نساء غزة.. صانعات الأمل وسط الركام..

نساء غزة.. صانعات الأمل وسط الركام..
نساء غزة.. صانعات الأمل وسط الركام..

أفريقيا برس – مصر. ـ فقدت والدي وأحبائي لكن عزيمتي لم تُقتل

ـ النزوح المستمر لم يمنعني من نقل صوت من لا صوت لهم

ـ صمدت بالإيمان والأمل رغم كل الخوف والفقد خلال عامين من الحرب
ـ الكلمة أحيانًا أقوى من الرصاص وهكذا تحفظ ذاكرة الحرب

في غزة، حيث تتقاطع رائحة الدخان مع صرخات الفقد، وحيث يصبح الضوء رفاهية، والحياة محاولة يومية للنجاة، تنبض نساء لا يشبهن سوى أنفسهن، يحملن على أكتافهن ثقل حرب لا تنتهي، ويصنعن من بين الركام فسحات أمل، ويبتكرن للحياة مسارات جديدة رغم النزوح والمرض والمجازر التي لا تهدأ.

في أرض تتساقط فيها البيوت وتنتزع الأرواح قبل أن يكتمل الحلم، تظل المرأة الغزية تقاوم، لا بالكلمات وحدها، بل بالفعل والإصرار، وبقلب ينهض كل مرة من تحت الرماد.

من رحم هذا الألم، تولد الحكايات التي تبدو أقرب إلى الأساطير منها إلى الواقع، باحثات ينهين رسائل علمية على ضوء شمعة في خيمة، وفنانات يشعلن الألوان فوق جدران مدمرة ليقولن إن الجمال لا يقصف، وطبيبات يعملن وسط الدماء لينقذن الحياة التي تترنح على حافة الموت، ومعلمات يحولن الخيام والفصول المهدمة إلى مساحات معرفة.، فكل واحدة منهن تحمل معركتها على طريقتها، وتحمل غزة معها في قلبها، وتثبت أن المرأة ليست مجرد ناجية في الحرب، بل صانعة أمل، ورافعة جدار الحياة الأخير.

أنهن نساء غزة اللواتي يكتبن فصولا جديدة من الشجاعة، ويثبتن للعالم أن الضوء قد يبهت، لكنه لا ينطفئ ما دام في هذه الأرض امرأة تقاوم، تنجز، وتنهض من جديد، في هذا الملف الذي يتضمن سلسلة حلقات تحمل عنوان ” نساء غزة.. صانعات الأمل وسط الركام ” نسلط الضوء على نجاح بعضهن يحكين تجاربهن وألامهن وكيف حولن المأساة إلى طريق جديد للحياة والأمل والنجاح.

نبدأ هذه الحلقات بقصة إعلامية فلسطينية كفيفة تدعى وردة الشنطي، جسدت معنى الصمود حين تلاشت كل مقومات الحياة، ففي زمن فقد فيه كثيرون القدرة على الاحتمال، برزت في غزة تلك المرأة التي لم تمنعها إعاقتها البصرية من النجاح في توثيق الحرب وأداء رسالتها الإعلامية.

تجربة قاسية

لم تكن الحرب بالنسبة إليها مجرد مشهد يُروى، بل تجربة قاسية عاشتها لحظة بلحظة على مدار عامين متواصلين من الخوف والنزوح والفقد، لكنّها خرجت منها أكثر إصرارًا على أن تكون صوت من لا صوت لهم، وعدسة تبصر بالحقيقة وإن فقدت بصرها.

المذيعة من ذوي الإعاقة البصرية وردة الشنطي

تبدأ وردة حديثها بنبرةٍ يغلب عليها الثبات رغم الألم، “خلال عامين من الحرب، عشت كل أشكال الخوف والجوع والفقد، لكنني صمدت بالإيمان وبالأمل وبقوة داخلي لا تنكسر”.

بهذه الكلمات تلخص وردة رحلة مليئة بالمحن والمواقف التي اختبرت فيها إنسانيتها وصبرها وإصرارها على أداء رسالتها الإعلامية رغم كل ما يحيط بها من دمار وموت.

انهيار الوضع الإنساني

وأكدت وزارة الصحة بغزة، أنه بعد عامين من حرب الإبادة، هناك نداءات عاجلة لإنقاذ القطاع والتدخل الفوري لانعاش ما تبقى منه، موضحة أن ما يجري في غزة أزمة إنسانية، أو مجرد وصف عابر لسجل مُتخم من جرائم الاحتلال، بل هو انهيار تام ومتعمد لركيزة الوجود البشري المتمثل في منظومة الخدمات الصحية والتي تعرضت على مدار 733 يوما لضربات قاسمة وقاتلة نالت من عصب مقومات الخدمة وبنيتها التحتية.

وأضافت الوزارة، أن هذه الجرائم استحقت وصف الإبادة الصحية لهول المؤشرات الكارثية التي تداعى لها المشهد الصحي والانساني في غزة، وبات يؤرق المراقبين وصناع القرار في المؤسسات الصحية والانسانية الدولية من مدى نجاح تحقيق الاستجابات الطارئة والتي تُبقي على الحد الأدنى من مستويات الخدمة، حيث تحولت المستشفيات إلى هياكل أسمنتية بفعل الضربات العسكرية المباشرة وغير المباشرة لها، ومفرغةً بشكل كامل من مقومات الرعاية التشخيصية والعلاجية.

الحرب تدمر حياة ذوي الإعاقة في غزة

كانت وردة تعمل قبل الحرب في مجال الإعلام، تتابع الأخبار وتعد التقارير بمهارة رغم إعاقتها البصرية، غير أن الحرب قلبت كل شيء رأسًا على عقب؛ فقدت منزلها، وأدوات عملها، وجهازها اللابتوب الذي كان وسيلتها للتواصل مع العالم. لكنها لم تفقد العزيمة، فحولت هاتفها البسيط إلى نافذة إعلامية صغيرة تنقل من خلالها للعالم مشاهد المأساة الإنسانية في غزة.

إعاقات بصرية

أعلنت وزارة الصحة في غزة أن أكثر من 1500 فلسطيني فقدوا بصرهم خلال الأشهر الماضية نتيجة القصف المباشر أو الإصابات الخطيرة التي لم تتوفر لها الرعاية الطبية اللازمة، فيما يواجه نحو 4500 آخرين خطر فقدانه بسبب نقص الأدوية والمستلزمات الطبية.

وتقول: “كنت أمارس عملي الإعلامي من بين الركام ومن داخل الخيام مستخدمة هاتفي بعد أن فقدت جهازي اللابتوب، فكنت أعتمد على سمعي وعلى من حولي في التنقل.”

وفي مشهدٍ يختصر قسوة الحرب، تتحدث وردة عن نزوحها المتكرر من منطقة إلى أخرى، باحثة عن مأوى آمن لا وجود له، تنقلت بين مدارس مكتظة، وخيام تفتقر لأبسط مقومات الخصوصية، لكنّها ظلت متمسكة برسالتها: “أن تروي الحقيقة مهما كلّفها الأمر”.

وبحسب إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي بغزة الصادر في 5 أكتوبر، فإن هناك 76639 شهيدا ومفقودا خلال الحرب، بينهم 67139 شهيدا وصلوا إلى المستشفيات، وهناك أيضا 22426 شهيدا من الأباء، و1200 حالة فقدان البصر.

ومع كل جولة نزوح جديدة، كانت تحمل هما مضاعفا، كيف ستمارس عملها في ظل فقدان البصر، وانعدام الكهرباء، وغياب الاتصالات؟ لكنها كانت تجد في كل مرة دافعًا داخليًا أقوى من الظروف.

معاناة المكفوفين في غزة

وتروي وردة بمرارة كيف فقدت والدها خلال الحرب، الرجل الذي كان سندها ودليلها في الحياة، حيث تقول: “فقدت والدي الذي كان سندي في الحياة، وكان رحيله من أصعب اللحظات التي مررت بها، ومع ذلك واصلت العمل بدعم أمي وأسرتي الذين لم يتركوني وحدي وساعدوني في كل خطوة.”

تستحضر صوته كلما تراجعت قواها، وتستمد من ذكراه عزيمة تجعلها تصمد في وجه الخوف والجوع.

الإعلامية الفلسطينية وردة الشنطى ووالدها الشهيد

لم يكن الطريق سهلًا، فالإعلامية الكفيفة كانت تواجه خطر الموت في كل لحظة، والخطر المهني في كل تقرير تُعده، لكنها كانت تؤمن أن الكلمة أحيانًا أقوى من الرصاص، كانت توثق بالصوت ما تراه القلوب لا العيون: صراخ الأطفال الذين يبحثون عن ذويهم بين الركام، نساء يحملن ما تبقّى من منازلهن على أيديهن، شيوخ ينتظرون لقمة تسند يومهم. ومع كل تقرير تسجّله، كانت تحاول أن تحفظ ذاكرة الحرب من النسيان.

معاناة ذوي الإعاقة في غزة

وفي فبراير 2024، أكدت الأمم المتحدة تدمير مركز تأهيل ذوي الإعاقة البصرية التابع للأونروا في مدينة غزة، المنشأة المتخصصة الوحيدة للأطفال المكفوفين وضعاف البصر هناك، مع سقوط هذا المركز، سقطت معه طابعات برايل، والعصي البيضاء، وجلسات التدريب على الحركة والتوجه، والدعم النفسي والتربوي للأطفال وأسرهم. الأثر لم يكن لوجستيًا فقط؛ بل قطع آخر خيط مؤسسي يضمن للأطفال المكفوفين تعليمًا دامجًا.

اتفاقية حماية الأشخاص ذوي الإعاقة تحميهم خلال أوقات الحروب

تدمير مراكز ذوي الإعاقة البصرية

وفي 15 فبراير 2024 أعلنت وكالة الأونروا أن لا شيء تبقى من مركزها لتأهيل ذوي الإعاقة البصرية في القطاع، وهو المنشأة الوحيدة المتخصصة للأطفال المكفوفين وضعاف البصر على مستوى غزة، حيث كانت توفر آلات برايل وعصي بيضاء ووسائل بصرية مساعدة وأنشطة إدماج، تدمير هذا المركز ترك مئات الأطفال دون بديل فعلي.

تزايد أعداد ذوي الإعاقة البصرية في غزة

وتتابع وردة حديثها قائلة: “كنت أعيش تجربة المجاعة مثل آلاف الفلسطينيين، حيث كنا نتقاسم لقيمات بسيطة لنعيش يوماً آخر، ورأيت أصعب المواقف الإنسانية من أطفال يبحثون عن ذويهم إلى نساء يحملن بقايا ما يملكن على أيديهن.”

لم يكن الجوع وحده هو العدو، بل الإحساس بالعجز أمام كل تلك المآسي. ومع ذلك، كانت الكلمة بالنسبة إليها مقاومة، وكانت رسالتها الإعلامية نوعًا من النجاة الروحية وسط الانهيار العام.

وتقول وردة إن أصعب ما واجهته لم يكن فقط القصف أو الجوع، بل حالة النزوح المستمرة التي حرمتها من الاستقرار والخصوصية، مضيفة: “كانت صعوبة التنقل أثناء النزوح وانعدام الخصوصية في الخيام تحديًا كبيرًا بالنسبة لي، خاصة أنني من ذوي الإعاقة البصرية، لكنني واجهت كل ذلك بالصبر والإيمان.”

ومع انقطاع الماء والدواء وانتشار الأمراض، ظلت المرأة الفلسطينية – كما تصفها وردة – النموذج الأسمى للصبر، إذ واجهت القصف والجوع بروح لا تهزم.

المذيعة الفلسطينية وردة الشنطي

بعد الحرب، دخلت وردة مرحلة أخرى من المعاناة، لا تقل قسوة عن القصف نفسه، وهي الحرب النفسية التي يعيشها آلاف الناجين، فالمشاهد التي مرت بها لا تُنسى، وفقدان الأحبة لا يُعوض. تصف تلك المرحلة بقولها: “بعد الحرب كان الوضع النفسي مؤلمًا ومليئًا بالحزن، لكن المرأة الفلسطينية ظلت صامدة قوية تواجه القصف والجوع بروح لا تهزم.”

الإعلامية وردة الشنطي

أوضاع صحية كارثية

وفي 12 أكتوبر، أعلنت وزارة الصحة في غزة، أن الأوضاع الصحية والإنسانية في القطاع تتطلب استجابة طارئة لإدخال الإمدادات الطبية الضرورية، موضحة أن آلاف المرضى والجرحى بحاجة عاجلة إلى أماكن مؤهلة لتقديم الرعاية الصحية لهم.

ذوي الإعاقة في غزة

وأضافت خلال بيان لها، أن توقف الخدمات التخصصية والتشخيصية يفاقم الوضع الصحي ويعوق التدخلات الجراحية المعقدة، وتعزيز ما تبقى من مستشفيات عاملة في القطاع أولوية قصوى ولا يحتمل انتظار مزيد من الوقت.

كانت وردة الشنطي ترى في كل امرأة غزية مرآة لنفسها، وفي كل جرح حكاية تستحق أن تُروى، ورغم الظلام الذي يحيط بحياتها من كل جانب، لم تفقد وردة البصيرة التي تنير دربها، بل تحولت إلى رمز للإصرار والعزيمة، إلى نموذج حيّ للإعلام المقاوم الذي لا يعرف المستحيل.

وفي ختام حديثها، وجهت رسالة للعالم حملت الكثير من الوجع والأمل في آنٍ واحد: “رسالتي للعالم أن يسمعونا، أن يرونا كبشر نحلم بالأمان والحرية، رغم الإعاقة ورغم الحرب، ما زالت فينا إرادة الحياة وصوت لا يصمت.”

وردة الشنطي

وردة الشنطي، الإعلامية التي لا تبصر بعينيها، رأت بوضوحٍ ما يغفله الكثيرون؛ رأت أن الضوء الحقيقي لا يصدر من الكهرباء ولا من الشمس، بل من الإنسان حين يتمسك بكرامته وصوته رغم كل شيء.

قصتها ليست مجرد حكاية عن امرأة كفيفة في زمن الحرب، بل شهادة على أن في غزة قلوبًا تبصر بالمبدأ، وأصواتًا لا يصمتها القصف، وإراداتٍ تكتب فجرًا جديدًا رغم كل هذا الظلام.

كتب أحمد عرفة تصميم جرافيك – أحمد جمال مرسى

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here