شريف عثمان
أفريقيا برس – مصر. كان الخديوي إسماعيل شخصية استثنائية في التاريخ المصري، إذ تميز بطموح كبير لتحديث البلاد وتحويلها إلى دولة عصرية تضاهي دول أوروبا. وخلال فترة حكمه، تبنى إسماعيل رؤية شاملة للنهوض بالبنية التحتية، شملت إنشاء خطوط سكك حديدية، ومدارس حديثة، ومشاريع زراعية كبرى، وكان أهم مشاريعه تلك هو مشروع حفر قناة السويس. ولما كانت هذه الطموحات تتطلب موارد مالية هائلة لم تكن مصر قادرة على توفيرها من إيراداتها المحلية، اضطر إلى التوجه للاستدانة من البنوك الأوروبية بشروط مجحفة.
كان الخديوي إسماعيل مقتنعًا بضرورة الإسراع بتحديث مصر، وهو ما أدى إلى تحمل ديون ضخمة تجاوزت قدرة الدولة على السداد. وتشير المصادر التاريخية مثل كتاب “تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل” لإلياس الأيوبي إلى أن الخديوي كان يعتقد أن الاستدانة أمر ضروري لتحقيق رؤيته التنموية، بغض النظر عن التكلفة. وجعلت هذه السياسة المالية، التي افتقرت إلى التوازن، الاقتصاد المصري هشًّا ومعرّضًا للضغوط الخارجية.
بلغت الأزمة ذروتها مع افتتاح قناة السويس في عام 1869، والتي كان يُتوقع أن تكون مصدر دخل كبير لمصر، لكن ارتفاع الفوائد على القروض إلى مستويات غير مسبوقة أدى إلى زيادة العجز المالي في الميزانية. ووفقًا لدراسة نُشرت في مجلة “التاريخ العربي” قبل عدة عقود، فإن الخديوي إسماعيل اضطر إلى بيع أسهم مصر في قناة السويس لبريطانيا عام 1875 مقابل 4 ملايين جنيه إسترليني. كان هذا القرار محاولة لتخفيف أعباء الدين، لكنه سبّب فقدان مصر لأحد أهم مواردها الاقتصادية والاستراتيجية.
من جانب آخر، كان لإسماعيل خصائص شخصية لعبت دورًا في هذه الأزمة، حيث عُرف بحبه للبذخ والإنفاق الكبير على القصور والاحتفالات، وهو ما زاد من تعقيد الأزمة المالية. ويقول المؤرخون إن إسراف إسماعيل ساهم في استنزاف موارد الدولة ودفعها نحو الاقتراض المستمر لتغطية العجز المالي.
ومع التسليم بحسن نيته، لا يمكن تجاهل ما مثله توجه إسماعيل نحو الاستدانة وبيع الأصول المصرية من انعكاس مباشر لسياساته الشخصية التي افتقرت إلى الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى. كان طموحه للتحديث بلا شك نقطة إيجابية، لكنه لم يوازنه بحزم مالي وإداري. وأدى هذا الأمر، إلى جانب الضغوط الدولية المتزايدة من القوى الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا، إلى خلع إسماعيل عام 1879، ثم بعد ذلك جعل البلاد عرضة للتدخلات الخارجية، التي تفاقمت باحتلال بريطانيا لمصر عام 1882.
في الوقت الراهن، تواجه مصرُ ظروفًا اقتصادية معقدة تشبه في بعض جوانبها الوضع خلال عهد الخديوي إسماعيل، وبعد ما يقرب من قرن ونصف القرن من الزمان على حدوثها أول مرة؛ تعاني البلاد ديوناً متزايدة، حيث سجل الدين الخارجي لمصر مستويات قياسية تجاوزت 168 مليار دولار بنهاية العام الماضي، قبل أن تتراجع إلى نحو 160 مليار بنهاية النصف الأول من العام، نتيجة لتحويل بعض الديون الخارجية إلى استثمارات في مشروعات جديدة، كان مشروع رأس الحكمة على الساحل الشمالي للبلاد أبرز أمثلتها. وتواصل الحكومة المصرية اعتمادها على صندوق النقد الدولي للحصول على برامج دعم مالي، تشمل قروضًا بشروط تتطلب إصلاحات اقتصادية عميقة.
وكان من بين هذه الإصلاحات تخفيض قيمة العملة المحلية، وخفض الدعم الحكومي للسلع الأساسية، وبيع أصول الدولة. وأثارت هذه السياسات انتقادات واسعة لأنها أدت بصورة واضحة إلى زيادة الأعباء على المواطن البسيط، الذي يعاني ارتفاع الأسعار وتآكل القوة الشرائية لدخله ومدخراته.
لكن أهم ما يميز الأزمة الحالية هو التوجه المتسارع نحو بيع أصول الدولة لتعويض العجز المالي، بتقييمات فاسدة لتلك الأصول، وتسمح لمشتري هذه الشركات بتعويض ما دفعوه في شرائها من الأرباح المحققة في أقل من ثلاثة أعوام في بعض الأحيان. وشملت هذه الأصول شركات صناعية كبرى مملوكة للدولة، وموانئ ومشروعات بنية تحتية، كما بعض البنوك والمؤسسات المالية وشركات التكنولوجيا الحديثة. وتلعب دول مثل السعودية والإمارات دورًا رئيسيًّا في هذا السياق، حيث تسعى للاستثمار في هذه الأصول عبر صناديق سيادية أو شركات حكومية، مستفيدة من التقييمات البخسة التي يتم البيع بها، ورغبة في الدخول إلى سوق تنعم بأكثر من 100 مليون مواطن.
ورغم أن بيع الأصول قد يُنظر إليه وسيلةً لجذب الاستثمار الأجنبي وتخفيف الأعباء المالية، إلا أنه يثير قلقًا بشأن فقدان السيطرة على موارد استراتيجية. وفي حالة قناة السويس تحديداً، والتي تناثرت الأقاويل حولها خلال العامين الأخيرين، يتخوف كثيرون من أن يؤدي بيع أصول مرتبطة بها إلى تقويض سيادة مصر على هذا الممر الملاحي شديد الأهمية، وما قد يترتب عليه من تراجع كبير في قوة الدولة المصرية وتأثيرها في محيطها الخارجي.
تعيد الظروف الاقتصادية الحالية إلى الأذهان سيناريو عهد الخديوي إسماعيل، إذ أدت السياسات المالية غير المستدامة إلى تدخل أجنبي واسع النطاق. ومع تزايد الديون واعتماد مصر على القروض الخارجية، يصبح الاقتصاد المصري عرضة لضغوط أكبر من المقرضين الدوليين أو الدول الداعمة، ما قد يُجبر الحكومة على تقديم تنازلات قد تشمل بيع أصول استراتيجية، أو حتى السماح بتدخل أكبر في إدارة مواردها.
هذه المخاوف ليست بعيدة عن الواقع الذي نعيشه في مصر حالياً، حيث عين صندوق النقد الدولي مندوباً دائماً، لديه مكتب تابع لوزارة المالية في مصر. ويحمل هذا الأمر مخاطر اقتصادية متعددة، حيث يؤدي إلى الحد من استقلالية السياسات الاقتصادية المحلية لصالح تنفيذ إصلاحات قد لا تتناسب مع الاحتياجات الفورية للمجتمع، مثل تخفيض الدعم وتحرير الأسعار. ويُعزز وجود هذا المندوب الاعتماد على القروض وزيادة الدين العام، ما يثقل كاهل الاقتصاد المصري بأعباء إضافية على المدى الطويل. فهل نستفيق قبل أن نشهد انتداباً جديداً على مصر؟
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس