سامح المحاريق
أفريقيا برس – مصر. عندما بدأ المصريون يتحدثون عن سور العاصمة الإدارية الجديدة مع بداية إنشائه سنة 2016، خرج رئيس جهاز العاصمة في ذلك الوقت لينفي النية بأن يحيط السور بالمدينة، ووصف الحديث عن السور بأنه كلام فارغ، ولم تكد تمضي سنوات قليلة حتى بدأت ملامح السور تتضح، ليمتد لمسافة طويلة حول منشآتها، وبفواصل إضاءة مكلفة ومتقاربة بصورة فائضة عن الحاجة.
الأسوار حول المدن ظاهرة اختفت مع الدخول في عصر الحداثة، لم تعد المدينة حصناً أو قلعة تعيش منعزلة عن العالم حولها، فالمدينة حياة متكاملة تتشابك عضوياً مع محيطها وتنفتح عليه، فلماذا ترتدّ عاصمة يفترض أن تخلف مدينة عريقة مثل القاهرة إلى العصور الوسطى وتشيد أسواراً خارج العصر والمنطق؟
استدعى المثقفون المصريون رواية للراحل أحمد خالد توفيق حملت تسمية «يوتوبيا» لتقدم صورة بشعة للمستقبل في مصر، حيث تلجأ الطبقات الثرية إلى مجتمعاتها المسورة (الكومباوند) وتبقى الطبقات الفقيرة تعيش في المدن في صراع متواصل، والرواية كتبت ونشرت قبل ثورة يناير 2011، وقتها كانت المجتمعات المسورة تظهر بشراهة في المجتمع المصري، لتطرح من جديد الأسئلة الأخرى التي تنبأ بها الشاعر أحمد فؤاد نجم وهو يتساءل (هما مين واحنا مين؟)، ليعدد خلالها أوجه التباين والافتراق بين مجتمعين في مصر، أخذا يتشكلان مع عصر الانفتاح الذي دشنه الرئيس السادات مع انفتاح (السداح مداح) كما وصفه الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين. المدينة الجديدة المسورة يفترض أن تحتضن أجهزة الحكم في مصر، وأن تستقطب يومياً عشرات الآلاف من الموظفين في الحكومة المركزية، معظمهم لن يتمكنوا من السكن داخل العاصمة وسينفقون أموالاً طائلة من أجل الوصول إلى أماكن عملهم، ليجدوا أنفسهم مضطرين لتسويات مؤلمة، تجعل القطاع العام ينفتح من جديد لاستضافة النخبة التي ستسكن العاصمة، وتتشكل من النخبة المجهرية في المجتمع المصري.
المشكلة التي ستواجه أهل العاصمة الجديدة أنهم لن يتمكنوا من العيش بخصوصية، فالكاميرات ستطاردهم كما تفعل في القرى الفارهة على الساحل الشمالي، الذي زرعت وسطه مدينة العلمين الجديدة، لتكون بديلاً للإسكندرية التاريخية، كما تستبدل العاصمة الجديدة القاهرة، والتباين الفاقع بين مجتمعين ونمطين للحياة، ستبقى تغذي بحثاً عن حلول أخرى، في مصر يستطيع الشعب المصري بثقافته الفطرية وعمقه الحضاري أن يتجاوزها من خلال الإهمال المتبادل، والتخندق في حلولهم الخاصة، بمعنى القفز للأمام بحياتهم التقليدية بعيداً عن السلطة، ما سيجفف مصادرها التمويلية مع الوقت ليدفعها للتحرك بعدائية تجاه المجتمع الذي يقع خارج الأسوار.
المجتمعات المغلقة توجد في فرنسا وبريطانيا على استحياء، بنايات فاخرة يدخلها السكان من خلال مفاتيح خاصة، ولكنهم لا يعيشون بعيداً عن بقية المجتمع، يمكن أن يمتلكوا بيتاً ريفياً فاخراً أو مصيفاً على شاطئ مترف، وعدا ذلك وفي معظم الوقت يبقون مندمجين في المجتمع، وفي مدن مثل باريس ولندن، ستجد أثرياء يمشون في الشوارع بين الناس، بعضهم لاعبو كرة قدم وآخرون يمتهنون التمثيل أو الغناء، ومعهم ملوك وأمراء بقليل من الحراسة، وبما لا يمكنهم من إحداث الاضطراب في الإيقاع اليومي للمدينة، التي لا تزعم أي دور أبعد من وجودها بوصفها مكاناً يمول استمرارية خدماته سكان من حقوقهم العيش وفق نمط يتلاءم مع حياتهم وأدوارهم. المدينة في المخيلة العربية، والعاصمة تحديداً، تمثل مكان السلطة ومستقرها، فالسلطة في حد ذاتها مركزية بصورة متعسفة، والجميع يجب أن يقدم ولاءه لها وأن يبقى ممسكاً بالوشيجة التي تربطه بها، ولذلك تمثل العاصمة الإدارية الجديدة ظاهرة غير معروفة في المنطقة العربية، وربما غير مقبولة، وخطرة فوق ذلك، فالمسألة تختلف تركيبياً عن باكستان أو إيران أو البرازيل حيث توجد فسحة لممارسة اللامركزية بناء على الطبيعة العرقية لسكان الأقاليم، أو اعتيادهم على تلك البنى منذ الحقبة الاستعمارية، وبالتالي تصبح العاصمة مدينة تداولية وتوافقية من غير تعبيرها عن المركزية الكاملة كحالة القاهرة في مصر، أو دمشق في سوريا، وكلتا المدينتين استطاعتا محو أدوار مدن كبيرة وعريقة مثل الإسكندرية وحلب. المجتمعات المغلقة الجزئية بدأت كظاهرة على حواف المدن التقليدية، ولم تزعم قدرتها على الانفصال عنها، ولكن العاصمة بوصفها مجتمعاً مغلقاً تمتلك هذه الطموحات، فهي تخدم جزءاً من القاهرة تتمدد خلاله المشروعات على مستوى الطرقات والمواصلات من غير مساس بواقع الطبقة الوسطى والفقيرة وتشاكلهما القريب في طبقة واحدة، حيث سيصبح التقسيم بين طبقات تحميها الأسوار وأخرى تعيش خارجها.
لا تتوقف مشكلات العاصمة الإدارية عند الجانب الاقتصادي الذي بدأت آثاره تظهر في واقع المديونية والتضخم في مصر، بل تمتد لتصنع مشكلات سياسية واجتماعية يمكن أن تؤدي إلى مشكلة عميقة في الدولة المصرية بشكلها الحالي والراهن الذي امتد لقرون من الزمن، وتضرب فكرة المركزية في مصر والتي تطورت أساساً على أرضية جغرافية النيل وتمدده وسط تكوينات صحراوية مقفرة، ولا يعني ذلك بالضرورة تهديد الوجود المصري بعمقه الحضاري والتاريخي والإقليمي، لأنه لا توجد أسوار يمكنها أن تحاصر مصر أو شعبها العظيم الذي تمرس على منازلة تحديات التاريخ والخروج كل مرة بروح جديدة وابتسامة واثقة وساخرة من نزق أفكار الهندسة الاجتماعية، فهو شعب تجاهل الأهرامات والمعابد قروناً، ولا يمكن أن تغيره تراكيب الإسمنت والخرسانة مهما بلغت في ارتفاعها وعنفوانها.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس