في أزمة الرأسمالية السلطوية المصرية

9
في أزمة الرأسمالية السلطوية المصرية
في أزمة الرأسمالية السلطوية المصرية

عصام شعبان

أفريقيا برس – مصر. تبدو السلطوية في مصر مأزومة، تحاصرها نتائج إخفاق في إدارة الملف الاقتصادي، تدلّ عليه مؤشراتٌ ضمنها استمرار انكماش للقطاع الخاص جاوز عامين، وارتفاع لمعدّلات التضخّم قاربت 19%، غير تراجع بعض مصادر الإيرادات، ومحدودية الاحتياطي النقدي 33.5 مليار دولار. وفي ظل هذه المؤشرات، وأزمة نقص في التمويل، تبحث المجموعة الاقتصادية، في ضوء سمات الرأسمالية السلطوية عن حلول لازمتها، تتمثل بثلاثة اتجاهات: أولاً مشروع وثيقة ملكية الدولة، التي تتيح شركاتٍ ومؤسساتٍ عامة للبيع! وبرنامج طروحات الشركات في البورصة، وكلاهما يمثل خسارة حقيقية، وعودة إلى الخصخصة من أبواب خلفية، خصوصاً الاستحواذ في مجالات الصناعة.

ثانياً وفي استمرار لمسلسل الاستدانة، ومحاولة توفير تمويل، تتلقّى مصر قرضاً جديداً من صندوق النقد الدولي بمبلغ ثلاثة مليارات دولار، سيتبعه، حسب ما قال الصندوق، تحفيز شركاء لضخ تمويل إضافي بنحو 14 مليار دولار، وهذا يضيف إلى مديونية خارجية تجاوزت 155 ملياراً (الثلثان منها تقريباً استُدينا في سبع سنوات)، وشكّلت ضغطاً مستمرّاً على الموازنة، حيث تلتهم أقساطها وفوائدها ما يجاوز نصفها، كذلك تحدّ الديون من التوسّع في مهمة كما الاستثمار العام، وبند المزايا والحماية الاجتماعية الذي أصبح ضرورة اليوم، بل طالب الصندوق بتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، خلال بيان أخير لتخفيف أضرارٍ لحقت بفئات مفقرة، غير أن سياسة الاستدانة أزمةٌ في حد ذاتها وليست حلاً، وستمتد فترة السداد 30 عاماً، حسب بيانات البنك المركزي. وصحيحٌ أن مصر لم تتخلف عن سداد أي مستحقات، بما فيها بعض الودائع العربية التي تشكل جزءاً من الاحتياطي المحدود (مدّد بعضها تحت تفهم لضغط الأزمة)، لكن أعباء الديون، التي لم تكن مفاجئة لمتخذي القرار، مثلت عبئاً مضافاً، وخصوصاً مع محدودية الإيرادات، وتراجع عوائد السياحة وتحويلات المصريين في الخارج وهروب أموال ساخنة منذ الحرب الروسية الأوكرانية. وحسب بيانات البنك المركزي، سيتعين سداد ما يزيد على 40 مليار دولار خلال عامين.

ويتمثل الاتجاه الثالث لمعالجة مشكلة التمويل بشروع الحكومة بإقرار ضرائب ورسوم جديدة، والتوسع في آليات الغرامات المالية، وبدا هذا الاتجاه مع تطبيق خطط الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ في 2016، ومع خطة وزارة المالية لزيادة الإيرادات الضريبية منذ 2018، ويؤشّر على ذلك أن الإيرادات قفزت من 253 مليار جنيه في العام المالي 2014 – 2015، إلى 862 مليار جنيه في العام المالي الحالي.

وأحياناً تطرح الضرائب تحت شعارات تختص بتنظيم السوق والشمول المالي والرقمنة، وتوسيع مظلة المموّلين وتمويل الخدمات ودمج القطاع غير الرسمي، إلا أن منظومة الضرائب يشوبها افتقاد للعدالة، ويدفع العاملون بأجر أغلب الحصيلة، وتجري المحاباة لقطاعات رأسمالية تربح أكثر وتدفع أقل، حيث تغيب وسائل عادلة في التقدير، ومن حيث تشريعها وإقرارها، تجري من دون مشاركة أو ممارسة ديمقراطية، ما يخلّ من أسسها ومنطقها. ومن جهة أخرى، لا يستطيع المواطنون مساءلة الدولة عبر هيئات تمثلهم عن مردود هذه الضرائب، لأنهم يفتقدون التمثيل في جماعات مصالح وأحزاب ونقابات، في ظل حصار للمجال العام، ووسائل إعلام مقيّدة، وإغلاق لنوافذ التعبير، ما يفقدهم الثقة. وهنا تتجلى بعض سمات الرأسمالية السلطوية، التي تعتمد على سياسة القهر والإذعان، والمزاوجة بين إجراءات ليبرالية وتقشفية والتوسع في إقرار الضرائب، بما يحمل انحيازات طبقية، وتحالف بين المؤسسات الرسمية وفئات رأسمالية. على جانب آخر، تدفع نتائج هذه السياسات المنحازة وأزمة الاقتصاد الأغلبية من المصريين في معاناة من زيادة تكلفة المعيشة. ودوماً يكون المفقرون وشرائح الطبقة الوسطى الأكثر تأثراً في حال الأزمات، وهم الفئات التي يُطالب ناسُها بالتحمّل والصبر، ودفع فاتورة مشكلات حكومات سابقة وحالية.

ولا تعكس المؤشّرات الكمّية بدقة مدى صعوبات معيشية يعانيها المصريون، إذ فقدت شرائح فقيرة قدرتها على الصمود، وبات تدبير ميزانية الأسر من شرائح وسطى أمراً صعباً، وذلك في تعويم ثانٍ للجنيه، خفض القدرة الشرائية بشكل بالغ، وضيع مدّخرات لفئات وسطى، وقفزت معه أسعار السلع بنسبٍ تفوق نسب التضخّم الرسمية، وتلتهم هذه الزيادات الأجور، وأحياناً لا تكفي سلة السلع الأساسية، غير تأثيرات التعويم في تكاليف إنتاج تؤدي، في النهاية، إلى نسب تضخم مرتفعة.

تبدو نتائج سياسات الرأسمالية السلطوية في حالة إخفاق، لا تعافي اقتصادياً تحقّق، ولا تلبية لاحتياجات المجتمع، بل زادت المعاناة في توفير سبل العيش. ومع الأزمة، يظهر تململ اجتماعي يشقّ طريقه إلى النفاذ، تجاه زيادة الأعباء التي خلفها برنامج إصلاح اقتصادي، تضمّن أجندة سياسات ليبرالية، وصُوِّر على أنه الحل لعلاج مجمل المشكلات. ومع اتساع عمليات الاستدانة واستمرارها لبناء مشروعات عملاقة جرت الدعاية لها وبواسطتها لبناء شرعية الإنجاز.

أخيراً، شهدت نقابة المحامين في وسط القاهرة مظاهرات كبيرة نسبياً، غير وقفات في المقرّات الفرعية، في مشهد لافت، يمثل مجموعة مصالح مهنية، تكسر حالة صمت وحصار للنقابات فرضتها السلطوية السياسة. لكن بفعل الاقتصاد، أو بتعبير آخر نتاج نمط الرأسمالية السلطوية، بات باب الاحتجاج مرشّحاً ليكون أداة لتعديل موازين القوى، ووقف مسار لمظالم تتراكم، وطريقة في الإدارة واتخاذ القرار سلطوية، تتسم بتكرار الأخطاء. يحتجّ المحامون على فرض ضريبة جديدة، من دون حوار حولها، ويعتبرونها جباية تتفنن فيها المؤسّسات لجمع حصيلة مالية تتعدّد بنودها. وتستلزم، فضلاً عن مبالغ التحصيل، تسجيلاً إلكترونياً سنوياً، مدفوعاً، يتحمّله المموّل، وشراء ماكينات للدفع لشركة تعاقدت معها الحكومة، غير نسبة من المعاملات، ذلك من دون تقدير لشرائح المحامين، أو تكلفة أعمالهم، أو ضرورة تسهيل سبل التحصيل لا تعقيدها، وأن تتناسب أولاً مع الأوضاع الاجتماعية للفئات التي تفرض عليها الضريبة. وبعد الاحتجاج، حاولت وزارة المالية تأجيل المواجهة، وربما تسعى للتفاوض من أجل تخفيف الأعباء الضريبية، وتبسيط طرق التحصيل، وكذلك أظهر المهندسون والأطباء الاعتراض على الضريبة ذاتها.

ومع إدراك أن الضريبة حق للدولة، تفرض على الدخل والأنشطة، لا استثناء فيها إلا عبر حد الإعفاء المقرّر، إلا أن ملايين من المهنيين الذين تتفاوت دخولهم وأوضاعهم المعيشية يتساءلون عن مدى عدالتها وطريقة فرضها، وتناقض نهج الحكومة مع جهات رسمية أُعفيَت، وآخرين يتمتعون بمزايا ضريبية. لذا، ليس في مشهد احتجاج المهنيين وحسب اعتراض على ضغوط اقتصادية، بل هناك أيضاً رفض لإدارة السلطوية شؤون المجتمع واتخاذ القرار في غيبة من ممثلين لمجموعات المصالح، وضيقٍ بمنتجات نمط سياسي مغلق، يريد تمرير السياسات والقرارات بقوة القهر، ومن دون مسألة عن جدواها ونتائجها.

وسيدفع نهج فرض الضرائب والتوسّع فيها على فئات وسطى ومهنيين، من دون تقديرات عادلة، إلى فقدان تأييد أغلب شرائحها للسلطة، وقد كانت هذه الطبقة، وخصوصاً الفئات العليا، رديفاً اعتمد عليه النظام. وتبدو في المشهد أيضاً، وضمن سمات رأسمالية سلطوية، أبعاد أمنية في قرارات تنظيم السوق وقطاعات النشاط الاقتصادي، منها قرار بفرض رسوم جديدة وأذون تراخيص وتصاريح أمنية على ما يزيد على 80 نشاطاً للمحال التجارية، منها البقالة والمأكولات وصالونات الحلاقة وأكشاك السجائر، ومحالّ الطباعة والتصوير وغيرها، ذلك ضمن تطبيق للقانون 154 لسنة 2019 بعد صدور لائحته التنفيذية. ويتضح فيها توجهان: جمع حصيلة مالية ضخمة، ضمن دمج الأنشطة رسمياً وتنظيمها، وثانياً إحكام السيطرة على حركة السوق وضبطه والتحكّم فيه من خلال الموافقات الأمنية التي وضعت شرطاً للترخيص والنشاط، والتي تتجاوز رسوم بعض أنشطتها عشرات الآلاف، وكذلك تتسم بارتفاع الغرامات، ويستهدف القرار ترخيص نحو خمسة ملايين منشأة تتوزع على 361 نشاطاً. ويبدو أمام ضغوط هذه الاشتراطات والرسوم والغرامات أنه لا يمكن تطبيقها من دون تخفيف.

وفي حالتي المحال التجارية والضريبة الإلكترونية، تتّضح سمات السلطوية الرأسمالية، بما فيها من أبعاد أمنية وإحكام السيطرة على المجال العام، وتوجّه إلى جمع الضرائب من دون حوار مجتمعي أو آليات تمثيل ودون تقديرات عادلة تساهم في توسيع شبكة المموّلين، وزيادة الحصيلة من الضرائب. غير أن إحدى الأزمات أيضاً لهذا النمط من الرأسمالية، تهميش عمليتي الإنتاج الصناعي والزراعي، لمصلحة دعاية واسعة لما تسمّى المشروعات العملاقة، التي يأتي معظمها على مشروعات بناء وتشييد وبنية تحتية التهمت الموارد ودفعت إلى فخّ الاستدانة، وذلك على حساب توجيه الاستثمارات العامة إلى قطاعات إنتاجية تسد العجز في فاتورة الاستيراد التي ارتفعت وعمّقت الأزمة مع ظروف دولية جديدة، ومع استمرار الحاجة إلى الاعتماد على الأسواق العالمية في تلبية احتياجات أساسية للسوق.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here