شريف أيمن
أفريقيا برس – مصر. استكملت مصر عشر سنوات منذ دهس الجنرال العسكري المسار الديمقراطي الذي بدأه المصريون عام 2011. ومع انحراف مصر عن هذا المسار، حدثت تغيرات سلبية كبرى اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا في سنوات قليلة، ما أظهر حجم الإفساد المقترن بالنزوات الخاصة المهدِرة بطبيعتها المصلحة العامة.
كانت مقدّمات الانقلاب تستلزم تمزيق حالة الوحدة التي أنتجت انتفاضة يناير (2011)، وبدأ هذا مبكّرا مع التعديلات الدستورية، في مارس/ آذار من العام نفسه، التي استقطبت المصريين على أساس ثقافي، مع أنها مسألة إجرائية سياسية، ومع النتيجة الكاسحة، تهيَّأت أرضية الاستقطاب على أساس الاستعلاء من الجهة الرابحة، والاستضعاف من الجهة الخاسرة، لكن الإشكال لم يكن في الاستقطاب السياسي فقط، بل عمد قادة المؤسّسات المسلحة (العسكرية والشرطية) إلى بذر بذور الكراهية في نفوس أفراد المؤسّستين، ثم نقلوا الكراهية إلى داخل المجتمع.
كانت أيام ما قبل الانقلاب مشحونة، لكن الدم صحب موجة كراهية هائلة غير مفهومة، وأصبحت النزاعات داخل الأسرة الواحدة ملتهبة، وانفرط عقد أُسَر على أساسٍ سياسي، في نزاع اتّخذ واجهة الوطنية، بينما كان قلبه وقالبه مصلحةً ضيقة رخيصة، لا سبيل إلى الوصول إليها إلا عبر الدم والتمزيق، ففعل عبد الفتاح السيسي بالمجتمع ما لم يستطع الاحتلال فعله سبعة عقود من احتلال مصر، وكان هناك الشعار الشهير “إحنا شعب وانتو شعب”.
أمران بديهيان في العلاقات الاجتماعية داخل الدولة؛ أن تماسك المجتمع من عوامل قوة الدولة في وجه التحدّيات، داخلية أم خارجية، وأن أهم ما تقوم به الدول المعادية مع خصومها هو تمزيق وحدتها الداخلية، بإثارة النعرات العرقية أو الثقافية، وهو ما يُعرف بمبدأ “فرِّق تَسُدْ”. وعلى مدار التاريخ الاستبدادي لمصر، كان المستبدّون يحاولون استقطاب القوى السياسية من دون المساس بوَحدة الشعب المصري، وكان طبيعيا أن يكون هناك ضابط شرطة أو جيش في منصب مرموق، ولديه أحد الأقارب في جماعة معارضة أو محظورة قانونا، مثل الإخوان المسلمين. وتوضح هذه المقاربة فهم المستبدّين السابقين للانقلاب أهمية التماسك الاجتماعي لاستقرار الدولة، وأيضا الحكم.
لا يختلف التحوّل الذي أجراه السيسي، وعمَّقه على مدار السنوات، عن سلوك الاحتلال في التمزيق الاجتماعي، وهذا محلّ تساؤل كبير عن دور الأجهزة الأمنية والاستخبارية، حينها، في قبول هذا، مع أنها، الأجهزة نفسها، التي كانت تدير المشهد قبل الثورة، ولماذا جرى السماح باستمرار الحالة وتعميقها، لا مجرّد استخدامها لغرضٍ محدّد، وتنتهي بتحصيل هذا الغرض. والسؤال الأهم، لمصلحة مَن يتم هذا؟ أو بعبارة أدقّ، لمصلحة أي جهة خارجية يتم هذا؟ فالمسألة هنا تتجاوز إرادة البقاء السياسي للنظام، لأن أساليب البقاء كثيرة، وبتكاليف أقل، وتجربة حسني مبارك في الحكم توضح أن ضررا هامشيا لتفاعلات العلاقة داخل المجتمع يضمن البقاء عقودا طويلة، فلمصلحة من يتم هذا التفتيت؟
ما يُلحظ كذلك أن هناك تغييرا أُجرِيَ في وجدان أبناء المؤسسات المسلحة، وقد سمعتُ، في أثناء خدمتي الإلزامية في الجيش، ضابطا برتبة عميد يقول لآلاف الجنود “إن الإرهابيين في سيناء ليسوا مشكلتنا، وسوف ننتصر عليهم، لكن فرحتنا ستكون يوم تحرير القدس من إسرائيل”. وهذا ما يسمعه كل من قضى فترة تجنيده قبل ثورة 2011، أو حتى بعد الانقلاب في سنواته الأولى، لكن السيسي يُركِّز، في أحاديثه، على أنه يخوض حربا ضد الإرهاب في سيناء وغيرها، وفي المقابل، يُشدِّد على عدم المساس بأمن دولة الاحتلال، و”السلام الدافئ” معها! فهل من مصلحة مصر أن تكون حامية لأمن الدولة المحتلة صاحبة الجرائم اليومية في كل قُطْر محتل، وصاحبة التاريخ الطويل من الحروب معنا؟
يتّصل بهذه المسألة وجود حالة سخط شعبية على المؤسسة العسكرية، فكل من يعمل في أي قطاع تدخَّل فيه الجيش يبدي سخطا كبيرا على تدخّل الجيش في قطاعه، والجيش دخل في كل القطاعات منافسًا، لا منتجا على قدر حاجته الداخلية، فأصبح ينافس في الزراعة والإنتاج الحيواني والصناعة والمقاولات، والفن أيضا، وحتى في القطاعات الإدارية، فمثلا هناك هيئة للمساحة والتراخيص العسكرية، وقد تَوسَّع نطاقها إلى المدنيين لتوازي عمل الهيئات المحلية والأحياء، وأيضا إدارة المحاجر مثلا التي جرى حلها في إدارات المحافظات ونقل تبعيتها إلى الجيش، فضلا عن سيطرة قيادات عسكرية على كل الهيئات الإدارية والوزارية.
ما أحدثه هذا التدخل الخشن أنه في مقابل تقدّم المؤسّسة خطوةً تجاه أي قطاع، فإن المقابل إزاحة عاملِين فيه، وترتبط هذه الإزاحة ببعدين: الأول أن هناك نسبة من المتعطّلين تتزايد، أو انتقال من فقدوا عملهم إلى حقل عمل غير حقل خبرتهم. والثاني، أن أصحاب الخبرة في القطاع يحلّ محلهم ضبّاط لا خبرة سابقة لديهم في المجال، ويبدأون التعلم واكتساب المهارات، ما يضرّ بكفاءة القطاع كله، وبالتالي يتضرّر الاقتصاد المصري.
اللافت أن السيسي دوما ما يُلصق المؤسسة العسكرية بكل الأعمال بصورة فجَّة، وهو ما كان يتحفّظ عليه الحكام العسكريون السابقون. صحيح أن هناك فارقا في مساحة التدخل بين السيسي وأسلافه، لكنهم رغم محدودية التدخّل لم يكونوا يريدون إثارة غضب أي جهة في المجتمع تجاه المؤسّسة، وهذه الفجاجة أدّت إلى إحداث سخط شعبي ملموس ليس له سابق، ما يكرّر السؤال، لمصلحة من يتم هذا؟
تجرَّأ النظام الراهن كذلك على أمان الناس الاجتماعي، فهدم البيوت بدعوى المنفعة العامة، والأكثر كارثية أنه هدم المقابر كذلك، فلم يعد أحدٌ يأمن على دنياه أو أُخراه، ثم عمدت يد إفساده إلى مقابر الكبار من صُنَّاع التاريخ والحضارة في القرون البعيدة والسنوات القريبة، لينبش قبورهم بدلا من ترميمها والحفاظ عليها في مكانها، وجعلها مزارا للناس، وأصبح المعنيّون بصنّاع التاريخ والحضارة خارج مصر يتحسّرون على مصير هؤلاء في أرض يبطش حاكمها بالأحياء والأموات، ولا يرقب في أحد إلًّا ولا ذمة.
أما الإدارة فقد جنى على مصر وأثقلها بديون ستكبِّل القرار المصري عقودا طويلة، وأفقر المصريين بتسارع المتسابق إلى إفراغ ما في جيوبهم ليستحوذ عليه وينفقه في ما يشاء وكيف يشاء، فأصبحت الجرائم بشعة في كيفية حصولها، مُسْفِرة عن غِلٍّ وغضب شديدين، يدفعان كل مرتكب للجريمة إلى إخراجهما عند التمكِّن من طرف أضعف، فأصبح من المعتاد أن نرى الذبح في الجرائم، والتعذيب قبل القتل. صحيحٌ أن سلوك النظام لا يبرّر الجرائم، لكنه يمهِّد الطريق لها، فالجريمة المرتكَبة مسؤولية صاحبها في المقام الأول، بينما ذيوع الجرائم مسؤولية النظام السياسي، وهذه تفرقة هامة.
خارجيا، أصبحت مصر تابعة للدول المانحة، ولا تأثير سياسي لها إلا بمقدار ما تريده الجهة المانحة، دولة أو حكومة، وقد استحوذت الإمارات والسعودية على القرار المصري طَوال فترة المنح، ولم يجرؤ اللسيسي على مقاطعة قطر إلا عندما فعلت السعودية ذلك، وعاد عندما عادت، في مهانة كبيرة لتاريخ طويل من الدبلوماسية المصرية التي احتفظت برصانتها حتى سنوات قليلة قبل ثورة 2011. وأصبح التأثير المصري في محيطه محدودا، وسلوك نظامها خارجيا معاديا لمصلحة الوطن، كأزمة حقول الغاز في المتوسط، التي قال خبراء عنها إن موقف مصر كان يمكن أن يكون أفضل لو تحالفت مع تركيا، وأيضا تدخّلها في ليبيا لصالح الانقلاب هناك ضد حكومةٍ عليها إجماع دولي وتصويت ليبي، فضلا عن تآكل تأثيرها على القرار الفلسطيني، لتصبح قَطَر البعيدة بآلاف الأميال جهة الضمان لحركات المقاومة، ومصر الحدودية لا وزن لها إلا عند العدو، لا المقاومين.
يحتاج ما جنته مصر من الانقلاب العسكري عقودا طويلة لتجاوزه، وهذا ليس كلاما إنشائيا، بل حقيقة مؤيدة بالتغيرات السياسية والاجتماعية والديون المتراكمة، وهذه الكارثة يتحمّلها هو وقادة نظامه، لا أعضاء المؤسّسات المسلحة، أو الجهات التنفيذية، فهذه المؤسّسات ليست خالية من الوطنيين والغيورين على وطنهم، الذين يدركون أن إبداء معارضتهم تعني تسليم رقابهم للجلاد من دون تحقق فائدة، ولا يزال مهتمّون كثيرون بالملفات الأمنية والعسكرية يدركون حجم الوطنية داخل هذه المؤسّسات، وإن كانت الصورة البادية للجمهور عكس ذلك.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس