في انتظار التعليمات

8
في انتظار التعليمات
في انتظار التعليمات

أحمد ماهر

أفريقيا برس – مصر. انتشرت منذ عدة أسابيع، على بعض وسائل التواصل الاجتماعي، عدة فيديوهات مثيرة للجدل، لمجموعة من الدرّاجين الرحّالة الذين خطّطوا للانطلاق بدرّاجاتهم الرياضية من الإسكندرية في شمال القارّة الأفريقية حتى جنوب أفريقيا، مرورا بعدة دول في القارّة السمراء. والترحال والمغامرة باستخدام الدرّاجات من الشائع في دول أوروبية وآسيوية عديدة، وهناك درّاجون عديدون رحالة أيضاً في مصر، وإن كانت تلك الهواية غير شائعة في مصر بسبب سوء حال الطرق وقواعد المرور، بجانب غياب تلك الثقافة عن قطاع كبير بسبب الأوضاع الاقتصادية، والوتيرة المتسارعة والشاقّة للحياة.

في أثناء تحرّك مجموعة الدراجين في قرى مصر متجهين جنوباً، كانت قوة من الأمن تراقبهم في كلّ خطواتهم، ومنعهم الجنود من التواصل مع المصريين أو التوقف فترات طويلة لشراء الطعام بذريعة أن الوضع الأمني لا يتحمّل هذا، ما أثار ضيقهم وسخريتهم، وصنعوا فيديوهات عديدة تعبيراً عن ذلك. وفي مرّة عرض عليهم رجال الأمن أن يركبوا سيارة الشرطة، ليوصلوهم أسرع إلى المحافظة التالية، فاستنكر الفريق الرياضي الطلب العجيب، فالغرض من المغامرة هو الرياضة والسير مسافة طويلة بالدرّاجة في وسط الطبيعة والتعرّف على ثقافة مختلفة عنهم، فلو رغبوا في الوصول بشكل أسرع لاستخدموا الطائرة من البداية.

يجري النظر إلى تلك الأنشطة غير المعتادة في مجتمعاتنا بمقدارٍ من الشك، خصوصاً إن كان القائمون بها غير مصريين، ولذلك تُفرض الرقابة عليهم لمنع تواصلهم مع المصريين، فيديوهات لآخرين منذ أعوامٍ حاولوا الانتقال بالدرّاجات من الغردقة إلى القاهرة، فتم منعهم من إكمال مغامرتهم بدون أسباب مفهومة، كما مُنعوا من محاولة التخييم في الصحراء، وتُطلب إجراءات وتصاريح غاية في التعقيد. وأخيراً، كتب مدوّن أجنبي تقييماً عما قابله من تعنّت وتضييق في مصر عند محاولته التخييم في الصحراء المصرية وقضاء مغامرة في الطبيعة، مقابل التسهيلات والترحيب الذي لاقاه في السعودية أو الأردن.

على المستوى المحلي، لا يختلف الأمر كثيراً، بل يكون المنع الأمني تصرّفاً تلقائياً حتى إشعار آخر، وهناك حالات منع أمني غير مبرّر كثيرة لرياضيين هواة ورحالة مغامرين يحاولون التنقل والتخييم في صحراء بلادهم وطبيعتها. وعلى المستوى الشخصي، لي تجارب مشابهة، فأنا من هواة الترحال بالدرّاجة أيضاً والسفر مسافات طويلة، وتعرّضت عدّة مرّات للتوقيف والمنع من استكمال الرحلة أو زيارة الأماكن الأثرية من دون أسباب مفهومة، فالمنع هو الإجراء التلقائي، خصوصاً إذا كان القائمون على النشاط مجموعة من الشباب المستقل عن الحزب الحاكم أو المؤسّسات الرياضية الرسمية.

وبالرغم من ادّعاء السلطة تشجيعها للرياضة، خصوصاً الدرّاجات، وبالرغم من وجود مبادرات شكلية عديدة، تدّعي دعم الرياضة، لكن الواقع عكس ذلك تماماً. ولذلك، تتصادم المزاعم مع الممارسات الفعلية التي يغلب عليها الهوس الأمني والعقلية المتحجّرة، وكثيراً ما يجري طلب موافقات أمنية وشروط تعجيزية، غالباً لا تأتي إلا بعد الوساطات والمطالبات اللحوحة.

يذكّرني ذلك أيضا بفيديو على “يوتيوب” منذ أكثر من عام يوثق معاناة اليوتيوبر الأميركي ويل سنبوشنر، والذي تخصص في إنتاج وثائقيات عن مجال السياحة والسفر والأطعمة المختلفة وطباع الشعوب، يقدّم تقاريره المصوّرة بشكل شائق ومهني، ويتابعه ملايين من البشر في العالم، ولكن تجربة مؤلمة كانت له عند قدومه مصر بهدف إنتاج فيلم وثائقي على مدوّنته، فوثّق تجربته المريرة تحت عنوان “لا أنصح بزيارة مصر مرّة أخرى”، فعندما وجدوا معه معدّات تصوير وفيها كاميرات “درونز”، بدأت تدبّ حالة من التوتر في المطار، وأجرى الموظفون عشرات الاتصالات بمسؤولين أمنيين، وبدأ التحقيق الذي امتد عدة ساعات معه، وكانت الأسئلة عن هدفه من الزيارة، ولماذا أحضر معه كاميرات، وأين التصاريح، فأجابهم إنه قادم لعمل حلقات عن المجتمع المصري والأماكن السياحية والأكلات الشهيرة في مختلف المحافظات، فلم يفهم المحققون ما يقول، وطالبوه بالحصول على تصريح مسبق، لأن تلك الأمور لا بد أن تتم بإشراف الجهات الرسمية والأمنية. وعندما طلب الحصول على تصريح لم يتمكّن طوال فترة إقامته، ولم يُخبره أحد بالإجراءات المطلوبة والأوراق والرسوم، وصادروا كاميراته والمعدّات باهظة الثمن. وخلال عدة أيام في انتظار التعليمات، كانت هناك مراقبة لصيقة له كأنه جاسوس خطير، وجرى تفتيشه عدّة مرات أخرى. وبالكاد استطاع توثيق ما حدث له عن طريق كاميرا الهاتف النقال، بعد منعه بشكل تلقائي من تصوير أي شيء في الشارع أيضاً، إلى أن اضطرّ للرحيل من مصر بدون استعادة معدّاته (حسبما قال في الفيديو)، ولكنه أعدّ فيديو يحكي ما حدث، حظي بمشاهدة عدة ملايين من متابعيه.

ذكر الرجل في فيديوهاته ملحوظة هامة، أن مصر ليس فيها قانون واضح أو قواعد واضحة، فكل شيء وأي إجراء يتطلب موافقة شخصٍ ما غير ظاهر وغير معروف. وحين الحصول على تلك الموافقة تمرّ العملية ببطء شديد، وتتطلب وساطاتٍ وتدخّلاتٍ عديدة لإنهاء الأمر، وإلا مر الوقت بدون رد، أو يتم الرفض التلقائي لمن يحالفه الحظ بدون إهدار الوقت في الانتظار.

لو كانت الحكومة تتعامل بشكل عملي، أو بقدر من التفكير الذكي والعقلاني، لجرى تسهيل مهمة هذا البلوغر، بدلا من الدعاية السلبية التي انتشرت بعد تجربته المريرة، أو كان هناك تعامل أذكى وأكثر مرونةً لمغامرة الرياضيين والرحّالة، حتى يحكوا بشكل إيجابي، بدلا من التجارب السيئة التي يجري توثيقها على الإنترنت، ففي عصرنا، أصبح من المستحيل إخفاء الحقائق على نمط وزارة الإرشاد القومي وحقبة الستينيات والعهد الناصري.

تذكّرني تلك الملاحظات بفترة السجن ومعاناة المساجين وذويهم، فالقوانين واللوائح الرسمية للسجون تسمح بالزيارات وبدخول الأطعمة والملابس والكتب والراديو، بل وما هو أكثر من ذلك، لكن الجميع يعلم كم التعسّف الذي يحدُث في الواقع، حيث تخضع تلك الحقوق للأهواء الشخصية للمسؤول أو للمواقف السياسية، فالسماح والمنع مرتبطان بـ”مزاج” شخصٍ ما، ويختلف هذا الشخص باختلاف درجة أهمية هذا المسجون أو شهرته، والأكثر شهرةً تكون القرارات الخاصة به أكثر مركزية وتعقيداً.

ليست هناك قواعد واضحة لأي شيء بشكل عام، وفي كل المجالات لا بد من وجود شخصٍ (أو جهة) يمنع أو يسمح، بغض النظر عن القوانين المكتوبة التي لا تجرّم، ليس فقط الدرّاجات والرياضة أو الترحال والتخييم، قس على ذلك في الاستثمار والصناعة والتجارة، الطرق والكباري (الجسور)، السياحة والتسوّق، والسياسة والإدارة بالطبع. ليست القوانين فقط هي ما تنظّم الأشياء في مصر، بل هناك تعليمات أخرى غير مكتوبة، وأحيانا لا يكون معلوماً للعامّة من مصدرها. وفي أحيان كثيرة، يكون الرفض والمنع تلقائيا لتجنّب المساءلة أو غضب سلطة أعلى، حتى لو كان الإجراء قانونياً، وهو ما يفتح الباب للفساد، في أحيان كثيرة، عندما يتعمّد أحدهم وضع العراقيل بشكل مبدئي، حتى يكون هناك مقابل للتسهيلات التي يقدّمها بعد ذلك. وفي أحيان أخرى، يكون المنع تلقائياً، خوفاً من الوشاية من موظف آخر، فليست هناك خطورة كبيرة في حالة المنع والرفض، لكن الموافقة على الإجراء قد تُغضب شخصاً أو جهةً ما حتى لو كان التصرّف طبقا للقوانين واللوائح.

ليست تلك الوقائع حالات فردية، بل تمثل العقلية الإدارية التي تحكُم، الحكم شديد المركزية الذي بدأ منذ 1952، واستثناءات كثيرة تفتح الباب على مصراعيه أمام المجاملات والمحسوبية، وتغليب الحس الأمني على كل شيء، فتضيع الفرص البنّاءة وتهدر الطاقات وتُحبط المبادرات وتهرُب العقول المبدعة إلى الخارج.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here