أفريقيا برس – تونس. يخوض المئات من حاملي شهادة الدكتوراة في تونس، اعتصاما مفتوحا أمام مقر وزارة التعليم العالي، منذ الأسبوع الماضي، للمطالبة بتفعيل قرار ندبهم بشكل مباشر، وقطع الطريق أمام ما يصفونه بـ”العقود الهشة”.
وأفادت مصادر اعلامية في تونس بأنه يقدَّر عدد الحاصلين على شهادة الدكتوراة المُعطّلين عن العمل في تونس، نحو سبعة آلاف باحث أكاديمي، وفق إحصائيات منصة التسجيل الخاصة بهم، بينهم من تجاوزت بطالته عشر سنوات، وسط وعود رئاسية سابقة بإيجاد حل جذري لملفهم.
ودخل هذا الملف مرحلة جديدة من التصعيد بعد أن قرر المحتجون المكوث أمام وزارة التعليم العالي في اعتصام مفتوح قد يتطور إلى إضراب عن الطعام، في حين نفذوا أمس الأربعاء، وقفة احتجاجية أمام المسرح البلدي بالعاصمة، في خطوة وصفوها بـ”الإنذار الأخير” للسلطات من أجل دفعها نحو تفعيل وعودها السابقة.
ويطالب هؤلاء بتشغيلهم الفوري في مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي والمخابر الوطنية، رافضين ما يسمى بـ”العقود الهشة” التي يعتبرونها شكلا من أشكال “الاستعباد المهني” في حق النخبة الجامعية.
وبحسب تنسيقية الدكاترة المعطلين في تونس، فإن الحكومة تعهدت في وقت سابق بندب نحو خمسة آلاف منهم على دفعات، غير أن تأجيل التنفيذ وتواصل المماطلة دفع بهم إلى التصعيد الميداني. ويؤكد عدد منهم أن الإقصاء والتجاهل جعلا بعضهم يعيشون بطالة فاقت العشر سنوات، ما تسبب في أوضاع اجتماعية صعبة و”إحباط عميق” لدى حاملي أعلى الشهادات العلمية.
وكان الرئيس التونسي قيس سعيّد أعلن في فبراير/ شباط الماضي، أن “الملف سيعالج في إطار تسوية شاملة وجذرية حتى لا يغبط أي كان حقوقه الطبيعية”، وفق تعبيره.
كما تعهد حينها بتوفير ما لا يقل عن 5 آلاف موطن شغل في مرحلة أولى داخل مؤسسات التعليم العالي والمخابر ومراكز البحث العلمي. لكن إلى اليوم، لم تٌفعل هذه القرارات على أرض الواقع، ما جعل المعتصمين يشككون في جدية التعهدات الرسمية.
ويحذر حاملو شهادة الدكتوراه من أن “استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى هجرة جماعية للكفاءات نحو الخارج، في وقت تحتاج فيه تونس بشدة إلى خبراتهم في البحث العلمي والتعليم الجامعي، خاصة مع التحديات التنموية والاقتصادية التي تواجه البلاد”.
“الندب حق مشروع”
على الرصيف المقابل لمقر وزارة التعليم العالي، افترشت الدكتورة بية الصغاري، الباحثة في علم الآثار، مع العشرات من حاملي شهادة الدكتوراه الأرض، ورفعت شعارات تطالب بإنهاء ما تصفه بالظلم والإقصاء.
وتحدثت بمرارة: “اليوم هو اليوم العاشر لاعتصامنا أمام الوزارة للمطالبة بحقوقنا، بعد طول تسويف وتلاعب بملفنا. لقد بلغنا مرحلة لم نعد قادرين فيها على الانتظار، فنحن نعيش ضغوطات ومشاكل متفاقمة بسبب سياسة المماطلة والوعود المتكررة التي لم تترجم على أرض الواقع”.
وتوضح الصغاري، أن حاملي شهادة الدكتوراه اليوم “ليسوا حالة واحدة بل أصناف مختلفة، فهناك من لم يحظ بفرصة التدريس العرضي إطلاقا، وهناك من قضى سنوات طويلة يعمل بعقود مؤقتة في الجامعات، مثلها هي، حيث اشتغلت ما يقارب عشر سنوات في كليتي الآداب بسوسة وصفاقس عبر عقود محدودة المدة”، كما أشارت إلى “وجود باحثين موظفين يزاولون أعمالا إدارية أو تدريسية دون أن يعترف بشهاداتهم العلمية العليا”.
وتؤكد الباحثة أن “الندب حق مشروع وليس منّة من الدولة”، مشددة على أنه “من غير المقبول أن تُترك كفاءات البلاد ونخبتها العلمية في الشارع لعشرة أيام متواصلة دون أي التفاتة من السلطة”، لافتة في المقابل إلى أن “الرأي العام يبدي تعاطفا كبيرا مع قضيتهم خلافا لمؤسسات الدولة”.
وأشارت إلى الفجوة بين وضعية الأساتذة المترسمين وزملائهم العرضيين ممن يتقاضون أجورا زهيدة لا تكفي لتغطية أبسط الحاجيات. وقالت بأسى: “نحن لا نستجدي أحدا، نحن أصحاب حق، عملنا كما عمل غيرنا، لكننا ما زلنا محرومين من الاستقرار المهني والعيش الكريم”.
التلويح بالتصعيد وإضراب عن الطعام
ولا يخفي المعتصمون استعدادهم للمرور إلى أشكال أكثر حدة من الاحتجاج إذا استمر ما يعتبرونه تجاهلا من السلطة. وفي هذا السياق، قال الدكتور الباحث عبد الله الحزقي: “تحركاتنا بدأت باعتصام مفتوح أمام مقر وزارة التعليم العالي، وهو شكل من أشكال الاحتجاج. لكن إذا كانت هناك نوايا لتجاهل أصواتنا، ستكون لدينا آليات تصعيد أخرى، إذ قد يقرر الدكاترة المعتصمون الدخول في إضراب عن الطعام”.
ويرى الحزقي أن حجة السلطة بوجود “صعوبات مالية” لا أساس لها، مبينا أن “معظم الاعتمادات المرصودة تذهب إلى الساعات الإضافية التي تسند للأساتذة القارين، وإلى عقود التدريس العرضي ورواتب المتعاقدين”، مؤكدا أنه “لو تم توجيه هذه الاعتمادات نحو تسوية ملف حاملي الدكتوراه لاحتاج الأمر نصف الميزانية فقط”.
وأضاف: “وزارة التعليم العالي سبق أن أكدت تحويل الملف إلى وزارة المالية، التي صادقت بدورها على رواتب خمسة آلاف دكتور ممن وعد الرئيس قيس سعيّد بانتدابهم، “لكن فجأة أصبح هناك حديث عن عجز مالي وعجز عن سدّ الشغورات”، على حد قوله.
كما أعرب الحزقي عن استيائه من “غياب الشفافية في التعاطي مع الملف”، مذكرا بأن “الوزارة أطلقت منصة إلكترونية لإحصاء عدد الباحثين المعطلين ثم امتنعت عن الكشف عن الحصيلة النهائية”.
وأوضح أن “التصريحات الرسمية تضاربت بين الحديث عن خمسة آلاف وسبعة آلاف وتسعة آلاف ومائة، ما يجعلنا نطالب بنشر الأرقام الحقيقية للشواغر وعدد الدكاترة المعطلين عن العمل، لأن التعتيم يزيد من تعقيد الأزمة ويضاعف فقدان الثقة”.
جدل حول المناظرات واتهامات بغياب تكافؤ الفرص
ويشهد ملف حاملي شهادة الدكتوراه المُعطّلين عن العمل في تونس جدلا كبيرا حول آلية توظيفهم، خاصة في علاقة بإجراء المناظرات الجديدة كشرط للندب. ويرى عدد من الباحثين أن هذه المناظرات تفتقر إلى الشفافية ومقومات تكافؤ الفرص، بينما تؤكد وزارة التعليم العالي أنها تهدف لضمان جودة التعليم الجامعي.
ويرفض الدكتور ماهر السيحي، الباحث في العلوم البيولوجية، مقترح إجراء مناظرة جديدة، معتبرا أن “هذا الخيار غير عادل، وأن حجة الوزارة بضرورة المرور عبر المناظرات من أجل الحفاظ على جودة التعليم العالي مردودة على أصحابها”، مستشهدا بـ”وجود 2600 أستاذ تعليم ثانوي و996 حرفي يدرّسون في الجامعات التونسية من دون خوض أي مناظرة، بل حتى من دون توفر شرط الدكتوراه المطلوبة أصلا”، على حد تعبيره.
ويضيف السيحي: “المناظرات السابقة شابتها إخلالات خطرة، ضاربا مثلا بما حصل في جامعة صفاقس، حيث احتفل أحد المخابر البحثية في سبتمبر/أيلول 2024 بنجاح ستة من أعضائه في المناظرة، في حين لم تُعلن نتائجها رسميا إلا في فبراير/شباط 2025″، وهو ما اعتبره دليلا على غياب الشفافية”.
وتابع: “نحن نرابط أمام الوزارة منذ أيام للمطالبة بحقنا الدستوري في التشغيل وتنفيذ مطلبنا الرئيسي وهو الندب الاستثنائي المباشر لجميع الدكاترة المسجلين في المنصة الرقمية (منصّتي)، باعتبار أنهم متحصلون على أعلى الشهادات الوطنية”.
وبينما يؤكد المعتصمون أنهم سيواصلون الاعتصام إلى حين الاستجابة لمطالبهم، محذرين من أن الصمت الرسمي قد يزيد من تعقيد الأزمة، لم تصدر السلطات التونسية أي رد فعل تجاه مطالب المعتصمين.
ويأتي هذا الاحتقان في سياق اقتصادي واجتماعي خانق، إذ بلغت نسبة البطالة في تونس نحو 16.9% في الربع الثاني من سنة 2025. وتُظهر الأرقام الرسمية أن خريجي الجامعات هم الأكثر تضررا من انسداد سوق الشغل حيث تتجاوز نسبة البطالة في صفوف حاملي الشهادات العليا 24%، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس