الموسيقى المستقلة في مصر: حكايات البداية والنهاية (1/2)

17
الموسيقى المستقلة في مصر: حكايات البداية والنهاية (1/2)
الموسيقى المستقلة في مصر: حكايات البداية والنهاية (1/2)

افريقيا برسمصر. لم يكن للركود الموسيقي الذي عرفته الساحة العربية، والمصرية تحديداً، في العقد الأول من الألفية الجديدة، أن يطول كثيراً. فبالتزامن مع بدء حراك سياسي، وإن كان خجولاً في مصر، بدأ المشهد الموسيقي يتحرّك بدوره. لعلّ الرابط بين السياسي والموسيقي لم يكن مباشراً، تحديداً عامي 2009 و2010، لكنّه سيصبح كذلك بعد ثورة 25 يناير 2011.

لكن، بدا في السنوات القليلة التي سبقت الثورة، أن التحضير لمشهد موسيقي مختلف قد بدأ. محاولات تُرجمت بظهور أماكن ومساحات تسمح بإقامة حفلات بأسعار تذاكر منخفضة، مقارنة بأسعار حفلات نجوم البوب التقليديين، مثل عمرو دياب وشيرين ومحمد فؤاد.

وقتها، كانت إمكانية ظهور نجوم جدد شبه مستحيلة إلا برعاية منتجين محدودين، أشهرهم نصر محروس الذي اكتشف شيرين وتامر حسني وبهاء سلطان، وعبّد لهم طريق الشهرة.

انطلاقاً من هذا الواقع، كانت علاقة الجمهور بفنانينهم المفضلين غالباً ما تقتصر على مشاهدتهم على قنوات الفيديو كليب في عصرها الذهبي في مصر، أي بين عامي 2003 و2011.

في تلك الفترة، أيضاً، درجت برامج صناعة النجوم، مثل ستار أكاديمي، وسوبر ستار، ثمّ أراب آيدول… وقد فشلت أغلبها في الحفاظ على نجومية خريجيها. أمام كل ما سبق، كان احتراف الموسيقى والوصول إلى الجمهور عبر التلفزيون، أو حتى الحفلات، مهمة شبه مستحيلة.

كل ذلك بدأ يتغيّر عام 2005، عند افتتاح ساقية الصاوي، وتقديمها كمساحة لعرض الفنون بأنواعها، من الموسيقى إلى الرسم والرقص والعروض المسرحية، ما سمح بوجود هامش موازٍ لصناعة الموسيقى في مصر بشكلها التقليدي. تدريجياً، بدأ المصريون، الجمهور الشاب منهم بشكل خاص، باكتشاف وجود موسيقى أخرى، موسيقى أقرب إليهم، بإيقاعاتها، وبمواضيعها، بعدما اختزل البوب المصري هموم هؤلاء لعقود، بالحبّ، والشوق والهجران.

في تلك الفترة كذلك، تحوّل الإنترنت هو الآخر إلى مساحة لعرض واستكشاف الفنون بأنواعها، بعد ما بات الوصول إلى الشبكة أسهل وأرخص منذ عام 2004. في هذه السنة، بدأت تنشتر فكرة مقاهي الإنترنت، التي جذبت الشباب، تحديداً أبناء الأسر محدودة الدخل التي لم يكن بإمكانها تأمين الإنترنت في المنزل.

هكذا، ظهرت منتديات ومدونات ومدونون، يناقش محتوى مواقعهم الموسيقى، ويرفع أغاني مختلفة، غير تحارية. وهو ما خلق مساحة أكبر للتعرف إلى أنواع مختلفة من الموسيقى والفنون، كان الوصول إليها نادراً عن طريق التلفزيون أو شرائط الكاسيت “المضروبة”، التي كانت متداولة بشكل كبير في تلك الفترة.

هذا الواقع بدأ يتّسع بهدوء، وكانت أولى ترجمات هذا التوسّع، اختيار إحدى شركات الاتصال لفرقة “وسط البلد” وأغنيتها “شمس النهار”، لتكون ثيمتها الإعلانية. رغم أن الفرقة موجودة منذ نهاية التسعينيات، إلا أنها لم تعرف الشهرة والنجاح إلا في تلك الفترة. وقتها، صدر الألبوم الأشهر لـ”وسط البلد”، وهو ما عرّف شريحة واسعة جداً من المصريين على “الموسيقى الأخرى” الموجودة في مصر.

هنا، بدأ ظهور فرق ثانية، وبدأ المصريون يتعرفون إليها. لم تكن تلك الفرق بنفس انتشار وسط البلد وقتها، لكن تأثيرها على المشهد الموسيقي “المستقل” كان كبيراً. نذكر تحديداً فرقتي “نغم مصري”، و”افتكاسات”، اللتين كانتا مكونتين تقريباً من نفس الأشخاص، لكنهما تقدمان مشروعين مختلفين، الأول موسيقي فقط (افتكاسات)، والثاني غنائي شعبي قريب من لون الشيخ إمام لكن بتوزيعات أكثر تطوراً (نغم مصري).

تدريجياً، بدأ المشهد يكبر، ويخرج من القاهرة. في الإسكندرية كان فنانون وفرق أقل انتشاراً يظهرون: “مسار إجباري”، و”ماسكارا” وحازم شاهين، ما ساعد في بدء انتشارهم، وجود مساحات مثل مكتبة الإسكندرية ومسرح الإبداع، المتاحان للجمهور بأسعار رمزية جداً. وقد وثّق فيلم “مايكروفون”، للمخرج أحمد عبد الله، هذه الموسيقى السكندرية المستقلة عام 2009. وشكّل الفيلم نقلة نوعية لكل الفنانين الذين ظهروا فيه، خصوصاً أن الموسيقى التي قدمها الفيلم شملت أنواعاً لم تكن شعبية وقتها في مصر مثل الراب، مع شاهين، السول جاز مع مسار إجباري في أغنية “إقرا الخبر”، او الروك مع “أبعد مكان” لماسكارا، وهي أشهر أغاني الشريط.

وتحوّل الروك في السنوات اللاحقة إلى النوع الموسيقي المفضّل لأغلب الفرق المستقلة في مصر، ما كشف تأثرهم الواضح بفرق أجنبية، مثل بينك فلويد أو كولد بلاي، نظراً إلى أن الوصول إلى إنتاجات هؤلاء كان أسهل من باقي الأنماط في عصر التلفزيون والكاسيت.

بموازاة هذا الخط، ظهرت كذلك محاولات تجريبية مع مريم صالح ومي وليد وآية متولي، اللواتي اخترن خط الموسيقى الإلكترونية البدائية وقتها، وكان أشهر تجلياتها تعاون زيد حمدان وياسمين حمدان. حصل كل ذلك قبل عام 2011، في السنوات الست الأخيرة من حكم محمد حسني مبارك، التي سمح فيها بهامش، وإن كان ضيّقاً، من الحرية الظاهرية، على الأقل.

جاء يوم 25 يناير 2011، وجاءت الثورة، ومساحات الحرية الكبيرة التي أتاحتها للمصريين في أشهرها الأولى. هذه الحرية انعكست على التجارب الموسيقية، وعلى تقديم الفنانين لمواضيع مختلفة وأكثر جرأة. هكذا، بدأت “كايروكي” تأخذ تدريجياً مكان “وسط البلد” من حيث الشعبية بعد ما باتت الفرقة المفضلة على قنوات التلفزيون الخاصة، وشركات الاتصالات وشركات المشروبات الغازية.

كان شعار تلك الفترة هو “إنت تقدر” أو “إنت التغيير”، فجاءت مواضيع أغاني كايروكي ملائمة ومتماهية مع طلب السوق التجاري. في أشهر قليلة بعد الثورة، باتت الموسيقى المستقلة متداولة ومتاحة على التلفزيون، تحديداً على قناة أون تي في التي سلطت الضوء بشكل كبير على الفرق التي تعكس اتجاهاً سياسياً في أغانيها، مثل “إسكندريلا”، أو يسرا الهواري التي حققت شهرتها الأكبر بأغنية “السور”؛ إذ اعتبر كلام الأغنية صادم لجمهور المنازل، الذي تعوّد أن كلام الأغاني يجب أن يكون منمقاً، خصوصاً إن كانت مغنيته امرأة.

وتماماً كحال كل الأحداث السياسية، اكتسب بعض الفنانين شهرته من الميدان مثل رامي عصام، الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى “مطرب الثورة”. بينما أتيح المجال كذلك لظهور فنانين آخرين اعتمدوا خط البوب والشعبي التلقيديين مثل محمد محسن ودينا الوديدي ودنيا مسعود.

كانت السنتان اللتان تلتا الثورة، ذروة الموسيقى المستقلة في مصر، وتوسعت مساحات العروض لهذا النوع من الفن خارج القاهرة والإسكندرية إلى مدن أخرى، نذكر منها مثلاً مكتبة بوكس آند بينز ومسرح حديقة شجرة الدر في المنصورة.

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here