أفريقيا برس – تونس. لا تقوى حياة المزليني على كبح دموعها وهي تصرخ بحرقة على مدرج المسرح البلدي بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس: “نريد الحقيقة”، بينما تحمل بين يديها، مثل باقي الأمهات المشاركات في الوقفة الاحتجاجية، صورة ابنها المفقود في البحر منذ تموز/يوليو 2022.
ومثل حياة تجمعت العشرات من العائلات التونسية وسط الشارع، في تحرك احتجاجي رمزي يحدث بشكل متزامن أيضاً في عدد من مدن الضفة الجنوبية لحوض البحر المتوسط لإحياء “اليوم العالمي لمحاربة نظام الحدود القاتل” والتنديد بالقيود المفروضة على حرية التنقل بين الشمال والجنوب.
ووضع النشطاء المحتجون قارباً رمزياً من الكرتون، وقد كتب عليه “حرية” ورسم لطائر الحمام، ومن تحت القارب عربة مغطاة بقماش أزرق يجسد البحر الأبيض المتوسط
وقد كتب عليه “مقبرة المهاجرين”.
ويُقدر عدد المهاجرين المفقودين الذين انطلقوا من السواحل التونسية وحدها في 2022 نحو 600 مهاجر من جنسيات مختلفة، بينما وصل السواحل الإيطالية أكثر من 18 ألف تونسي، وفق بيانات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ولكن أعداد الضحايا والمفقودين أعلى من ذلك بكثير إذا تمت إضافة أولئك الذين شاركوا في موجات الهجرة منذ نحو عقد ولا يعرف شيء عن مصيرهم حتى اليوم.
وفقدت حياة ابنها سيف الدين العبيدي (23 عاماً)، الذي غادر تونس يوم 19 تموز/يوليو 2022 على متن قارب من سواحل مدينة منزل تميم بولاية نابل ومعه أربعة مرافقين على نفس المركب باتجاه السواحل الإيطالية.
وتروي حياة لوكالة الأنباء الألمانية (د. ب. أ): “كان يعمل في شركة للدراجات النارية. غادر الكثير من أصدقائه وبدأوا يحثونه على اللحاق بهم. أرسلوا له صورهم وقدموا له تطمينات عن الرحلة. لكنه ذهب ولم يعد”.
وتقطعت السبل بحياة منذ ذلك الحين، وأصبحت تتردد يومياً على سجون البلاد ووزارة الخارجية، لمعرفة أي شيء عن ابنها.
وتقول في يأس: “لم أترك مكاناً لم أذهب إليه. دائماً نفس الإجابة: لا معلومات. ولا أعرف حتى اليوم مصير ابني. سأتقبل الأمر في كل الحالات إن كان ميتاً أو حياً. فقط أريد الحقيقة”.
ولا يختلف حال حياة عن والدة بدر الدين حسين (26 عاماً) الذي غادر عبر سواحل قليبية شمال شرق تونس يوم 27 تموز/يوليو 2022 ،على متن قارب الكياك مع أربعة من أصدقائه توزعوا على قاربين.
وقالت والدة بدر الدين: “في اليوم التالي تدخل صيادون لإنقاذهم في البحر. وقال رفاقه الأربعة الموقوفون في السجن اليوم إنه سقط في البحر بسبب موجة قوية ولم يطف بعدها على السطح”.
وتابعت وهي تقاوم البكاء: “ابني قوي البنية ويجيد الغطس والعوم. إذا توفي فأين الجثة. أخشى أن يكون حدث شيء مشابه لما حدث في جرجيس”.
ولا زال التونسيون في مدينة جرجيس جنوب البلاد تحت الصدمة بعد غرق مركب يقل 18 شاباً من المدينة لقوا حتفهم في حادث مأساوي في أيلول/سبتمبر الماضي، وقد تبين لاحقاً أن عدداً من أبنائهم دفنوا سراً من قبل السلطات من دون إخطارهم.
وقال الرئيس قيس سعيد، هذا الأسبوع، إن هناك أدلة تشير إلى أن الحادث كان مدبراً، وإن المركب جرى إغراقه عمداً.
وشهدت تونس طفرة مهمة في أعداد المغادرين للبلاد منذ عام 2011.
وقد رافق الأشهر الأولى للانفلات الأمني، الذي أعقب أحداث الثورة ضد حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في ذلك العام، خروج نحو 20 ألف في فترة قصيرة، انتهى المطاف بأغلبها على سواحل جزيرة لامبيدوزا الإيطالية.
وفقد محمد الرحموني، وهو تونسي قدم من مدينة صفاقس، ابنه مهيب الرحموني، في السادس من أيلول/سبتمبر منذ عام 2012، ولا يملك أي أدلة بشأنه منذ ذلك الوقت.
وقال الرحموني لـ(د. ب. أ): ” قال أصدقاؤه إنهم وصلوا إلى السواحل الإيطالية سباحة، وإن مركبهم تعطل في عرض البحر. المعلومات متضاربة وبعضها غير منطقي”.
وتابع بصوت عال، بينما ينتشر عناصر الشرطة قرب المحتجين: “إذا مات سنتقبّل ذلك. نريد الجثة لنرتاح. زوجتي هبط وزنها إلى 48 كيلوغراماً عائلة كاملة دُمرت”.
ويقول النشطاء المشاركون في الوقفة الاحتجاجية في “اليوم العالمي لمحاربة نظام الحدود القاتل”، عبر بيان مشترك: “عاماً بعد عام، نشهد مذابح مستمرة على الحدود، وفي أماكن الاحتجاز المصممة لثني المهاجرين عن مغادرة البلاد. لا نستطيع أن ننسى هؤلاء الضحايا، لا نريد أن نبقى صامتين أمام ما يحدث”.
وقال الناشط عمر بن رمضان، العضو في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لـ (د. ب. ا): “نحن هنا للتأكيد على التضامن مع كل العائلات والتنديد بسياسات الحدود القاتلة للاتحاد الأوروبي، التي حولت البحر المتوسط إلى أكبر مقبرة”.
وتابع الناشط: “تقريباً ثلث الموتى على طول السواحل التونسية. هذه مناسبة لندعو السلطات هنا في تونس لمراجعة سياساتها ومقاربتها للبحث والإنقاذ على طول السواحل، ولمنح العائلات إجابات واضحة عن مصير ذويهم المفقودين”.
غالبا ما يمثل ملف الهجرة موضع خلاف بين تونس وشركائها الأوروبيين، وقد وجهت منظمات حقوقية في تونس انتقادات متكررة لسياسات اعتراض قوارب المهاجرين في البحر والقيود الأوروبية ضد الهجرة، بما في ذلك القيود على الهجرة النظامية عبر نظام التأشيرة.
وقال بن رمضان: “نعتبر العلاقات بين الشمال والجنوب غير متوازنة. حرية التنقل الآن في اتجاه واحد، يجب أن تكون الحريات متبادلة، وعلى تونس أن تتخلى عن هذه السياسات التي تفرضها دول الشمال، وأن تدافع على مبدأ حرية التنقل لأفرادها”.
وتسعى إيطاليا، التي تمثل الوجهة الرئيسية للمهاجرين عبر السواحل التونسية، إلى التوصل مع شركائها الأوروبيين عبر اجتماع المجلس الأوروبي الاستثنائي، الأسبوع الجاري، إلى اتفاق بشأن سياسات جديدة للحد من أعداد المهاجرين القادمين عبر البحر ومكافحة عصابات تهريب البشر.
وقبل الاجتماع حث بيان لوزارة الداخلية الإيطالية على تشجيع التعاون متوسط الأجل بين بلدان عبور ومنشأ المهاجرين، باستخدام جميع أدوات الضغط المتاحة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس