تونس بين خنق المجتمع المدني واستحقاق الإصلاح

تونس بين خنق المجتمع المدني واستحقاق الإصلاح
تونس بين خنق المجتمع المدني واستحقاق الإصلاح

هالة بن يوسف، نائبة رئيس الأممية الاشتراكية للنساء

أفريقيا برس – تونس. حين تُكمَّم الأصوات التي صنعت الوعي، يضيق الوطن بأنفاسه، لأن الديمقراطية لا تعيش بلا شركاء، ولا تتنفس بلا مجتمع مدني حيّ. شهدت تونس في الأيام الأخيرة موجة من قرارات تعليق أنشطة بعض الجمعيات المدنية، على غرار الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات (ATFD) والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (FTDES). خطوةٌ أثارت القلق، لا لأنها تخص مؤسسات بعينها، بل لأنها تمسّ أحد أعمدة الدولة الحديثة: الفضاء المدني، الذي شكّل لعقود رئة الديمقراطية وضميرها الحي.

ذاكرةٌ لا تُختصر بقرار الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات فهي ليست اسماً عابراً في سجلّ الجمعيات، بل تاريخٌ من النضال والمراكمة. تأسست سنة 1989 في سياق اجتماعي وسياسي كان يضيّق على الأصوات النسوية المستقلة، فكانت نموذجاً لجيل من النساء آمنّ بأن الحرية لا تُجزّأ، وأن الدفاع عن حقوق المرأة هو جزء من الدفاع عن المجتمع بأكمله. خاضت” ATFD” معارك تشريعية، دافعت عن ضحايا العنف، ورافقت التحولات الكبرى التي عرفتها تونس قبل وبعد الثورة، بشجاعة ونزاهة، وبعقل نقدي ظلّ شاهداً ومؤثراً. تعليق نشاطها، بهذا الشكل، ليس شأناً إدارياً بسيطاً، بل رسالة سياسية مقلقة تُضعف إرثاً تراكم عبر ثلاثة عقود من العمل الصادق. بين واجب الدولة وحق المجتمع من الطبيعي أن تمارس الدولة الرقابة على التمويل والمحاسبة وفق القانون، فذلك من صميم الحوكمة والشفافية.

لكنّ التمييز بين الرقابة والتنفير، بين التنظيم والتضييق، هو ما يصنع الفرق بين الدولة الديمقراطية والدولة السلطوية. حين تتحوّل إجراءات التتبّع إلى أداة تقييد، وحين تُعلَّق الجمعيات دون حوار أو حق في الدفاع، فإننا نقترب من لحظة خطيرة: لحظة تجفيف الفضاء العام، وإقصاء كلّ من يعبّر أو ينتقد أو يقترح. المجتمع المدني في تونس ليس خصماً للسلطة، بل شريكاً لها. هو الذي واكب الانتقال الديمقراطي، وساهم في صياغة الدستور، ودافع عن القيم المدنية في وجه التشدّد والاستبداد على حدّ سواء. وكل محاولة لإضعافه هي في الواقع إضعاف للدولة نفسها، لأن الدولة التي تخاف من شركائها تفقد قدرتها على الإصلاح، وتتحوّل تدريجياً إلى سلطة خائفة من مواطنيها.

من رؤية مجزأة إلى إستراتيجية وطنية ما يحدث اليوم لا يمكن فصله عن رؤية تنموية وسياسية مجزأة عاشتها البلاد منذ عقود. قرارات متفرقة، بلا تنسيق ولا بوصلة، جعلت الدولة تنظر إلى الجمعيات والمناطق والقطاعات نظرة قطاعية لا شمولية. في حين أن تونس تحتاج اليوم إلى إستراتيجية وطنية شاملة تعيد تعريف التنمية والحرية في ضوءٍ جديد: تنمية تُقاس بالعدالة الاجتماعية لا بالأرقام، وحرية تُبنى على المشاركة لا على الخوف. إنّ النمو الحقيقي لا يقوم على إخضاع العقول بل على إطلاقها. ولا يمكن أن يُبنى وطن على إسكات من يحبّه، أو على تهميش من نذر نفسه لخدمته. فالمجتمع المدني ليس صوتاً مزعجاً للدولة، بل جهازها المناعيّ، ينذرها حين تختلّ ويقوّمها حين تنحرف.

نداء من أجل الوعي والإصلاح نأمل أن تدرك الدولة أن إغلاق الفضاء المدني هو اختناق رمزي وسياسي لكلّ ما تبقّى من أملٍ في الإصلاح. وأن تدرك أنّ السلطة التي تُسكت الجمعيات اليوم، قد تُسكت غداً الأحزاب، ثم الإعلام، ثم المواطنين أنفسهم. وهكذا يُبنى الاستبداد، لا دفعةً واحدة، بل بخطواتٍ صغيرة متتالية تُفرغ الدولة من تنوّعها ومن حيويتها.

المطلوب اليوم ليس المواجهة، بل المصارحة والحوار: آلية شفافة لتقويم الأخطاء، وقوانين عادلة تُطبّق على الجميع، وإيمان حقيقي بأن الشراكة لا تُضعف الدولة بل تحصّنها. لقد مرّت تونس بتجارب مؤلمة، لكنها لم تفقد روحها ولا وعيها. ولعلّ هذه الأزمة تكون فرصة لمراجعة المسار قبل أن تضيق دائرة الحرية أكثر. فحين تُغلَق النوافذ، لا يدخل النور، ولا يبقى للهواء منفذ. الديمقراطية ليست شعاراً، بل ممارسة يومية ومسؤولية مشتركة. فلنحافظ على هذا المكسب، لأنه إن ضاع، لن يبقى سوى الصمت… والصمت لا يبني وطناً.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here