بعد جورج والباقر.. ماذا عن السجناء الآخرين في مصر؟

9
بعد جورج والباقر.. ماذا عن السجناء الآخرين في مصر؟
بعد جورج والباقر.. ماذا عن السجناء الآخرين في مصر؟

عصام شعبان

أفريقيا برس – مصر. خرج الباحث باتريك جورج والمحامي محمد الباقر من السجن في مصر، وهما ضمن سجناء معروفين للرأي العام، بينما خلف جدران السجن آلاف آخرون، لا تُظهر بيانات رسمية عددهم، ولم يُستجب لمطلب متكرّر منذ سنوات، إجلاء الحقائق بشأنهم، خطوة أولى لتفكيك أزمتهم، إذ حتى في الحروب، تعلن الحقائق عن الأسرى.

وقد مورست، في قرار الإفراج، أخيراً، عن باتريك جورج ومحمد الباقر، الدعاية أنّ ذلك دليل ورغبة في إنجاح الحوار الوطني، وتغيّر المسار، وتطبيق معايير حقوق الإنسان، وهو ما يتجاهل قدم أزمة السجناء في مصر، وأنها سابقة على الحوار، وأن استعادة المحتجزين حريتهم حقٌّ بالأساس وردّ لمظالم. كما أن قضية السجناء لا تخصّ وحسب المشاركين في فاعليات الحوار، وليست، كما يتّضح، شرطاً لاستمرار كثيرين منهم في فاعليته وهيئاته، حيث شهدت حوادث شهور مضت وقائع احتجاز وتجديد الحبس، ومحاكمات. وعبر الحوار ومن دونه، ستظل قضية السجناء جزءاً من تفكيك الأزمة الحالية في مصر، وقد سبقت الحوار أيضا حملات قبض وإفراجات في ثنائية الخارج والوراد للسجون، ويستطيع المتابع أن يرى قرارات تجديد الحبس بحقّ عشراتٍ في القضايا مجمعة، خصوصا من 2018 وحتى نهاية 2022 وبدايات 2023.

تقول حملة “حتى آخر سجين” إنه، منذ تفعيل لجنة العفو الرئاسي، احتجز ما لا يقلّ عن 4968 شخصاً. ومنذ بداية الجلسات، خضع للتحقيق 514 شخصاً وجرى الإفراج عن 135 شخصاً منهم. ومنذ تفعيل لجنة العفو، ما زالت الخطى بطيئة، وأعداد المفرَج عنهم محدودة، وأغلبها ضمن الأسماء المعروفة للرأي العام. وهذا بالتأكيد لا يمنع الفرح والترحيب، بأن ينجو سجينٌ من الحبس ولو ساعة، وأن يعاد إلى الأمّهات والزوجات والأطفال بعض من السكينة، وهو ردّ متأخر للمظالم. ومع التقدير لجهودٍ بُذلت، لا يغطّي ذلك على حقائق ونقاط جوهرية، منها أن حرية سجناء الرأي أمرٌ مستحقّ، وأن الاتجاه إلى قصره على سجناء ذوي حظوة، يمتلكون شبكات مصالح وعلاقات تسمح بالتفاوض على حريتهم، يعنى عمليا خللا في الرؤية، وتمييزاً بين السجناء، يستند إلى الانتماء السياسي وشبكات ومجموعة المصالح، ومعايير أخرى، غالبا ذات طابع فردي، وليست مطلبا عاما، يطبّق بشكل مبدئي، وجبراً للضرر.

هذا المسار من بطء عمليات اطلاق سراح السجناء، ومحدوديتها، ومعاييرها الفردية، وارتباط بعضها بمجموعات مصالح واعتبارات غير واضحة، يستبعد قاعدة المساواة بين السجناء الذين قيّدت حريتهم بسبب التعبير عن الرأي، وتعرّضوا للحبس الاحتياطي فترات طويلة، وبعضهم تم تدويره، في قضايا جديدة.

شهدت حالتا استعادة محمد الباقر وباتريك جورج الحرية ترحيبا واسعا، ورسائل الإشادة والامتنان، من “حقوقيين” وصولا إلى شخصياتٍ من ضمن المعادين لحرية الرأي والتعبير، قصد من ذلك رسم صورة دعائية، وبثّ رسائل مفادها بأن تغيّرا جرى في البنية السياسية، بينما عمليا يجرى التعامل مع قضية السجناء باجتزاء، وكحالات فردية، لتصوّر قضية سجناء الرأي أنها تخصّ مجموعة من “الحقوقيين” تحلّ السلطة مشكلاتهم وتلبي طلباتهم. وضمن رسائل المشهد الدعائي أن الذين يمتلكون صلاتٍ وشبكاتٍ سياسية أو مجموعات مصالح، فرصهم أوفر في استعادة حريتهم، ذلك مقابل البيعة، وضمان المشاركة في الحوار الوطني والترتيب لأن تكون هناك مكانة ودور لأفراد هذه الشبكات، شرط تأييدها النظام السياسي. وبذلك تبقى أعداد المفرج عنهم محدودة. ورغم ذلك، توظّف قضاياهم في الدعاية عن “تغير” يجري في التوجهات السياسية، وتُصوّر نصرا، وتغيّرا في المعادلات تبشّر بمرحلة جديدة، بينما ما في المشهد دعاية أكبر من الفعل، ومبالغات تهدف إلى تمهيد الطريق لاستدامة النظام من دون تغيرات حقيقة.

قضي باتريك جورج 22 شهرا في السجن الاحتياطي، بينما حُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، ما يعني بقاء أشهر على انقضاء مدّة العقوبة، بينما كان يتبقى لمحمد الباقر في الحبس شهران. وعلى كل حال، إنقاذ أي مظلوم من ساعة سجن واحدة أمر مفرح. ولكن لا بد من أن يوضع في سياقه وحدوده، وكردّ متأخّر للمظالم وصيفا موضوعيا، وأيضا النظر إلى القرار ضمن قضية السجناء في مصر ككل، وارتباطها بالأزمة العامة، والتي تستدعي حلولا لها صفة العمومية والشمول وبدرجة أسرع، لا تطيل أمد الأزمة.

نشط محمد الباقر مع مجموعة محامين للدفاع عن السجناء حسب ما أمكن، لكن التشريعات القائمة جعلته متهما بجانب موكله علاء عبد الفتاح، الذي ما زال قيد السجن، يقضي رحلة ممتدّة بلغت عشر سنوات في قضايا متلاحقة، وكذلك أحمد دومة وشريف الروبي ومئات آخرون، من المعروفين للرأي العام، غير أن هناك من لا نعرفهم، نقرأ بعض أسمائهم وقصصهم في الأخبار المنشورة عن قرارات سجنهم، أو تجدّد الحبس أو حكايات عن السجناء يرويها من أفرج عنهم، وعموما الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم، هم ضحايا السلطوية والخوف والحصار التي عمّقت أزمات المجتمع ككل سياسيا واقتصاديا .

سُجن باتريك جورج بسبب مقال يسرد وقائع ثلاث حالات تعرّضت لتمييز ديني، بينما تعلن السلطة رفضها التمييز الديني، وفتحت فعليا ملفات متعلقة، كما بناء الكنائس، وحقّقت في بعض الوقائع. لم يرتكب باتريك جورج جرماً، كان يسرد ثلاثة مشاهد تمثل تمييزا وقعت خلال أسبوع، ولذلك اتهم بترويج الأكاذيب، ومشاركة جماعة إرهابية أغراضها. في الزنزانة نفسها في سجن طره، وبالتهمة نفسها، كان الصحافي النابه سامح حنين، وهو معدّ أفلام وثائقية (قبطي أيضا) متهم بمعاونة جماعة إرهابية ونشر الأكاذيب. خرج من السجن في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 وساهم نقيب الصحافيين حينها، ضياء رشوان، بالوساطة لإطلاق سراحه، ووُعد بخروج من تبقى من صحافيين، وبعد عامين اختير رشوان أمينا عاما للحوار الوطني، وتوالت التمنيات بالإفراج والانفراجة، والإصلاح الذي يتطلب وقتا. مرّ الوقت، وبقيت قضية السجناء رهن الوساطة في قضايا فردية، وفي تجاهل لمعالجة جذور الأزمة، والنظر إلى قضية السجناء قضيةً عامة يستوجب حلها سياسات بديلة، بما في ذلك تغيرات تشريعية، والتعامل مع حرية كل سجناء الرأي من دون تمييز، وإطلاق سراحهم جزءا من ردّ المظالم.

يتّهم بعض السجناء، في وسائل إعلام رسمية، بالاتصال بالخارج وبثّ إشاعات وتشويه صورة مصر. تأتي التهم في عالم مفتوح، تستطيع التواصل واكتساب المعرفة. ولكن مطلقي التهم لا ينظرون إلى من يستدعي الخارج، وكيف تصبح قضايا الحريات في مصر موضوعا لوسائل إعلام أجنبية، ومطالباتٍ وتنديدٍ من منظمّات حقوقية، ومحل نقاش في الاتحاد الأوروبي والخارجية الأميركية.

وفي قضية باتريك جورج، رحبت رئيسة وزراء إيطاليا بقرار العفو، وشكرت مصر، وأبلغت مواطنيها أن السجين الذي حصل على جنسية بلادها سيعود إليها فور إطلاق سراحه، بينما تُخبرنا وكالة الأنباء الإيطالية بأن وفودا رسمية تباحثت مع نظيرتها في القاهرة قبل أشهر بشأن أزمة باتريك جورج، والتي أصبحت قضيته تُطرح في مقاربةٍ مع حادثة مقتل جوليو ريجيني في القاهرة 2016. من استدعى الخارج إذن؟ وأي صورة تُرسم عن مصر؟ ومن جانب آخر، هل يحتاج كل سجين مصري جنسية أخرى ليتشاور مسؤولون أجانب في قضيته؟

وهل يستقيم مع هذا المشهد أن يصوّر بعضهم خروج أصدقاء أو أقران أو زملاء لهم بالمجال السياسي والحقوقي يعني حدوث تغيّر وانفكاك الأزمة، وتصدير إحساس زائف عن نصر، وترويج صورة تخالف الواقع. ويمكن سؤال من مارسوا هذه الدعاية، هل تحسّن مناخ الحريات، أو نحن في طريقنا إلى ردّ الحقوق التي سُحقت، أم أن هذه الأصوات، توهمنا وتتوهم أنها تنتصر لقضية السجناء، بينما أدوات التشريع والإجراءات والممارسات، التي أوجدت الأزمة ما زالت قائمة وقابلة للتمدّد، بل تشكل سيفا مسلطا على بعض السجناء المفرج عنهم، وأيضا ضغطا على من هم خارج السجن، يهدّدهم ويحاصرهم ويحولهم أسرى الخوف؟

لا تغيير يمكن أن يحدُث من دون الحق في التعبير والتنظيم، الذي حجب عن المكوّنات السياسية والنقابية، وطاول مجالات الفنون التي تعرّضت كما الإعلام للحصار والاحتكار (شكا الفنان محمد صبحي من ذلك أخيرا، غير شهادات سابقة لفنانين اّخرين)، وتراجعت أيضا الحرية الأكاديمية، إلى أن وصلت مصر في الترتيب مع اليمن وسورية والسعودية، حسب ما يظهر تقرير 2023. وكذلك تجاورهم في مؤشّر حرية الصحافة، وتأتي في المرتبة 166 عالميا، وتذهب منظمة مراسلون بلا حدود، في تقريرها لعام 2023، إلى تحوّل مصر إلى سجن كبير للصحافيين. كما غابت آليات الديمقراطية والانتخاب، ما جعل مصر في المرتبة 131 دوليا في مؤشّر الديمقراطية للعام 2022. وليست أحسن حالا في مؤشّر الفساد، كانت في المرتبة 130. الحصار السلطوي، وكما يشلّ إمكانات مؤسّسات المجتمع والدولة، يقلّل من مساهمة كوادرها. وهذا الحصاد لا يُقنع أحدا بأن تحسّنا يجري، وليس مرضيا، في الداخل، ولا يتصوّر أن الخواجات الذين يخاطبونهم بوفود العلاقات العامة المسافرة إلى واشنطن وبروكسل مؤثّرة. ليس وحسب لأن السماوات مكشوفة، لكن أيضا لأن هناك شعوبا ومجتمعات حية هناك، تسأل من في موقع السلطة. ولأن المشكلة هنا في القاهرة، وليست استهدافا لمصر كما يتصوّر بعضهم.

وأخيراً، ليست الدعاية سبيلاً للإصلاح، ولا رسائل الامتنان، ومشاعر الفرح، بخروج أعداد محدودة من السجناء، تعني تغيّر صور الواقع، ويجب وبشجاعة، ومن دون حساباتٍ لمجموعات المصالح، عدم السماح بإيهامنا بأنّ تغيراتٍ تجرى، أو ترويج منظورٍ قاصرٍ ومحدود، بأنّ هذا المسار يمكّن من تفكيك الأزمة وتحقيق الإصلاح.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here