أفريقيا برس – تونس. عادت من جديد قضية النفايات الإيطالية إلى الواجهة في تونس بعد الكشف عن شحنات نسيجية مموهة تدخل البلاد تحت غطاء تجارة الملابس المستعملة، وسط مخاوف من تكرار سيناريو فضيحة الحاويات الإيطالية سنة 2020.
وفجر النائب السابق والناشط البيئي والسياسي المقيم في إيطاليا، مجدي الكرباعي، هذه القضية بعد ظهوره في برنامج تلفزيوني على قناة إيطالية، حيث كشف عن منظومة واسعة وصفها بـ “المافيا البيئية” تتولّى تصدير نفايات نسيجية خطيرة إلى تونس متخفية خلف تجارة الملابس المستعملة.
وأوضح الكرباعي، أن هذه الشحنات تصرح في الموانئ الإيطالية على أنها ملابس قابلة لإعادة الاستخدام، لكنها في الحقيقة مواد يصعب تدويرها، محملة بمواد كيميائية ومعادن ثقيلة. جزء صغير منها يطرح في الأسواق، بينما يُلقى الجزء الأكبر في الطبيعة والمصبات العشوائية أو يحرق داخل مصانع لإخفاء آثار الجريمة.
وتأتي هذه المعطيات في ظل تحذيرات متواصلة من منظمات بيئية دولية مثل “Greenpeace Italia” و”Legambiente” التي تؤكد أن تونس ليست استثناء، وأن دولا عديدة في شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء تستغل كوجهات لتصريف أطنان النفايات القادمة من أوروبا تحت غطاء الملابس المستعملة.
وبحسب تقرير لمنظمة “Greenpeace Africa” فإن 46 في المئة من الملابس المستعملة في العالم مصدرها الاتحاد الأوروبي، وأن نحو 900 ألف طن وصلت إلى تونس ودول أفريقية أخرى عام 2022، يتحول نصفها تقريبا إلى نفايات تُدفن أو تُحرق في الهواء الطلق، في تهديد مباشر للبيئة والصحة العامة.
وفي حوار خاص مع “سبوتنيك”، قدم النائب السابق بالبرلمان التونسي والناشط البيئي مجدي الكرباعي تفاصيل دقيقة حول مسارات تهريب النفايات النسيجية، والشبكات المتورطة.
وفيما يلي نص الحوار:
بداية.. كيف تقيم حجم ظاهرة تهريب النفايات النسيجية من إيطاليا إلى تونس تحت غطاء تجارة الملابس المستعملة؟
تشير التحقيقات والتقارير الميدانية والأكاديمية إلى وجود تدفق كبير للمنسوجات القادمة من أوروبا إلى تونس يصنف رسميا كتجارة “ملابس مستعملة”، في حين أن جزءا من هذه التدفقات هو في الحقيقة نفايات نسيجية ملوثة أو منخفضة الجودة، وغالبا ما تكون مختلطة بمواد أخرى مثل الأتربة، ويتم تمريرها عبر وثائق وتصاريح مضللة. وهذه ليست حالات فردية معزولة، بل شبكات تجارية ولوجستية تستغل ثغرات تصنيف النفايات وسوء الرقابة وأحيانا الفساد الإداري.
ولا توجد إحصائية دقيقة تحدد الكمية الحقيقية للنفايات النسيجية المندسة داخل شحنات “الملابس المستعملة” الموجهة إلى تونس، لكن بعض المعطيات العامة تساعد على تقدير حجم الظاهرة: فالاتحاد الأوروبي يصدر سنويا مئات آلاف الأطنان من المنسوجات المستعملة والنفايات النسيجية، فيما تظهر دراسات إقليمية، من بينها مسح “SWITCH-MED” في تونس والمغرب، وجود تدفق مهم من الأقمشة والنفايات والخامات المتنوعة نحو السوق التونسية مع تمركز كميات كبيرة في مواقع محددة. غير أن تحديد الكميات بدقة يتطلب تتبعا صارما للحاويات.
ما هي أبرز الأدلة أو المؤشرات التي تجعلكم تؤكدون أن جزءا من الشحنات القادمة إلى تونس ليس ملابس مستعملة بل نفايات نسيجية مقنعة؟
هناك جملة من المؤشرات التي تجعل الشك قويا بأن جزءا من الشحنات الواردة إلى تونس ليس ملابسا مستعملة قابلة للترويج، بل نفايات نسيجية يجري تمريرها تحت هذا الغطاء. أولها نوعية السلع نفسها: فالتقارير الميدانية والدراسات الأكاديمية لاحظت خلال السنوات الأخيرة تراجعا كبيرا في جودة ما يصل إلى تونس، حيث تتكون كميات واسعة من ألياف صناعية رديئة لا تصلح لإعادة البيع، ما يشير إلى أنها تعامل كنفايات أكثر منها “فريب” قابل للفرز والاستخدام.
أما المؤشر الثاني فيتعلق بالوثائق الجمركية، إذ سجلت حالات عديدة من شحنات رفقت بوثائق تصفها زورا بأنها بضاعة صالحة بينما كانت في الواقع خليطا من نفايات مختلفة كان يفترض إرجاعها إلى المصانع الأوروبية. لكن في أغلب الأحيان لا يتم إرجاعها، بل تترك لتدفن أو تحرق لاحقا في مصبات عشوائية داخل تونس، ولدينا وثائق تثبت هذه التجاوزات وتم تقديمها إلى القضاء التونسي، دون أن يتم البت فيها إلى اليوم.
المؤشر الثالث يهم مواقع التخزين والتجميع داخل تونس، حيث تظهر أماكن واسعة مكدسة بمنسوجات متعفنة أو تالفة، لا يمكن أن تكون معدة لإعادة البيع، بل يجري التخلص منها عبر الدفن أو الحرق، وهو ما يعزز فرضية أن جزءًا من الملابس المستعملة أو ما يعرف بـ”الفريب” المستورد ليس سوى نفايات مقنعة.
كيف تتم عملية إدخال هذه الشحنات، وما هي الثغرات التي تستغلها هذه الشبكات في التصنيف والفرز والتصريح الجمركي؟
تستند هذه الشبكات إلى أساليب عملية ومألوفة في تهريب النفايات النسيجية تحت غطاء “الملابس المستعملة”. أول هذه الأساليب هو الخلط، حيث يجري مزج كمية صغيرة فقط من الملابس القابلة للبيع مع كميات أكبر من المنسوجات الرديئة أو غير القابلة للفرز، بما يسهل تمريرها ويخفض تكلفة التخلص منها.
الأسلوب الثاني يتعلق بـ التسميات الوثائقية الخاطئة، إذ تستخدم تعريفات جمركية وتجارية تخص “الملابس المستعملة” بدل الرموز الخاصة بالنفايات، وهو ما يسمح للحاويات بالمرور دون الخضوع لإجراءات المراقبة الأكثر صرامة.
كما تلجأ هذه الشبكات إلى وسطاء وعقود وهمية، إذ تسجل شركات ووسطاء كـمصدرين أو مستوردين بطريقة قانونية ظاهريا، بينما يجري في الواقع تغيير وجهة البضاعة أو طبيعتها أو سجلاتها خلال مراحل النقل، ما يجعل عملية التتبع شبه مستحيلة.
وتستغل أيضا ثغرات في المنظومة اللوجستية من خلال تفكيك الشحنات وتقسيمها على حاويات أصغر أو تغيير الموانئ ونقاط العبور، بهدف إرباك أجهزة الرقابة وتسهيل إدخال النفايات دون إثارة الشبهات.
هل نحن أمام تجاوزات معزولة أم شبكة منظمة؟
المعطيات المتوفرة اليوم تشير بوضوح إلى أننا لا نتعامل مع تجاوزات معزولة، بل مع شبكة منظمة تضم حلقات مترابطة، شركات مصدّرة، ووسطاء، ومشغلين لوجستيين، إضافة إلى بعض الموظفين الإداريين المتواطئين.
وقد أثبتت التحقيقات المتعلقة بشحنات النفايات التي وصلت إلى تونس سنة 2020 أن الأمر لم يكن حادثة عرضية، بل شبكة متكاملة تورطت فيها شركات إيطالية ووسطاء ومسارات لوجستية مهيأة لتمرير هذا النوع من البضائع.
كما تحصلت على تقرير رسمي من منطقة كامبانيا في إيطاليا يؤكد وجود شبكات إجرامية منظمة تنشط في هذا المجال وتمتد فروعها إلى تونس.
عندما تتحدث عن “مافيا بيئية”.. من تقصد تحديدا داخل مسار هذه التجارة؟
المقصود هو منظومة كاملة من الفاعلين الذين يعملون بشكل مترابط داخل هذا المسار. في البداية هناك شركات التجميع والتجارة في أوروبا، وهي التي تتولى الفرز والتعبئة وبيع المنسوجات بكميات كبيرة، وغالبا ما تمرر ضمنها نفايات نسيجية مقنعة. يلي ذلك الوسطاء والمصدرون الذين ينشطون في السوق غير الرسمي ويتولون عمليات إعادة التوجيه والتلاعب بالتصاريح.
كما تدخل في هذا المسار شركات الشحن ووكلاء الموانئ الذين يوفرون خدمات التوثيق والتغليف والنقل، وهي مراحل تسمح في حال غياب الرقابة بتمرير شحنات غير قانونية. والأخطر أن بعض موظفي الجمارك أو مسؤولين محليين قد يتغاضون عن المخالفات، أو يتلقون رشاوى، وهي أمور وردت في حالات موثّقة. التحقيقات الصحفية السابقة المتعلقة بالنفايات الإيطالية التي وصلت إلى تونس أثبتت بالفعل تورط عناصر من هذه الفئات، وهو ما يجعل الحديث عن “مافيا” وصفا دقيقا لهذا الترابط بين المصالح.
هل تملك هذه الشبكات نفوذا يسمح لها بتسهيل عمليات العبور والتصنيف والتصريح الجمركي؟
نعم.. هذه الشبكات تملك نفوذا يسمح لها بتسهيل عمليات العبور والتصنيف والتصريح الجمركي، وذلك عبر علاقاتها داخل منظومة الشحن ووكلاء الموانئ، إضافة إلى استخدام وسطاء لديهم قدرة على التعامل مع الإجراءات الجمركية. وقد بينت فضيحة 2020 كيف يمكن استغلال ثغرات رموز النفايات والوثائق المزورة لتمرير شحنات نفايات على أنها سلع عادية.
هل توجد تقارير رسمية إيطالية أو أوروبية تدعم أو تثبت هذه الشبهات؟
نعم.. هناك تقارير من منظمات بيئية وحقوقية، إضافة إلى تحقيقات استقصائية، توثق حالات وشبهات تتعلق بصادرات مشبوهة. من بين هذه الجهات “Zero Waste Europe” و”Greenpeace” اللتين أشارتا في تقارير ومذكرات إعلامية إلى وجود ممارسات مماثلة.
كيف تنعكس هذه التجارة الموازية على البيئة في تونس وعلى صحة المواطنين؟
الآثار واضحة ومتسلسلة، فعلى مستوى التربة، يؤدي تراكم الألياف والمواد الكيميائية مثل الصبغات والمعالجات إلى تلوثها ويحد من إمكانية استخدامها مستقبلا. أما المياه، فغالبا ما تتسرب هذه المواد أثناء تخزين المخلفات أو غسلها، ما يلوث المجاري والآبار. وفي ما يخص الهواء، فإن الحرق المفتوح للنفايات النسيجية، وهو الطريقة الأرخص للتخلص منها، يطلق ملوثات سامة وجزيئات دقيقة تهدد جودة الهواء.
من الجانب الصحي، يتعرض العمال والمجتمعات المحلية لمهيجات جلدية، ومشاكل تنفسية، وأحيانا لمواد كيميائية قد تكون مسرطنة أو تسبب اضطرابات بيولوجية. وتظهر تقارير تقييم الأثر البيئي في حالات مشابهة على القارة أن استمرار هذه السلاسل دون رقابة يشكل مخاطر كبيرة على البيئة وصحة الإنسان.
هل تملك الدولة أو البلديات قدرات للتعامل مع هذه الكميات من النفايات النسيجية؟
في الوضع الحالي، القدرات محدودة. هناك مبادرات ومشاريع لإعادة تدوير الألياف، بدعم من “UNIDO” وشركاء آخرين، بما في ذلك مشاريع لإعادة تدوير القطن، لكن البنية التحتية على المستوى الوطني غير متكاملة للتعامل مع الكميات الكبيرة من النفايات النسيجية الواردة. المطلوب استثمار كبير في الفرز والمعالجة الميكانيكية والكيميائية وإدارة النفايات الصناعية.
في الجانب الإيطالي.. هل هناك إرادة سياسية لوقف تصدير هذه النفايات المقنعة؟
هناك ردود فعل وتيارات موجودة. بعد فضائح 2020، تزايد الضغط السياسي والمدني في إيطاليا وأوروبا لوقف تصدير النفايات المشبوهة وتعزيز الرقابة. على مستوى الاتحاد الأوروبي، تجري نقاشات حول الموضوع، بما في ذلك مقترحات من دول مثل فرنسا لفرض قيود أوسع على تصدير الملابس المستعملة، لكن التحرك التشريعي الكامل لم يُنفّذ بعد بشكل موحد.
هل توجد اتفاقيات تتحمل بموجبها إيطاليا مسؤولية تصدير هذا النوع من النفايات نحو تونس؟
نعم، هناك إطار قانوني دولي ومحلي. اتفاقية بازل واللوائح الأوروبية لتنقل النفايات تنظم نقلها عبر الحدود وتلزم الدول المصدرة بالمساءلة عند النقل غير القانوني. كما أن الاتحاد الأوروبي يمتلك تنظيمات تصنف الشحنات وتحدد شروطا واضحة، وعندما تُخترق القواعد يمكن تحميل الدولة المصدّرة وشركاتها المسؤولية.
ما مدى تشابه هذا الملف مع فضيحة النفايات الإيطالية التي تفجرت في 2020.. وهل نخشى تكرار سيناريو مشابه في قطاع الملابس المستعملة؟
هناك تشابه كبير في الأساليب، من استخدام وثائق مضللة ورموز غير دقيقة إلى شركات وسيطة وحالة تراخ رقابي. لذلك نعم، يمكن أن يتكرر السيناريو في قطاع الملابس المستعملة إذا لم تُتّخذ إصلاحات تشريعية وتقنية وإجرائية سريعة، فضيحة 2020 يجب أن تُعتبر إنذارا وليس درسا منسيا.
أخيرا.. ما هي الخطوات العاجلة التي يجب اتخاذها من الجانبين التونسي والإيطالي لوقف تمدد هذه المافيا البيئية وضمان شفافية سلسلة توريد الملابس المستعملة؟
بالنسبة لتونس، يجب أولا فرض وقف مؤقت أو تقييد الاستيراد إلى أن يتم وضع آلية تصنيف واضحة وفحص عيني لكل شحنة كبيرة، مع نشر وحدات فحص ومختبرات في الموانئ لتحديد نسبة النفايات داخل الشحنات عن طريق أخذ عينات بشكل منتظم.
ومن المهم أيضا تعزيز القدرة القضائية والجمركية عبر تدريب موظفي الجمارك وإرساء إجراءات عقابية سريعة ضد كل من يثبت تورطه. وفي الوقت نفسه، ينبغي وضع خطة متكاملة لإدارة النفايات ومرافق المعالجة، تشمل استثمارا في فرز ومعالجة الألياف ودعم مشاريع إعادة التدوير المحلية، لضمان معالجة النفايات بشكل سليم وعدم تراكمها في البيئة.
أما من جانب إيطاليا والاتحاد الأوروبي، فيجب تشديد الرقابة والتصنيف على مستوى المصدر، عبر فرض قواعد صارمة لتصدير المنسوجات، مع وضع معايير واضحة لما يسمّى “نهاية النفايات” ونشر سجلات تتبع دقيقة لكل شحنة. كما يجب مساءلة الشركات قانونيا وإعادة الشحنات غير القانونية إلى المصدر، بحيث لا تتكرر حالات مثل فضيحة 2020 دون نتائج ملموسة.
ومن الضروري كذلك توفير آليات تمويل ودعم فني للدول المستقبلة لبناء سلاسل قيمة دائرية حقيقية، تشمل التدريب، إنشاء مصانع فرز، واستخدام تكنولوجيا فصل الألياف، مع تعزيز شفافية سلاسل الإمداد من خلال تتبع واضح لمسار كل شحنة من المصدر إلى الوجهة النهائية.
المصدر: سبوتنيك عربي
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس





