إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. أسالت الأحكام الصادرة بحق عدد من شخصيات المعارضة ورجال أعمال وحقوقيين في تونس “متهمون” في ما يعرف بـ”قضية التآمر على أمن الدولة” الكثير من الحبر على وسائل التواصل الاجتماعي وسط جدل بسبب حيثيات المحاكمة وما صدر عن القضاء من احكام وصل بعضها إلى 66 عاما.
لم يكن المرور من أمام المحكمة الابتدائية بشارعي 9 أفريل وباب بنات بالعاصمة تونس يسيرا يوم 18 أفريل 2025، حيث عجّ الشارع بالمحتجين من نشطاء المجتمع المدني وعائلات المتهمين وأعضاء “جبهة الخلاص” وأنصارها في سياق تحرك ضد المحاكمة التي كانت تتم عن بعد، وفي غياب الإعلام وأهالي المحكومين وغياب المتهمين أنفسهم.
ووصف منصف الشريقي، أمين عام الحزب الاشتراكي المعارض، لـ”أفريقيا برس”: الأحكام الصادرة في آخر الليل وتفاجأ بها التونسيون صباحا عبر فايسبوك، بأنها “جائرة تم النطق بها في ظل محاكمة افتقدت لضوابط المحاكمة العادلة وخاصة جلسة 18 أفريل”.
وفور الاطلاع على الأحكام، اتصلنا بالمحامي والقيادي في حركة النهضة سمير ديلو، الذي قال لـ”أفريقيا بريس”، إنه “يجب تناول الموضوع باحتراز لأنه هناك تضارب في الأحكام ولم يصدر أي بيان رسمي لتوضيح حقيقة هذه الأحكام وما نشر قيل إنه نقل عن مصادر رسمية”.
حوكم المدانون بموجب مواد مختلفة من قانون العقوبات التونسي وقانون مكافحة الإرهاب لعام 2015، وبموجب قوانين الجرائم الإلكترونية ونشر أخبار كاذبة.
وصفت منظمتي هيومن رايتس وامنستي المحاكمة بأنها “صورية”. وكان الجميع يتحدّث عن “محاكمة غير عادلة” و”أحكام جاهزة” ويتوقع مفاجآت، إلا أن ذلك لم يصل إلى حد توقع الأحكام التي تم الإعلان عنها خلال الجلسة الثالثة التي شابتها الكثير “ممن الفوضى” وفق ما صرح به مصدر مطلع لـ”أفريقيا برس”.
وقال المصدر إن “الوضع داخل قاعة الجلسة كان غريبا وفوضويا ضمن محاكمة لم تحدث من قبل، فالمتهمون غائبون والمحامون حاضرون ولم يترافعوا، فقط اعترضوا على لائحة الاتهام، التي تمت قراءتها بسرعة لافتة. ثم سرعان ما أعلن القاضي عن الأحكام.
وغاب الإعلام رغم أنها قضية رأي عام، كما أن بعض المتهمين الذين يحاكمون بالغياب تم شطب أسماءهم من ملف القضية لتقدّمهم بطعن في قرار دائرة الاتهام (محكمة الاستئناف) بالتعقيب، فيما رفض التعقيب الذي تقدم به متهمون آخرون”.
وأكّد سمير ديلو في تصريحه لـ”أفريقيا برس، أن “هذه الأحكام صادرة خلال محاكمة لم تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة، بل ولم تتوفر فيها شروط المحاكمة الجزائية من شروط شكلية وهي تلاوة قرار دائرة الاتهام بحضور المتهم، استنطاقه، اعطاء الكلمة للدفاع، مرافعات، ثم احضار التهم، كل هذا لم يحدث منه شيء”.
وكانت الجلسة الأولى عقدت في 4 مارس 2025، فيما الثانية في 11 أبريل، ووجه فيها الاتهام لـ 40 شخصية سياسية “بالتآمر على أمن الدولة وتكوين وفاق إرهابي”. وشدّد منصف الشريقي على أن القضية “قضية سياسية بامتياز، وقد أثبت محامو المتهمين بأن ليس لها علاقة بالتآمر على أمن الدولة ولم تثبت النيابة العمومية ولا هيئة المحكمة المنتصبة في أي طور من أطوار القضية جدية التهم الموجهة”.
سابقة في تاريخ القضاء
من بين المتهمين معارضون من مختلف التوجهات السياسية، من الإسلاميين إلى الليبراليين. كثيرون منهم، بمن فيهم السياسيان المعارضان المخضرمان غازي الشواشي وعصام الشابي، محتجزون منذ أكثر من عامين، فيما حوكم آخرون وهم في حالة سراح. وحوكم حوالي نصف المدانين غيابيا لفرارهم من البلاد قبل اعتقالهم. ويمكن استئناف الأحكام.
وقال منصف الشريقي لـ”أفريقيا برس” إن “ملف القضية كان خاليا من أن حجج إثبات ضد المتهمين وبالتالي ما صدر من أحكام يحمل أبعادا سياسية، ويكشف أن القضاء في تونس اليوم أصبح غير مستقل بعد أن حوله قيس سعيد إلى مجرد وظيفة ونزع منه صفة السلطة وستبقى هذه القضية وصمة في تاريخ القضاء التونسي وتاريخ السلطة السياسية الحالية”.
وذات الأمر يؤكّده سمير ديلو، معتبرا بدوره أن “ما حدث لم يحصل في أي فترة من التاريخ التونسي، فالمتهمين لم يكونوا حاضرين بالجلسة، وقرار دائرة الاتهام قرأ منه ما يعادل 30 ثانية، أي بعض السطور قبل أن ترفع الجلسة بتعلة استحالة مواصلتها، إذن لم يقع استنطاق المتهمين والمحامون لم يقوموا بمرافعات، نحن رافعنا في شارع باب بنات أمام وسائل الإعلام وليس أمام القاضي”.
ويعتبر ديلو أن سياسة التعتيم وضعت النظام محلّ تساءل فـ “ما هو المانع من حضور المتهمين للمحكمة؟”؛ فيما يرى محسن السوداني، عضو المكتب التنفيذي بحركة النهضة، “هذه الأحكام تقتل كل أمل في ترشّد السلطة وتعقّلها. وهي ستؤدي حتما إلى تعميق الأزمة في وقت تشهد فيه البلاد انسدادا سياسيا واحتقانا شعبيا وتبرّما اجتماعيّا بسبب غلاء المعيشة وتوقف التشغيل وغياب الاستثمار وعزلة دولية وانعدام للحلول”.
ودعت شبكة البرلمانيين الديمقراطيين العرب إلى “إلغاء الأحكام الصادرة ضد الموقوفين وإعادة المحاكمة في ظروف علنية ونزيهة”، مضيفة في بيان لها أن ” هذه المحاكمة، التي افتقرت إلى أدنى مقومات العدالة، وشابتها خروقات قانونية جسيمة ليست سوى واجهة مستهجنة لسلسلة من الانتهاكات السياسية والأمنية، بدءا من اتهامات واهية لا تمتّ إلى المنطق أو القانون بصلة، مرورا بإيقافات تعسفية مهينة وتشويه ممنهج لسمعة المعتقلين وعائلاتهم الكريمة، وصولا إلى أطوار محاكمات “سرّية” تقريبا، تمّت في غياب المتهمين ودون ضمان الحد الأدنى من حقوق الدفاع”.
يذهب الكثير من المتابعين في ذات السياق، معتبرين أن الأمر يعدّ سابقة سيكون لها تأثيرها على صورة تونس في الخارج بل وحتى على النظام في الداخل، فإذا كان يرى أنه من خلال هذه الأحكام يفرض سيطرته فإن الأمر قد يخرج عن هذه السيطرة خاصة وأن ملف القضية “فارغ” كما يصفه المختصون ولم تكشف أية جهة رسمية عن أية أدلة تؤكد صحة القضية، وإذا كان الأمر مبررا بسرية التحقيقات وعدم تعطيلها فإن الوقت حان للكشف عن هذه الحجج إن وجدت.
جريمة مركّبة
لم يتدخل الرئيس قيس سعيد مباشرة في القضية لكنه شدّد في عدة مناسبات على ضرورة أن “يحصل كلّ على ما يستحقه وليعرف التونسيون حجم الجرائم المرتكبة بحقّ شعبهم، بما في ذلك الاغتيالات ونهب الموارد الوطنية وغيرها من أشكال الخيانة”.
ولاقى خطاب الرئيس صدى في الشارع التونسي، وكان يحظى، خاصة في الفترة التي أعقبت 25 جويلية 2021، بتأييد شعبي كبير.. بل إن قضية التآمر التي تثير اليوم الجدل كانت محل مباركة من الشارع الذي تابع في البداية وتفاصيلها وكان يتبنى خطاب السلطة.
ولئن تراجعت تلك القاعدة الشعبية، إلا أن الكفة مازالت تميل لصالح الرئيس على حساب المعارضة، لذلك يستبعد المحلل السياسي محمد ذويب أن “تسوء الأحداث” بالصورة التي قد تؤدي إلى “ثورة” شعبية جديدة.
وبينما يقول السوداني لـ”أفريقيا برس”: “البلاد تحتاج إلى انفراج سياسي يخلق مناخا من الاستقرار والهدوء ويعيد لتونس إشعاعها الدولي الذي تميّزت به بعد الثورة. ويساعد على حل مشكلاتها بكل تعقّل وتروٍّ”، يقول ذويب لـ”أفريقيا برس”: “صحيح أن الموقوفين لم يتمتعوا بحقهم في محاكمة عادلة، لكن أن تسوء الأحداث هذا أمر مستبعد، لأنه لا يوجد معارضة بالأساس، هناك حالة فراغ سياسي كبير خاصة في مستوى المعارضة، فيما مازال الرئيس سعيّد يتمتع بشعبية، لا أتوقع حالة احتقان لأن المعارضة لم يعد لها عمق شعبي”.
في المقابل، يتوقع ذويب “تشكيل بعض الأحزاب لجبهة سياسية في قادم الأيام مثل عودة التيار الديمقراطي لتحالف مع النهضة، أو تشكيل حزب الدستوري الحر لقطب سياسي مثلما ما يتحرك مؤخرا، أما أن يقع تغيير سياسي فهو أمر مستبعد”.
وبينما قال ريكاردو فابياني، مدير قسم شمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية: “تُمثل المحاكمة جزءا من التوجه الاستبدادي في عهد سعيد، ومحاولاته للإيحاء بأن البلاد تخضع لحصار خارجي من قبل جهات أجنبية، وأنه وحده القادر على إنقاذ تونس”، اعتبر صهيب المزريقي، القيادي بحركة البعث، أنه “ذا تم كشف الأدلة وتفكيك خيوط المؤامرة وإثبات براهين تفيد ذلك فإنها ستحسب للنظام إيجابا من ناحية التعاطي المخاباراتي والأمني وتثبت أيضا مدى جدية الدولة التونسية في حماية الأمن القومي ومدى جهوزيتها”.
وقال المزريقي لـ”أفريقيا برس”: “نحن أمام جريمة مركبة تداخلت فيها أطراف عديدة قصد تغيير هيئة الدولة والتخابر ضد الأمن القومي التونسي… كنا نأمل أن يتم الإعلان عن المحاكمة في العلن وأمام وسائل الإعلام وبحضور المتهمين وأيضا فتح الباب أمام الصحفيين والمنظمات العالمية”.
وتابعت الصحافة الدولية باهتمام مجريات هذه القضية، وإن كان أغلبها يتبنى وجهة نظر المعارضة من حيث اعتبار الأمر تضييقا على الحريات واستهدافا سياسيا للمعارضة. فكتبت فيفيان يي في صحيفة نيويورك تايمز: “في أحدث مؤشر على تفاقم القمع في ما كان يُعرف سابقا بالديمقراطية العربية الوحيدة تقريبا، أصدرت محكمة في تونس أحكاما قاسية على شخصيات معارضة بارزة أُدينت بتهمة التآمر على أمن الدولة”.
“كانت تونس، الواقعة في شمال إفريقيا، مهد انتفاضات الربيع العربي ضد الحكم الاستبدادي التي بدأت في أواخر عام 2010 وامتدت إلى معظم أنحاء العالم العربي. لكن البلاد تنزلق بثبات نحو الاستبداد والقمع منذ أن قرر الرئيس قيس سعيد ترسيخ حكم الفرد في عام 2021”.
في المقابل، ردّ صهيب المزريقي بأن “الحريات في تونس مكفولة بنص الدستور زد على ذلك الشعب التونسي الذي ذاق طعم الحرية والديمقراطية لا يمكنه العودة للاستبداد والديكتاتورية أما عن صورة تونس في الخارج فأعتقد أن الخارج الأحق به أن يعدل هو صورته ويراجع بوصلته خاصة مع ما نشهده في قطاع غزة”.
مع ذلك، ورغم كل ما قيل عن هذه المحاكمة وحيثياتها في خضم الجدل حول هذه الأحكام والأسماء التي تضمنتها القائمة، كان هناك شبه تأييد على الحكم الصادر ضدّ اسم واحد، هو اسم مهندس فوضى “الربيع العربي”، برنار ليفي الذي حكم عليه بـ33 سنة سجنا مع النفاذ العاجل، وتقريبا هذا هو الحكم الوحيد الذي أثلج صدور التونسيين وأيّدوه بشدّة باعتبار تاريخ في تونس وليبيا وعموم المنطقة في ذروة الربيع العربي.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس