أفريقيا برس – تونس. تتصدّر نقابة الصحافيين التونسيين المشهد الإعلامي العربي، سواء في المعارك التي تخوضها حفاظاً على حرية الصحافيين في البلاد أمام الردة الكبرى على الحريات التي تعيشها تونس، أو بتضامنها مع الصحافيين في فلسطين وسائر الدول العربية الأخرى، ما يضعها غالباً في موقف المواجهة مع السلطة في تونس وخارجها. وآخر فصول هذه المواجهة، رفض منح النقيب زياد الدبار تأشيرة لدخول الإمارات للمشاركة في اجتماعات اتحاد الصحافيين العرب.
في ما يلي يتحدّث زياد الدبار إلى “العربي الجديد” عن التحديات التي يواجهها الإعلام في تونس على الصعيدين السياسي والاقتصادي، مشرّحاً المشهد وتداعياته على هذا القطاع.
يواجه الصحافيون في تونس منذ أشهر مجموعة من التحديات التي تجعل العمل الإعلامي شبه مستحيل. كيف تقيّمون هذه التحديات في النقابة؟
عند الحديث عن قطاع صحافة، دائماً ما نتكلم على الممارسة ونتكلم على التشريعات بالأساس. إذا قلنا ممارسة، يعني الممارسة الصحافية من حيث الحق في الوصول إلى المعلومة والمعطيات، ومن حيث احترام حقوق الصحافيين الاقتصادية والاجتماعية.
إذا قلنا تشريعات، نحن نقول التشريعات الضامنة لحرية العمل الصحافي. ما لاحظناه اليوم في تونس تقريباً منذ سنوات الثورة حتى الآن، خصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة، هناك نوع من تضييق هامش الحرية من طريق سن قوانين جديدة لا تخدم حرية العمل الصحافي، وتجعل كل صحافي في حالة سراح شرطي على خلفية عمله الصحافي. أي إنّ كلّ صحافي تونسي مهدد على خلفية عمله الصحافي بمقاضاته بموجب المرسوم 54.
على ماذا ينصّ المرسوم 54؟ وكيف ينعكس فعلياً على حرية الممارسة الصحافية؟
المرسوم 54 من حيث الشكل، كان قانوناً أو مرسوماً ضد الجرائم الإلكترونية. أي قضايا تبييض الأموال الإلكتروني وجرائم القرصنة. لكن التوجه السياسي والقضائي لأجهزة الدولة، ركّز فقط على قضايا الرأي، سماها قانون “التشهير”. ويعطي هذا المرسوم الأجهزة القضائية إمكانية سجن الصحافيين، ونحن الآن نتكلم ولدينا خمسة صحافين مسجونين، بمن فيهم أربعة صحافيين ومعلقة إعلامية، على خلفية هذا المرسوم. يعني هذا المرسوم ينسف تقريباً كل مقومات العمل الصحافي. فعادة بعد الثورة حصل اتفاق ضمني أن المبدأ الأساسي الذي تسير وفقه الصحافة هو الحرية، أما الحدّ والملاحقة، فهي الاستثناء، لكن الآن الحرية مهددة جداً. هناك تخويف كبير للقطاع الصحافي في تونس، من طرف السلطة السياسية القائمة، وخصوصاً تحت ظل هذا المرسوم. يعني كل مشكلتنا اليوم في تونس للأسف الشديد تتلخص على مستوى سجن الصحافيين وفق المرسوم 54، هذا المرسوم الذي يناقض خطاب مسؤولي الدولة، ولا سيما خطاب رئيس الجمهورية الذي يقول إنه مع الحريات. لكن على مستوى الواقع هناك تهديدات للحريات. طبعاً، المسألة تكون أعمق بكثير من مرسوم أو من قانون خاص، لأن الحديث عن حرية الصحافة في تونس، يحيلنا على الحديث عن عدة مواضيع أخرى، أهمها أنه لا يمكن الحديث عن صحافة في ظل التخويف والتفقير.
نحن نتحدّث إذاً عن مستوَيَين من الأزمات التي تواجه الصحافي التونسي حالياً: الأول هو التضييق على الحريات والثاني اقتصادي.
المستوى الاقتصادي مهم جداً، فإذا كان الصحافي غير ضامن لحقوقه الاقتصادية والاجتماعية، يصبح كل تفكيره مركّزاً على كيفية تأمين هذه الحقوق، ويأتي هذا على حساب نوعية العمل الصحافي المقدم. ببساطة، الإعلام يعتبر صناعة، وصناعة الإعلام تتطلب إمكانات عدة، وتتطلب وجود صحافيين ومؤسسات، ووجود سياسة رسمية للدولة التونسية. ما لاحظناه هو غياب هذه السياسة الرسمية، من طرف الدولة ومؤسساتها. وعندما نقول الدولة، فنحن نتكلّم على رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة، والبرلمان، والمؤسسة القضائية، وكل مؤسسات الدولة وهياكل المهنة والصحافيين. هناك غياب لأي رؤية من طرف الدولة التونسية لقطاع الإعلام، عكس قطاعات أخرى مثل السياحة، والزراعة، والصناعة… وبالتالي، اليوم لدينا مشكلتان كبيرتان: لدينا صحافيون مسجونون على خلفية المرسوم 54، وصحافيون آخرون مهددون بالسجن، كذلك لدينا صحافيون يعيشون في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة جداً، وبالتالي من الممكن أن نقول إن قطاع الصحافة قطاع منكوب اقتصادياً.
هل لدى نقابة الصحافيين أرقام واضحة حول أثر الأزمة الاقتصادية على قطاع الإعلام في تونس؟
في دراسة أعددناها في النقابة، تبيّن أن 80 في المائة من المؤسسات الصحافية الخاصة قابلة للاندثار، وقابلة للإقفال خلال عام. نحن نتكلّم هنا على القطاع الخاص. لهذه الأزمة مسببات عدة، منها غياب الشفافية، وغياب موارد الإشهار (الإعلانات)، وغياب أي دعم، فالقطاع حالياً هشّ. وعندما نقول 80 في المائة، فإن النسبة غير مفاجئة، إذا ما نظرنا إلى مسار المشهد الإعلامي منذ الثورة حتى اليوم. فبعد الثورة، عام 2011، وصل عدد المؤسسات الإعلامية الخاصة إلى 145 (مرئي ومسموع ومكتوب وإلكتروني)، أما الآن فعددها لا يتجاوز 45 مؤسسة.
لكن عند النظر إلى السنوات الـ13 الأخيرة، هل يمكن الاعتبار أن النقطة الفاصلة التي أرّخت للتغيير في المشهد الإعلامي كانت التعديلات الدستورية التي أجراها رئيس الجمهورية قيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز 2021؟
25 يوليو 2021 هو في الأساس تاريخ شهد تحولاً سياسياً في البلاد. هذا التحول السياسي لم يراعِ خصوصية الإعلام في تونس. وظهرت تهديدات على مستوى الحريات، مرتبطة بالقوانين وبتوجه السلطة القضائية في طريقة تناولها لقضايا الحريات أو قضايا الصحافة. أولاً هناك اليوم فراغ مؤسساتي في تونس، أي إنه لا وجود لهيئة تعديلية، تتابع الإعلام السمعي ـ البصري. في السابق كانت هناك “الهايكا”، ودورها اليوم مغيّب تماماً، وبالتالي أصبحت صلاحياتها معدومة، وفرضت السلطة السياسية أمراً واقعاً من خلال ضرب هذا المكسب، أي دور الهايكا.
المفارقة الغريبة أن رئيس الجمهورية نفسه انتفع كثيراً من المرسوم 115 (المنظم للمهنة) ومن هامش الحرية الذي يوفره، لناحية حرية التعبير. لكن رئيس الجمهورية نفسه يرفض أن يستفيد غيره من المرسوم، فأصدر لنا المرسوم 54 الذي ينسف في فصل وحيد باباً كاملاً من الدستور. لهذا كررنا في النقابة مراراً، أن هناك تضارباً بين التصريحات الرسمية للدولة وواقع الحال. ووصلنا إلى مرحلة عبثية يحاكم فيها صحافيون فقط لأنهم غطوا تظاهرات معيّنة.
وصل إذاً رئيس الجمهورية الحالي إلى السلطة مستفيداً من قوانين حرية التعبير، فهل ترى أنّ هذا الانقضاض على الحريات من السنوات الأربع الأخيرة، سببه الأساسي هو الخوف من الدور الذي لعبه الإعلام في تشكيل الرأي العام بعد الثورة؟
سأكون صريحاً معك، فإذا كان للبعض تحفظات على المحتوى الإعلامي، لدينا ملايين التحفظات، لأنه ليس هذا هو الإعلام الذي حلمنا به بعد الثورة. ولنكون متسقين مع مواقفنا السابقة واللاحقة، فقد عانى قطاع الإعلام في تونس الأمرين في السابق عندما كان تحت سلطة نظام زين العابدين بن علي، ثمّ بعد الثورة انتشرت مقولة نعرفها جيداً نحن الصحافيين، وهي: “لدينا صحافيون وليس لدينا صحافة”. صحيح أنه في السنوات العشر الأخيرة حصل انفتاح إعلامي كبير، لكن انتقل القطاع إلى سلطة رأس المال، وبعض الأحزاب السياسية أنشأت قنوات ووسائل إعلام لدعم أيديولوجيا محددة، وأصبحت بعدها مجرد أدوات بروباغندا لهذا المرشح على حساب الآخر. حصل تحوّل من نموذج الدولة التي تحكم الإعلام نحو نموذج غياب الدولة التام. لكن أخيراً اختارت الدولة العودة، وعندما استرجعت وجودها في القطاع، استرجعته بطريقة خاطئة، فمن غير المعقول ما نشاهده اليوم من أسلوب زجري قمعي للصحافين تحت ما يسمى فرض النظام. لننظر إلى القنوات التلفزيونية اليوم، نلاحظ غياباً تاماً للبرامج السياسية، نتيجة هذا الخوف.
المصدر: العربي الجديد
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس