء باستقلاله وعدم التدخل فيه لا يجد من يصدقه”.

المصدر: العربي الجديد

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here