إبراهيم نوار
أفريقيا برس – مصر. بعد ما يقرب من نصف قرن على بدء علاقات بين مصر وإسرائيل بعد حرب أكتوبر 73 ثم زيارة الرئيس السادات للقدس، ومعاهدة السلام عام 1979 واتفاقيات «التطبيع» فإن هذه العلاقات تبدو الآن «طبيعية» أكثر من أي وقت مضى. ومن سمات العلاقات الطبيعية أنها تمر بمنحنيات ومطبات وأزمات، لكنها تستمر تجري في كل قنوات التبادل الأمني والدبلوماسي والتجاري، وذلك على الرغم من معرفة حكومتي البلدين بـ «المقاطعة» الشعبية لتلك العلاقات؛ ففي إسرائيل يتصاعد تيار العداء للعرب والفلسطينيين، وفي الدول العربية لم يتراجع العداء للسياسات الصهيونية التي تنطوي على اغتصاب أملاك الفلسطينيين ومصادرة حقوقهم الوطنية.
ما يحدث الآن من توتر على سطح العلاقات المصرية- الإسرائيلية يؤكد ما نقول. ومنذ مجيء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، فإنه حريص على أن تكون العلاقات مع إسرائيل «دافئة» وتساعد على تحقيق الاستقرار المطلوب على الحدود الشمالية الشرقية للبلاد. وفي الوقت الحاضر فإنه يبدو حريصا على توجيه رسالة إلى إسرائيل، مفادها أن توقيع اتفاقيات للتطبيع بينها وبين الإمارات والبحرين والمغرب، لا يؤثر سلبا على وزن مصر في معادلة الأمن الإقليمي، وأن هذا الدور لا تستطيع أن تقوم به دولة أخرى.
إسرائيل من ناحيتها تبدي حرصا على متانة العلاقات مع مصر، وتعتبر أن تداعيات الهجمات المتبادلة بين الجيش الإسرائيلي وحركة الجهاد الإسلامي في غزة، من الضروري احتواءها بسرعة، وتقليل الأضرار المحتملة الناتجة عنها، وهو ما عبر عنه وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس بالقول إن «العلاقات بين الأصدقاء تشهد تقلبات صعودا وهبوطا» وأعرب عن أمله في انتهاء الأزمة «في الأيام القليلة المقبلة».
ملف العلاقات المصرية الإسرائيلية يديره في القاهرة جهاز المخابرات العامة وليس وزارة الخارجية، وفق قواعد مستقرة، ربما تستمد مذاقا خاصا من توجهات رئيس الدولة، من السادات إلى مبارك إلى السيسي، لكنها لا تتغير. هذه القواعد تتصدرها أولا مصلحة مصر في أمن واستقرار حدودها، ومن ثم الحرص على عدم انقطاع تبادل المعلومات الأمنية مع إسرائيل. القاعدة الثانية هي وضع القضية الفلسطينية في موقع القلب من تلك العلاقات، ومن ثم الحرص على ألا يتأثر الموقف المصري بمتغيرات جانبية ترتبط بتوجهات القيادة الفلسطينية، أو بمدى الاتفاق أو الاختلاف معها، سواء كانت السلطة الوطنية في الضفة، أو حماس في غزة، أو حتى حركة الجهاد الإسلامي التي تمثل قوة فرعية. أما القاعدة الثالثة فتتمثل في العمل على توجيه العلاقات المصرية الإسرائيلية في الاتجاه الذي يخدم دفع المنطقة في اتجاه السلام الإقليمي المستدام، القائم على العدل، وحل الدولتين، وعدم إهدار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والتعايش السلمي بين كل شعوب المنطقة. ولذلك، فإن التقييم النهائي للعلاقات المصرية – الإسرائيلية يجب أن يتم في إطار «منظومة شبكية» تأخذ في اعتبارها تلك القواعد الثلاث التي تلتزم بها مصر، وليس في إطار العلاقات الخطية – الثنائية المحدودة بين مصر وإسرائيل.
مظاهر وأسباب التوتر
ويمكن القول بأن مصر، منذ إقامة العلاقات مع إسرائيل، تستخدم سياسة «شعرة معاوية» مع حكوماتها المختلفة، على ضوء القواعد الثلاث المستقرة التي أشرنا إليها. ومن الأمثلة القريبة التي تجدر الإشارة إليها في هذا السياق، موقف الرئيس السيسي من رغبة نتنياهو في زيارة مصر قبيل الانتخابات الإسرائيلية العامة في اذار/مارس من العام الماضي، حيث اشترط أن يتعهد نتنياهو بإعلان التزامه بحل الدولتين، وأن يرتبط هذا الإعلان ببعض الإجراءات العملية على الأرض، لتأكيد الحقوق الوطنية للفلسطينيين وتخفيف المعاناة عنهم. وقد انتهى الأمر بأن رفض نتنياهو؛ فرفضت مصر دعوته لزيارتها. وربما كان ذلك أحد أسباب هزيمته في الانتخابات الأخيرة. أما في أزمة الاشتباكات الأخيرة في غزة فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد بادر بالاتصال بالرئيس السيسي ليشكره على الدور الذي تقوم به مصر لإنهاء المواجهة العسكرية. وجاء في البيان الصادر عن مكتب لابيد أن لمصر «دور جوهري في المحافظة على الاستقرار والأمن في المنطقة». وقالت صحيفة «هآرتس» أنه في صباح اليوم التالي للمكالمة الهاتفية، شن الجيش الإسرائيلي عملية لاعتقال إبراهيم النابلسي في نابلس، قتل فيها النابلسي وفلسطينيان آخران، في تبادل لإطلاق النار مع جنود جيش الدفاع الإسرائيلي وضباط سريين، وأصيب العشرات، حيث ضاعف هذا الحادث غضب مصر من إسرائيل، كما استمر اعتقال الأسيرين بسام السعدي وخليل العواودة القياديين في الحركة.
وبعد ما وصفته تل أبيب بتداعيات نتجت عن عدم الدقة في نقل محتوى المكالمة التي تمت بين رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس السيسي إلى وزارة الدفاع وقيادة الجيش، فإنها أسرعت باتخاذ إجراءات لمحاصرة الأزمة مع مصر ومحاولة احتوائها، والعمل على تجاوزها؛ فأرسلت رونين بار رئيس جهاز الأمن الداخلي «الشاباك» في زيارة سريعة إلى القاهرة يوم الأحد الماضي، للقاء المسؤولين عن ملف العلاقات بين البلدين وعلى رأسهم اللواء عباس كامل رئيس جهاز المخابرات العامة، الذي ألغى زيارة كانت مقررة لإسرائيل احتجاجا على عدم تنفيذ الالتزامات التي تعهدت بها خلال المفاوضات التي جرت لإنهاء الاشتباكات بين حركة الجهاد الإسلامي والجيش الإسرائيلي. وقال حاييم كورين السفير الإسرائيلي لدى القاهرة سابقا أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هو لاعب إقليمي مهم جدا، وحليف لا غنى عنه لإسرائيل وفي غزة على وجه الخصوص، لا يجب الانتقاص من قدره، مع وجود تفاهم ملحوظ بين الدبلوماسيتين المصرية والإسرائيلية، مؤكدا أن الفترة منذ بداية حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي حتى الآن تتميز بتفاهم وتعاون ملحوظين، وأن الرئيس لعب ويلعب دورا جوهريا في المفاوضات بين إسرائيل وغزة منذ عام 2014.
ومع ذلك فإن الموقف الإسرائيلي فتح جرحين آخرين تعاني منهما العلاقات بين مصر وإسرائيل حاليا. يتعلق الأول بإسقاط طائرة مسيرة «درون» مصرية تقول إسرائيل أنها اخترقت الحدود الإسرائيلية قبالة شمال سيناء في شهر حزيران/يونيو الماضي، ويتعلق الثاني بالرواية المنتشرة في إسرائيل بشأن وجود مقبرة جماعية لجنود مصريين بالقرب من القدس منذ حرب يونيو 1967. وقد طلبت مصر إمدادها بكافة المعلومات في هذا الشأن لتسهيل الكشف عن رفات الجنود ونقلهم.
المنافسة الصعبة
تكشف خريطة «العلاقات الشبكية» داخل المنطقة وجود مصدر مهم من مصادر التوتر بين مصر وإسرائيل، يتعلق بطبيعة المنافسة الإقليمية بينهما، وكيفية إدارتها في إطار تنافسي صحي، لا ينقلب إلى صراع عدائي. وتجد إسرائيل في قوتها العسكرية والتكنولوجية واحتكارها للسلاح النووي إغراء لممارسة السيطرة، ومحاولة فرض إرادتها على المنطقة كلها. هذا يتسبب في حدوث احتكاكات بين الطرفين، وهو ما ظهر واضحا في محاولات كل منهما إعادة صياغة النظام الإقليمي لمصلحته من خلال تحالفات جديدة. وإذا كانت إسرائيل قد نجحت في إقامة علاقات مع عدد من الدول العربية في إطار ما يسمى «اتفاقيات أبراهام» فإن مصر، التي تربطها اتفاقية سلام مع إسرائيل، تحاول الرد على ذلك بالعمل على تكوين اتجاه عربي، يقيم توازنا في مواجهة فكرة إقامة تحالف عسكري دائم يضم إسرائيل، وإعادة بعث فكرة التعاون الاقتصادي الإقليمي بين الدول العربية القريبة، من خلال مشاريع مشتركة مع الأردن والعراق والسعودية وغيرها، وهي دول لم تنضم إلى «إعلان النقب» الذي تشارك فيه مصر نفسها مع إسرائيل والولايات المتحدة والإمارات والمغرب والبحرين. ويساعد خلق كتلة عربية مستقلة نسبيا عن إسرائيل في إقامة توازن صحي لتحقيق الاستقرار في المنطقة، بكسر احتكار القوة والاستقطاب الحاد داخل الإقليم، بين قوتين رئيسيتين هما إسرائيل وإيران.
لعبة المصالح
استطاعت إسرائيل منذ بدأت علاقاتها السلمية مع مصر أن توظف فلسفة «خلق قاعدة للمصالح المشتركة» في تأسيس منصات مادية واجتماعية وتنظيمية تساعد على بث الحياة في تلك العلاقات السلمية. بدأت هذه المنصات باتفاق لتصدير 30 ألف برميل يوميا من البترول المصري إلى إسرائيل، إلى اتفاقيات التطبيع وتبادل الزيارات وفتح المرافق السياحية، وتسيير خطوط النقل والمواصلات، وصولا إلى اتفاق المناطق الاقتصادية المؤهلة للتصدير إلى الولايات المتحدة بدون رسوم جمركية «كويز» ثم جاءت القفزة الكبرى في العلاقات الاقتصادية في السنوات الأخيرة مع اتفاقيات تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر وإقامة منتدى الشرق الأوسط للغاز. وعلى الرغم من أن العلاقات التجارية، باستثناء النفط ما تزال محدودة في نطاق يتراوح بين 300 إلى 400 مليون دولار سنويا، فإن البلدين اتفقا على مضاعفة هذا الرقم بحلول عام 2025 وهو ما يعني أن قيمة التجارة المتبادلة بين البلدين يمكن أن تتجاوز بسهولة 3 مليارات دولار سنويا خلال 3 سنوات، بل إن مصر تطمح في مضاعفة الرقم إلى 5 مليارات دولار سنويا.
وفي الوقت الحاضر تمثل اتفاقيات تجارة الغاز، والكويز، ومنتدى الغاز والسياحة والطيران أهم محركات المصالح المادية للعلاقات بين مصر وإسرائيل. ويجد كل من البلدين مصلحة كبيرة في استمرار وتوسيع نطاق هذه العلاقات، لما في ذلك من فوائد مشتركة، والفرص المتاحة لتحقيق مستوى أعلى من التكامل الاقتصادي في المنطقة، وبينها ككل وبين دول الاتحاد الأوروبي، خصوصا في قطاعات الطاقة والتصنيع وتوطين التكنولوجيا، في وقت يعاني فيه العالم من اضطرابات في إمدادات الطاقة والغذاء، وانقطاعات في سلاسل الإنتاج على المستوى العالمي، وهو ما يزيد من أهمية التكامل بين الدول القريبة جغرافيا. وبسبب حاجة الاتحاد الأوروبي إلى مصادر للطاقة بديلة عن امدادات النفط والغاز من روسيا، تزيد أهمية التعاون بين مصر وإسرائيل في تصدير الغاز المسال والكهرباء.
ومن هنا فإن تطوير العلاقات المصرية – الإسرائيلية ضمن منظومة علاقات شبكية داخل الإقليم، وبين الإقليم والعالم يستجيب لمصالح كل من البلدين، ولمصلحة استقرار المنطقة ككل، بما يوفر أساسا معقولا للمنافسة السلمية، والحد من شدة الاستقطاب الإقليمي، ومواصلة الجهود من أجل تحقيق حل الدولتين قبل أن تتبخر مقومات هذا الحل.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس