أفريقيا برس – مصر. في كل مرة تطأ فيها أقدامك شوارع القاهرة القديمة، يتجدد الإحساس بالسحر كأنك تكتشف المكان للمرة الأولى. أزقة ضيقة تتعانق فوقها السماء المسقوفة، وأرضيات مرصوفة بالبلاط المملوكي العتيق، وروائح تتغير مع كل خطوة تقترب فيها من رحاب الدرب الأحمر والخيامية.
هناك، يمنحك المكان في كل زيارة دهشة مختلفة، قادرة وحدها على إعادتك إلى زمن جميل مضى، إلى عام 1885 تحديدا، حيث يقف دكان “زقاق الرضوان” للجلود الطبيعية شاهدا حيا على حرفة صمدت لأكثر من قرن.
ميراث الإبرة والخيط
بجوار زاوية رضوان في الخيامية، يطل الدكان العتيق محتفظا بتفاصيله كما كانت قبل نحو 120 عاما. روائح الجلود تسبقك قبل أن تطأ قدماك مدخله الضيق، الذي لا يتسع إلا لصانع واحد، وآخر يجلس إلى جواره، بينما يقف الزبون منتظرا تحديد طلبه: حذاء، أو حقيبة، أو محفظة، أو حزام.
هناك يقف الحاج توفيق، وقد بلغ السادسة والستين، مترقبا زبونا يسأل عن آخر صناع الجلود الطبيعية في الخيامية. وعلى مقربة منه، يؤدي شقيقه صلاح صلاة العصر في زاوية رضوان، التي أنشأها رضوان بيك عام 1637.
ويعود تاريخ الدكان إلى الجد الأكبر عبد الفتاح، مؤسس الصنعة، الذي أورثها لابنه ثم لأحفاده، من دون أن يظهر وريث جديد حتى اليوم. إبرة وخيط لم يتغيرا منذ قرن ونصف القرن، لكن الحرفة، رغم كل شيء، لا تزال تُقاوِم.
من المركوب والفونج إلى الفن السريالي
تعود بدايات صناعة الجلود الطبيعية في دكان صلاح وتوفيق إلى قصة الجد الأكبر عبد الفتاح، الذي عُرف بصناعة الشباشب الجلدية التقليدية. يروي توفيق: “جدي كان من أهم صناع المراكيب القديمة للمصريين، من أيام الشبشب الجلد أبو صباع، أو المركوب التقليدي. وبعد ذلك، طوّر والدي الشغل، وبدأ يتخصص في وشوش الأحذية، أو الفونج كما يسميها الإنجليز، بمختلف أنواعها”.
ويشير توفيق إلى أن الصنعة ظلت مزدهرة لسنوات طويلة، قبل أن تبدأ التغيرات مع سياسة الانفتاح الاقتصادي، وغزو المنتجات المستوردة للأسواق، واتجاه كثيرين إلى الأحذية الرياضية المصنوعة من الكاوتش، أو اقتناء الجلود الصناعية الرخيصة ذات التصاميم الحديثة. عندها، لم تعد الحرفة قادرة على مجاراة المنافسة، وبدأت في التراجع تدريجيا، إلى أن تبدل المشهد فجأة، كما يصف توفيق.
شهد محل الرضوان في منتصف تسعينيات القرن الماضي واقعة غير متوقعة غيّرت مسار الحرفة بالكامل. بدأت القصة برجل أعمال مصري مقيم في إيطاليا، مرّ مصادفة بمنطقة الخيامية، فتوقف أمام الدكان العتيق ولاحظ خصوصيته.
لم تمضِ سوى لحظات حتى طلب تنفيذ 300 حقيبة بتصميم سريالي مستوحى من العصور البدائية: حقائب من جلود حيوانات غير مصبوغة، بلا أقفال معدنية، تعتمد فقط على أربطة بسيطة لتسهيل الحمل والإغلاق.
كانت هذه الفكرة، التي حملها رجل يعيش خارج البلاد، بمثابة قبلة حياة لصناعة الجلود الطبيعية في المحل، الذي كانت إدارته قد انتقلت آنذاك إلى الأحفاد، صلاح وتوفيق، في وقت كانت فيه الحرفة تواجه خطر التراجع.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت ملامح التحول تظهر داخل الدكان. واتجه صلاح إلى توسيع دائرة العمل، وبدأ التركيز على تنفيذ طلبيات تستهدف السائحين، بدلا من الاعتماد على الزبائن المحليين وحدهم.
ويكمل توفيق حديثه قائلا: “بدأت التعاون مع السفارة الأميركية، وهيئات سعودية، وقدمت نماذج طبق الأصل من المقتنيات النبوية، إلى جانب تنفيذ حقائب مخصصة باستخدام أقمشة سيناوية وسيوية ونوبية”.
ويضيف توفيق مستعيدا بعض محطات عمله: “لا أنسى سفري ليوم واحد إلى سيوة خصيصا لشراء قماش معين، رفضت أن يكون له أي بديل مصنع في مكان آخر، لأصنع به طلبية كاملة من الأعمال التراثية السيوية”.
المعارض الرسمية خسارة بلا مكسب
لا يشارك الشقيقان صلاح وتوفيق في المعارض الرسمية التي تُنظم للترويج للمنتجات اليدوية في مصر. فبحسب تقديرهما، تتجاوز كلفة المشاركة في هذه الفعاليات، من إيجارات وأعمال تجهيز ونفقات انتقال، العائد المتوقع منها، في حين أن فارق السعر الذي قد يحققانه هناك يريان أن زبونهما الطبيعي، زائر الخيامية، أَولى به.
ولا يقتصر موقفهما على حسابات الربح والخسارة فقط، بل يتعداه إلى ما يعتبرانه معوقات أوسع تحول دون مشاركتهما. إذ يرى الأسطى توفيق أن الدولة لا توفر دعما حقيقيا للحرف التراثية من أجل تنشيطها والحفاظ عليها.
ويقول في حديثه: “لماذا لا نفعل مثل دول شرق آسيا، حيث تُنشّط السياحة عبر تنظيم رحلات إلى مراكز الحرف اليدوية، يشارك فيها السائحون بصناعة المنتج بأيديهم ثم يشترونه؟ يحدث هذا في دول لا تملك ربع المخزون التراثي الذي يمتلكه المصريون من الحرف والصناعات البسيطة القادرة على جذب الزوار”.
ويخشى الأسطى توفيق مرور السنوات، وأن يأتي اليوم الذي يُضطر فيه إلى إغلاق الدكان، بعدما ابتعد الأبناء عن صنعة الآباء والأجداد، مفضلين حياة الوظيفة ذات الراتب الثابت.
ويومها، كما يقول الأسطى توفيق، قد تتوقف الحياة في سبيل الرضوان، وتسكن الإبرة، وينقطع الخيط عن نسج الجلود.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس





