عن انتخابات البرلمان و”تسفيه السياسىة” في مصر

عن انتخابات البرلمان و
عن انتخابات البرلمان و"تسفيه السياسىة" في مصر

محمد عزام

أفريقيا برس – مصر. على الأرجح، كان مؤيدو المرشحة رحاب عبد الرحيم الغول يهتفون إيماناً واحتساباً: “سيبوها سيبوها (اتركوها) دا الكرسي بتاع أبوها”، في قناعة راسخة بمُلك عائلي لا يبلى، وكأنه قد صار من طبيعة الأشياء في مصر أن ينتقل المقعد البرلماني من الأصل إلى الفرع، بعدما لبث الغول الأب فيه حيناً من الدهر، امتد حتى 40 عاماً، ضمن مشهد سياسي نموذجي يختزل حاضره وماضيه، ثقافة عامة محتفية بـ”تسفيه السياسة”، معتبرة أن محسوبية الأقارب أو (nepotism)، من المعلوم من الحكم بالضرورة، ولا غرو في كونها تتراءى فجة كلما أهلّ على مصر موسم انتخابي أو “عرس ديمقراطي” كما يُدلل على الحدث مشتغلون بالإعلام والسياسة، ولا أحد منهم يعلم من أين جاء هذا التعبير مستلب المعنى وفارغه، المهم أنه أتى، وصار ملء السمع والبصر في ما اصطلح على تسميته بـ”المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب”.

هي بذاتها التي قيمتها وزارة الداخلية جازمة بأنها “بلا انتهاكات”. هكذا مرة واحدة! كان يفترض أن تكون نهائية وإلى الأبد خصوصاً أن الدفاتر دفاترهم والورق ورقهم!، أما “ما نشر من فيديوهات ووقائع فقد صمم باستخدام الذكاء الاصطناعي (يا ويله مما سيحمله على عاتقه)، على يد عدد من أنصار مرشحين أخفقوا فشككوا في نزاهة العملية”. وهكذا خلص تقييم الجهة المسؤولة عن تأمين الانتخابات وجاء مسطوراً في بيان رسمي اختتم بكلشيه فقد معناه لكثرة ابتذاله: “إن ما جرى محاولة يائسة من الجماعة الإرهابية (وضعها أسوأ من الذكاء الاصطناعي!) للنيل من حالة الاستقرار”، باختصار قالت لنا الوزارة إن ما وقعت عيونكم عليه ليس سوى أراجيف وإشاعات إخوانية. لكن الرئيس عبد الفتاح السيسي كان له رأي آخر.

من أين استمده؟ وكيف توصل إليه؟ ولماذا؟ وماذا يعني مخالفة الرئيس تقدير الجهة المختصة؟ أسئلة الساعة ولم يجب أحد عنها حتى الآن، فقد انشغل الجمع وولوا الدبر باتجاه ما استجد على صفحات مواقع التواصل لأكبر رأس في البلد، مع أنهم كانوا قبل قليل على الجانب الآخر من الحدث، يرقصون بـ”كيبورداتهم” وقد صار ذاك مما لا بد منه إحياءً لـ”العرس”، فلما رأوا “البوست” هتفوا هذا ربي هذا أكبر، وسرعان ما تداولوا محتواه عن: “الأحداث التي وقعت في بعض الدوائر الانتخابية”، وما تلا ذلك من إشارة لا تخطأها العين دافعة “الهيئة الوطنية للانتخابات لئلا تتردد في اتخاذ القرار الصحيح عند تعذر الوصول إلى إرادة الناخبين الحقيقية، سواء بالإلغاء الكامل لهذه المرحلة من الانتخابات، أو إلغائها جزئياً في دائرة أو أكثر من دائرة انتخابية”.

عاجلاً، أتى الرد من رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات، معلناً بعد يوم واحد إلغاء نتائج الانتخابات في 19 من أصل 70 دائرة انتخابية بـ 7 محافظات، أي نصف العدد الذي شملته استحقاقات المرحلة الأولى، بينما أبطلت ربع نتائج المقاعد الفردية بها، والسؤال هنا: هل كانت الهيئة ستتخذ القرار إن لم يوجهها الرئيس؟ ماذا لو لم يتدخل؟ عموماً، هذا الحدث هو الأهم في تلك العملية برمتها، ومن دونه ربما كانت الانتخابات ستمر دون اكتراث، و”كل مر يمر”، مهما وقع في بر مصر، فلا الناخبون المفترضون أو المرشحون المختارون يتعاطون مع الفعالية بما يتوجب في بلد عرف أول مجلس نواب في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1866 ونفتح قوساً هنا لعرض مفارقة ثناء أوروبي ووصفه بأنه في مستوى مجالسهم، ليس لأن الخديوي إسماعيل قرر أن يحكم دستورياً، بل ليمكنه طلب المزيد من القروض، فقد كان يرى أن الشعب المصري لم يهيأ بعد ليحكم نفسه بنظام دستوري (ولا تزال تلك النظرة سائدة إلى اليوم)، كما ذكر الصحافي والمحامي جاكوب لاندو في مؤلفه: “الحياة النيابية والأحزاب في مصر من 1866 إلى 1952”.

ما أشبه الليلة بالبارحة، فلم نغادر تلك اللحظة، بل تتكرر أمامنا بحذافيرها شعبياً ورسمياً، والحال كذلك هل يمكنك تسمية 5 مرشحين خاضوا الانتخابات الأخيرة في محافظتك أو بشكل عام في أي دائرة انتخابية بالجمهورية؟ ولن أقول لك 10 مرشحين تسهيلاً للأمر، لئلا يغدو من رابع المستحيلات، أيضاً هل لمست أو تفاعلت مع أي فكرة سياسية يميناً ويساراً، أين برامج المرشحين؟ ما الذي ناقشوه في أثناء حملاتهم الانتخابية؟ ما السؤال الرئيسي المطروح على مستوى البلاد خلال الاستحقاق التشريعي؟ كل هذا وأكثر منه سبق أن خبره المصريون مرات عديدة منذ أول انتخابات برلمانية حقيقية في عام 1924 وما تلاها من استحقاقات قامت على “تقدير السياسة” وليس تسفيهها إلى درجة أن مقاطع غرائبية مصورة للمرشحين هي كل ما سيتبقى في ذاكرة معاصري الانتخابات الجارية، وبلا شك يحمل الأداء الساخر قصداً أو عبثاً رمزية يمكن تأويلها، ابتداءً من مرشح خرج ممتطياً حصاناً، بينما شهر سيفاً في يده، في صورة عاكسة لواقع حداثي مشوه، فلئن كانت الدولة تقوم على بنى عصرية شكلاً أو قناعاً، لكن حقيقتها وقيمها ووظائفها رجعية مضموناً أو وجهاً، وفي أحسن الأحوال سطحية، كالنقاشات الرديئة الدائرة حول هوية مصر بين العروبة والفرعونية، وقد بلغت حد أن مرشحاً ظهر محاطاً بأنصار يرتدون زياً ينتمي إلى تلك الحقبة، كذلك أذاعت حملته أغاني باللغة المصرية القديمة، وكما يقولون في مقاهي مصر، أقطع ذراعي لو كان هو أو جميع الواقفين يفهمون كلمة واحدة مما قيل. كذلك لن نفهم سر تدشين أحدهم حملته، غاطساً تحت الماء، وآخر ترشح لأنه رأى مناماً، وما لنا ومنامه؟ لا تسألن عن السبب، فلن تدرك مغزاه مثل غاية بكاء المرشحين في مؤتمراتهم ومناحتهم الغرائبية.

في الإبان تتوالى الاستقالات من أحزاب السلطة وكل من في المشهد يمكن تصنيفه هكذا قرباً أو بعداً من الدائرة الأولى الحاكمة بدرجة أو بأخرى، ما يشي باضطراب الفاعلين السياسيين في بلد قال رئيسه في عام 2018: “أنا مش سياسي”، وليس التصريح بجديد، فحكام مصر على مدار تاريخها لم يقيموا وزناً لخلق مؤسسات حقيقية تمثل مصالح الأفراد والجماعات، وفي الحقيقة ليس هذا دورهم، بل وظيفة الشعب الذي لا يؤمن هو الآخر بالسياسة أداة لتحقيق النظام والاستقرار وتنظيم شؤون المجتمع والدولة، وهكذا يمكننا فهم لماذا لم تستقر الجمهورية طوال تاريخها على نظام انتخابي أو أدوات رقابة توفر النزاهة والشفافية، كل يوم هي في شأن! تبدل الأنظمة في كل استحقاق كتعاقب الليل والنهار، من المختلط إلى الفردي ثم القوائم المغلقة أو المفتوحة ثم تعود لتمزج بينهم، ومرة نعم للإشراف القضائي، وأخرى لا، وهكذا تمضي الأيام والاستحقاقات دون تغيير حقيقي في المشهد يحقق آمالاً أو يخلق أفقاً أو يمنع ظلماً، وفي المحصلة يا ليت حالنا كان وقوفاً في المكان، حتى وإن كان من نوع “محلك سر”، على العكس تزيد وتيرة التراجع إلى الوراء، وتنكشف أكثر كلما داهمنا خطب تمثيلي شكلاني، في بلاد ألقت ما فيها وتخلت.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here