أصوات القاهرة.. التلاوة والغناء من فجر الإسلام إلى العصر الحديث

6
أصوات القاهرة.. التلاوة والغناء من فجر الإسلام إلى العصر الحديث
أصوات القاهرة.. التلاوة والغناء من فجر الإسلام إلى العصر الحديث

أفريقيا برس – مصر. لفنّي التلاوة والغناء الطربي القديم في مصر مكانةٌ محفوظةٌ منذ مطالع القرن العشرين وحتّى الآن؛ مكانة امتدت لتأسر أذان مواطني العالم العربي. من الذي لا يرقّ لصوت الشيخ رفعت في صباحات إذاعة القرآن الكريم، ثم من لا تخرج منه “آه” أو “الله يا ست” مع شدو أم كلثوم الصدّاح. هذا هو التاريخ المعروف والقريب لدى عموم الناس، و”السمّيعة”؛ وهو المصطلح الأكثر استخداما وصدقا لوصف مدمني السماع.

لكن الباحث في خطط القاهرة وفنّي التلاوة والغناء القديم، عبد الرحمن الطويل، يقول إن ظاهرة الأصوات التي صدحت في القاهرة وحازت اهتمام السميعة تمتد بجذورها لتواريخ أبعد كثيراًُ من القرن العشرين. هذا ما أكّد عليه في المحاضرة التي حملت عنوان “أصوات القاهرة؛ خطط السماع ومعاهد التلاوة والغناء” وقدّمها بـ”مركز سينما الحضارة” في “دار الأوبرا المصرية” الاثنين الماضي، حيث قال: “لا أحد يبحث في ما قبل عصر التسجيلات مع الشيخ رفعت وجيله”.

بدأ الباحث المحاضرة التي تأتي ضمن برنامج مبادرة “سيرة القاهرة”؛ وهي مبادرة مستقلة معنية بتوثيق تراث مدينة القاهرة، بتعريفات موجزة لعناصرها حيث قال: “الخطط في التراث العربي مصطلحٌ يعني به الدراسة الجغرافية للمدن وتاريخ تخطيطها، أما السماع فهو الممارسة التي تقتضي وجود ممارسة مقابلة وهي الأداء، الذي يقصده السميعة ويحجّون إليه”.

وفقاً للباحث فإن خطط السماع هي إذاً السَّّير على خطى السميعة في رحلتهم لأماكن السَّماع، سواء في معاهد التلاوة أو أماكن الغناء.

من العجيب الذي سنعرفه أنَّ عادة قرآن الجمعة الذي يعلو من مساجد القاهرة قبل الخطبة هي تقليد قديم بدأ مع ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر في زمن خلافة أخيه عبد الملك بن مروان. وللأمر قصّة طريفة يرويها الباحث قائلا: “إن الحَجاج بن يوسف الثقفي، والي العراق آنذاك، كتبَ عدّة مصاحف، وبعثَ بها إلى الأمصار، ولمّا وصلت نسخة إلى عبد العزيز في مصر أخذته العزّة والغضب، فأمرَ بكتابة مصحف خاص به يخرجه لجامع عمرو بن العاص كل جمعة، ليقرأ منه القارئ قبل الصلاة، ثم يعاد إلى الوالي مرّة أخرى”.

كان ذلك في عام 76 هجرية، وأوّل قارئ قرآن جمعة كبداية لنشأة القرّاء المُطَرِّبين هو عبد الرحمن بن حُجَيرَة الخَولاني، الذي كان من التابعين وقاضياً للبلد ورحلَ عام 83 للهجرة. استمرت هذه العادة وصولاً للعصر الحديث، لكن هناك ثلاث حوادث نقلها الباحث عن المقريزي صاحب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، تمثّل توسّعاً في مسيرة فن التلاوة، أوّلها “اعتماد القراءة التطريبية”. فقد كان لأحمد بن طولون 12 قارئاً يُجلسهم في حُجرةٍ بجواره. يبيت أربعة منهم ويتعاقبون على القراءة طوال الليل حيث “يكبّرون ويسبحون ويحمدون ويهلّلون، ويقرأون القرآن تطريباً بألحان، ويتوسّلون بقصائد زهدية، ويؤذنون أوقات الأذان” بحسب المقريزي.

وثانيها: “ظاهرة السماع المختلط بين القرآن والغناء” حيث يضيف المقريزي “فلمّا وَلي خمارويه، أقرّهم على حالهم، وأجراهم على رسمهم، وكان يجلس للشرب مع حظاياه في الليل وقيناته تغنيه، فإذا سمع أصوات هؤلاء يذكرون الله والقدح في يده، وضعه بالأرض وأسكت مغنّياته، وذكر الله معهم أبداً حتّى يسكت القوم، لا يضجره ذلك، ولا يغيظه أن قطع عليه ما كان فيه من لذّته بالسَّماع”. أمّا الأخيرة فهي تحوّل فن التلاوة إلى أن يكون “فن شارع” بحسب الباحث، أي فنّاً واسع الانتشار لا يختص بالأمراء فحسب. ففي الزمن المملوكي المعروف بكثرة إنشاءاته وأوقافه “أضفى الأمر بُعداً على انتشار فن التلاوة، إذ يجلس القرّاء في شبابيك الوقف، وعُمقها يصل إلى المتر، يسمعهم الناس في الشوارع، فينال صاحب الوقف بركة كل من يسمعه”.

حديثاً، تعدّدت تلاوات القرآن بوجود ثلّة من القرّاء الكبار في القرن الماضي، منهم مثلاً الشيخ محمد رفعت قارئاً في مسجد “فاضل باشا” بدرب الجماميز، والشيخ عبد الفتاح الشعشاعي في مسجد “السيدة زينب”، والشيخ مصطفى إسماعيل الذي بدأ قارئا في “قصر الملك” ثم في الأربعينيات عّيّن قارئاً في “الجامع الأزهر”.

وفي الغناء كما في التلاوة، تعدّدت مواطن الطرب والمطربين، فبحسب الطويل “عرفت الفسطاط درب الرقّاصين وهي منطقة المدبح في حيّ السيدة زينب الآن، وفي القاهرة المملوكية سكن أصحاب الملاهي بسوق الأنماطيين، وهو حالياً شارع المنجّدين في منطقة الغورية”.

كذلك في زمن الدولة العباسية كان عبد الله بن طاهر، وهو والي مصر من قِبَل المأمون، يمارس التلحين. أمّا أحمد بن طولون فكان يحبُّ سماع أغانٍ محدّدة عن الحماسة والبطولة، وكما يؤرخ ابن الداية، فقد أقامت بعض النساء عليه مأتماً بالغناء.

ويورد الباحث معلومة مثيرة أُخرى بخصوص الأسماء الثنائية التي عرِفنا بها مطربات أوائل القرن العشرين مثل منيرة المهدية ونعيمة المصرية، وقد أرجعها لزمن الدولة الإخشيدية، التي بدأ فيها هذا التقليد كالمغنيتين إنصاف السوداء وتحفة الجَنْكِيّة، وصولاً للدولة الفاطمية التي شاع فيها الطرب كثيراً. وقد وصل منها أهمُّ مصدر تراثي موسيقي مصري وهو كتاب “حاوي الفنون وسلوة المحزون” لابن الطحان، “الذي عاصر الخليفتين الظاهر والمستنصر، وكان والده مطربا” كما يوضّح الطويل.

المحطة الأخيرة كانت مسارح الغناء والمطربين في العصر الحديث. بدأها الطويل مع الشيخ سلامة حجازي (1852 – 1917) الذي كان أوّل مصري يؤسس فرقة مسرحية مصرية، لأن الفرق السابقة عليه كانت لشوام، وأجّر تياترو شمال حديقة الأزبكية وسمّاه “دار التمثيل العربي”. ثم كانت سلطانة الطرب منيرة المهدية (1885 – 1965) وقد بدأت الغناء في مقهى “نزهة النفوس” بالأزبكية حتّى عام 1915. وفي عام 1918 أسّست فرقتها وقدّمت عروضها على مسرح “دار التمثيل العربي”. أمّا الشيخ سيد درويش (1892-1923) فقد أسّس فرقته مطلع العام 1921، واستأجر مسرح “برنتانيا”، وفي آخر العام نفسه استأجر “دار التمثيل العربي”. محمد عبد الوهاب بدوره انطلق كمغنٍ على معظم مسارح القاهرة في العشرينيات والثلاثينيات مثل “دار التمثيل العربي”، ومسرح “حديقة الأزبكية” ومسرح “رمسيس”، الذي أنشأه يوسف وهبي.

وكان ختام المحاضرة مِسكاً مع أم كلثوم (1902 – 1975). فقد عرض الباحث أوّل إعلان لحفل تقيمه الست بتاريخ 6 أيلول/ سبتمبر 1923 على مسرح “ماجستيك” بشارع عماد الدين، وبين عامي 1925 و 1926 كانت تغني على مسرح “حديقة الأزبكية” (المسرح القومي لاحقا) بين فصول المسرحيات – ويا للعجب – التي تقدّمها فرقة عكاشة التابعة لشركة “ترقية التمثيل العربي”؛ وهي شركة كان من بين المساهمين فيها طلعت باشا حرب وبعض كبار الاقتصاديين المصريين.

وفي نهاية عام 1926 كوّنت أم كلثوم تختها الخاص وبدأت عروضها على مسرح “دار التمثيل العربي”، كما غنّت على مسرح “برنتانيا”. وفي عام 1937 قُدّر لأم كلثوم أن تدشّن تقليداً جديداً في الغناء، حيث بدأت في إحياء حفل في الخميس الأول من كل شهر تقوم الإذاعة بنقله، وهو ما لم يُكتَب لمطربة غيرها، كما يؤكد الباحث، وكان ذلك إمّا على مسرح “حديقة الأزبكية”، أو مسرح “قاعة إيوارت” التذكارية بـ”الجامعة الأميركية” في ميدان التحرير.

رحلة طويلة تلك التي ترسخت فيها فنون التلاوة والغناء وتقليدٌ بدأ منذ دخول الإسلام مصر، فلا التلاوة التطريبية مستحدثة، ولا الغناء لاقى تعنّتاً كما حدث أحيانا في الزمن المتأخر، وتلك خلاصات مهمة نخرج بها من محاضرة الطويل، فوق ما قدّمه من تأريخ مفصّل لمدرسة التلاوة وفن الغناء في الديار المصرية.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here