محمد عزام
أفريقيا برس – مصر. ما فتئت إثيوبيا تتخذ من التاريخ سلاحا في معركتها المائية مع مصر، نهرية كانت أم بحرية، متكئة على وصم القاهرة بألفاظ من قبيل الاستعمار! وقد أسرفت في إيراد الكلمة ضمن بيانها الأخير الموجه للقاهرة والأطراف المعنية، بلغة حادة على غير ما جرت عليه العادة في الأطر الكلامية الدبلوماسية المعهودة عن وزارات الخارجية في مثل هذه الظروف، حتى وصل الأمر إلى القول بأن “الحكومة المصرية فشلت في التكيّف مع واقع القرن الحادي والعشرين، بفعل تغلغل عقلية الحقبة الاستعمارية”، وإن كان ثمة نصيحة مجانية فهي ألا يورط كاتب البيان دولته باستغلال تعبير يسهل على الخصم دحضه وبيان تهافت حجته من منطلق “رمتني بدائها وانسلت”.
ذاك أن إثيوبيا ابتلعت ما يزيد عن ريع مليون كيلومتر مربع من أراضي دولة الصومال بعدما سلمت سلطات الاحتلال البريطاني إقليم أوجادين إليها في عام 1954، ولطالما اعتبرته من أراضيها، كأن هذا الفعل لم يكن استعماريا! ولذا خاضت حربين ضد مقديشو، في عامي 1964 و1977، ناهيك عن محاولة لانتزاع قاعدة بحرية في ميناء بربرة الصومالي والاعتراف بكيان أرض الصومال الانفصالي رغما عن الحكومة الفيدرالية، علاوة على معركة أخرى طويلة استمرت 30 عاما ضد أريتريا لمنع شعبها من الاستقلال، وعلى الماشي انخرطت في معركة ثانية ضد أسمرة يمكنك أن تعتبرها قصيرة المدى إذا قارنتها بالسابقة وهذه دامت عامين فقط منذ 1998 وحتى عام 2000.
وكغيره من الجيران، لم يسلم السودان أيضا من مساعي الهيمنة الإثيوبية، ففقد إقليم بني شنقول لصالحها خلال الفترة الاستعمارية البريطانية، إضافة إلى منطقة الفشقة التي بقيت محتلة واندلعت اشتباكات متكررة بين الخرطوم والقوات الإثيوبية ومليشيات “الشفتة” المتحالفة معها، في محاولة لاستعادتها، وهو ما لم يتم إلا في عام 2021 عندما أعلنت الخرطوم استعادة السيطرة الكاملة على المنطقة، وكان لافتا وقتها الكشف عن توغل سبع مستوطنات (هل يذكرك هذا بشيء؟)، داخل حدود بلد مجاور واستقرار عشرات الآلاف من مواطني دولة أخرى على أراض لا تخصهم ونهب خيراتها دونما اعتبار لمعاهدات إن كانت من الفترة الاستعمارية أو ما تلاها، فضلا عن جميع معايير القانون الدولي.
من هنا، يتضح أننا أمام نمط استعماري نموذجي قوامه عدم الاكتراث بأي معايير تاريخية أو قانونية، ويضرب عرض الحائط بقواعد وشرائع العلاقات الدولية المستقرة، تمددا على أراضي الغير وافتئاتا على حقوقهم، ومن هذا المنطور يمكن تفسير تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد حول ما وصفه بـ”حق إثيوبيا الطبيعي في الحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر وأنه “لا رجوع عنه” قاصدا ميناء عصب الإريتري، بل إنه ذهب إلى حد التحذير من أن أي مواجهة بين البلدين قد تدفع أسمرة إلى “سيناريو أوكرانيا”، وهو ما يعني عمليا الاستيلاء على جزء من أراضيها وضمه قسرا إلى أديس أبابا، وإن لم يكن هذا هو الاستعمار بتعريفه الكلاسيكي وأدواته المعهودة في استيلاء دولة قوية على أخرى بالقوة، ونهب مواردها الاقتصادية والاجتماعية فماذا يكون؟ قليل من المنطق يصلح الفكر المعطوب، فالاستعمار لا يمكن أن يكون مشروعا عندما نمارسه ومذموما عندما نرمي غيرنا به.
لكن لماذا صدر البيان بهذه اللغة في هذا التوقيت؟ الأرجح أن الوضع الداخلي الضاغط على النظام والتصدعات والانقسامات التي تُواجه الحكومة الفيدرالية خلقت ضغطا شديدا على حكومة آبي أحمد، إذ تُشكل قوات المعارضة في أمهرة وأورومو وتيغراي جبهة مُعادية للنظام، مُعيدة رسم الخريطة السياسية في القرن الأفريقي، وبعد الانتصارات الأخيرة التي حققها المتمردون في أمهرة، بدأت الحكومة تُظهر علامات التوتر، خاصة بعدما وحد معارضوها صفوفهم حتى أن وزارة الخارجية الإثيوبية اتهمت في رسالةٍ إلى الأمم المتحدة بتاريخ الثاني من أكتوبر/تشرين الأول، جبهة تحرير شعب تيغراي (TPLF) وإريتريا بـ”تمويل وتعبئة وتوجيه” الهجمات الناجحة لقوات فانو في منطقة شمال وولو بإقليم أمهرة وربما لهذا السبب تسعى الحكومة إلى التسلح بست مقاتلات من طراز سو-35، وهي طائرة تفوق جوي روسية متعددة المهام من الجيل الرابع المُعزز (4++)، وتتميز بقدرة فائقة على المناورة وقوة نيران عالية استعدادا لحروب جديدة في بلد متشظ تتحارب قومياته بلا هوادة، ومع ذلك يسعى رئيس وزرائه الحاصل على جائزة نوبل للسلام في عام 2019 إلى فرض وصاية على دول الجوار أو اقتطاع جزء من أراضيها على ساحل البحر الأحمر، وهو ما يزعج القاهرة التي تخشى من التأثير على أمن الملاحة في مضيق باب المندب ومن ثم الطريق المؤدي إلى قناة السويس، خاصة بعدما بدأت التبعات السلبية لسد النهضة تضرب أراضيها فغرقت بعضها عقب فيضان صناعي إثر إطلاق مياه كان السد يحتجزها وراءه لتوليد الكهرباء، ما أسفر عن فيضانات في السودان، كما غمرت المياه أراضي محاذية لمجرى نهر النيل وتفريعاته بمحافظات مصرية.
والحل؟ لا يوجد أفضل ولا غير سياسة الاحتواء الناعم للتأثير على أديس أبابا والحد من خطرها، فالمواجهة العسكرية غير ممكنة تماما، لأن تبعاتها على السودانيين شديدة الخطورة وتعني، لا قدر الله، ضحايا بالآلاف وتهديدا لا يمكن احتماله لخاصرة مصر الرخوة ومقدراتها وأمنها القومي. وفي هذا الصدد على القاهرة العمل من الصفر لبناء تحالفات سياسية حقيقية داخل إثيوبيا وحولها تقوم على مبادرات اقتصادية مشتركة عنوانها “الكل رابح”، على أن تفرض أسيجة مانعة للتأثير الخارجي وتحديدا الإسرائيلي، وتعمل على نشر ثقافتها في المنطقة كلها بأساليب على غرار منح طلابية وقراءة واقعية لموازين القوى داخل الإثنيات الإثيوبية لصنع نخبة موالية داخلها وبناء صورة إيجابية بينهم، ولدى القاهرة رصيد من هذا، لعل الوزير السابق محمد فائق، أمد الله في عمره، يمكنه أن يضع إطارا آنيا له من واقع خبرته وعلاقاته منذ زمن الرئيس جمال عبد الناصر وقد كان مستشاره للشؤون الأفريقية وقت أن كانت للقاهرة كلمة حاسمة في القارة السمراء “لم تنزل إلى الأرض زمنا” فكان أن بددتها الأنظمة المتعاقبة، لكن الوقت لم يفت تماما وأن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس





