أفريقيا التي لا نعرف

0
أفريقيا التي لا نعرف
أفريقيا التي لا نعرف

ضحى شمس

أفريقيا برس – مصر. منذ زمن طويل جدًّا، لم تجذبني رواية كما جذبتني هذه الرواية. على الرغم من بعض المشاكل اللغوية المفاجئة نظرًا لأنها ليست الرواية الأولى للكاتب التشادي روزي جدّي، وبعض مشاكل غموض الأصوات التي تحكي عند الانتقال بين فصول الكتاب، والأخطاء الإملائية المشوّشة للمعنى (المستغربة ممن راجع الكتاب الصادر عن دار صفصافة المصري).

كنت قد يئست من الإصابة بذلك الانبهار الأوّل الذي جعلني أتعلّق صغيرة بالقراءة، خصوصاً قراءة الروايات العالمية لكبار الأدباء واكتشاف عوالم غريبة تسافر بنا من واقعنا إلى مدى تتوق إليه مخيّلتنا، فأقصد مكتبة محفوظ، الرجل الأحدب في السوق القديم في مدينتي طرابلس، والذي كان يؤجّر الكتب والروايات لذوي المداخيل القليلة وللطلّاب الفقراء.

لكن انبهاري هذه المرّة كان من نوع فريد. كان انبهاراً محيّراً. فالرواية، لم تكن رواية مثالية من حيث الصياغة أو التبويب أو اللغة. وعلى الرغم من كلّ ذلك كانت مثيرة باستمرار للاهتمام المُتزايد مع كلّ صفحة. كان انبهاراً بعالم جديد وغريب. كنت كلّما تقدّمت في قراءتها أكتشف دنيا جديدة كلّ الجدّة، تماماً كما عندما تنزل بالصدفة بلاداً لا تعرفها ولا تعرف تاريخها، فتفاجأ بأحداثها وسيرتها، ولو أنّ من أحوالها الكثير مما يشبه أحوال منطقتنا.

مكمن الجدة لم يكن فقط الجغرافيا والأحداث التي قد تحصل في بعض البلدان التي نعرفها، إن كان في منطقتنا أو في الخليج، بل في اكتشاف ناس هذه الرواية، وسيرة حيواتهم المذهلة، رواية جاءت من الصحراء وباديتها، من العاصمة المتخلّفة وأزقتها، لدولة أفريقية هي “التشاد”.

بداية، وعند قراءة مستهل رواية “آدم حواء”، تبادر الى ذهني أنّ الكاتب أراد من خلال اختياره قصة مولود خنثى (ومن هنا جاء الاسم) ليبدأ به الرواية، الاعتماد على الغرائب الجنسية لجذب اهتمام القارئ. فامتعضت لبرهة متوقّعة السطحية وتخوّفت من التتمة. لكن السطور التالية لم تكفّ للحظة عن جذبي: من المقطع الأول إلى التالي فالذي بعده. بحذر بدايةً ثم بحماسة. فالكاتب حكواتي ماهر، كلامه بسيط وسلس على الرغم من استخدامه أحياناً مفردات قديمة أو نادرة الاستخدام تجعلك تعود إلى القاموس بالرغم من بساطتها. سحبتني الرواية كما تسحب الرمال المتحرّكة من يقع فيها إلى أعماقها. وعلى الرغم من مشاكل قليلة كما سبق وذكرت في صياغة بعض الجمل ممّا يشوّش على الانسياب داخلها، إلا أني لم أتمكّن من رفع ناظري عن رواية “السر المعلن لأدم حواء” للروائي التشادي روزي جدّي. والرواية نتيجة ما يعرف بمشروع “الإقامة الأدبية” في بيت التلمساني، المنظمة من قبل “دار صفصافة” بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).

مربك وممتع ومنعش كان ذلك الانجذاب. عالم كامل لا أعرف عنه شيئاً. أفريقيا، أو بالأحرى ذلك الجزء منها الذي لا أعرف عنه شيئاً. بلاد جرّبت خليطاً تحرّرياً أيديولوجياً، مكوّناته اشتراكية سابقة وإسلامية حاضرة وقبائلية دائمة. بلاد لا تُذكر إلا نادراً في الأخبار، أقصد أخبارنا. وحين يذكر اسمها؟ لا يتمثّل إلا لقلّة منا، أي شيء في عقولنا؛ لا جغرافيا ولا ناس ولا أحداث. لا لغة ولا تراث ولا موسيقى أو فن، وبالطبع لا أدب. عالم همّشه الإعلام، ولا تجد أخباره إلا في الإعلام الفرنسي، أي إعلام المستعمر القديم المتجدّد بأشكال أخرى.

قليلون هم الصحافيون الذين يهتمون أو يعرفون فعلاً أفريقيا غير العربية. لا نتحدّث عن السودان أو ليبيا (المجاورة والمشاركة في تاريخ التشاد) أو مصر أو شمال أفريقيا. وحتى بلدان الاغتراب اللبناني كالسينغال وغيرها. هناك بلدان تشبه في عقولنا مجاهل أفريقيا لقلّة الأخبار المتداولة عنها في صحافتنا. أذكر صحافيين فقط أعرفهما كانا عميقي المعرفة بتلك الجغرافيا الأفريقية: ماجد نعمة مدير تحرير مجلة “جون أفريك” الفرنسية، والراحل يوسف خازم، وكلاهما لبناني.

مؤسف هذا الجهل، مع أنّه معذور لانشغالنا بأخبارنا وبما يحصل لنا من أحداث جسام، فضلاً عن قلّة الأخبار المتداولة عن تلك البلدان وارتباطها بنا إلا في ما ندر.

ما زلت في بداية تعرّفي إلى التشاد عبر روايات هذا الكاتب بالعربية، وهو من قلّة على ما يبدو يكتبون وينشرون بلغة الضاد في بلاده، حيث تكتب الأكثرية كما فهمت بلغة المستعمر الفرنسي.

تذكّر عوالم روزي جدّي في مكان ما بروايات عبد الرحمن منيف. ربما هو تشابه أجواء سكان الصحاري وقبائلها وأنماط حياتها، كما الريف الحديث العهد بالمدن واختلاف القيم ونوع التحوّلات. مفرداته أحياناً جلفة جلافة الصحراء أو أحاديث الشارع، لكن أحاسيسه أنيقة كما في قصيدة. يجيد الوصف، فيعينك على تصوّر الأمكنة والتعابير والمشاعر. شخوصه يتجاور فيها المشعوذون والمثليون والحائرو الهُويّة الجنسية مع أولاد العشائر والرمال والواحات وجند المستعمر الفرنسي وجواسيسه وعلمائه، عالم من نخيل وواحات تختبئ خلف كثبان كالجبال، من رمال وسراب، من نوق وبدو يدرسون في المدارس الفرنسية الراقية مع أبناء الحكّام والجنرالات، وأشخاص تائهي الهُويّة بكلّ أنواعها: جنسية، وطنية وأيديولوجية.

في “آدم حواء” تتوازى سيرة بعض أصدقاء الطفولة مع سيرة آبائهم وتاريخ بلادهم، ونكتشف نتفاً شديدة الأهمية من تاريخ تشاد عبر حيوات هؤلاء الناس وتحوّلاتهم ممن عاشوا تلك الفترات وخاضوا الحروب التحررية أو رويت لهم. كنت أقرأ ويدي تتنقل بين غوغل وبين الرواية لفهم هذا العالم الجديد تماماً عليّ. “ثورة فرولينا” أو “حرب التويوتا” مع ليبيا القذافي، تذكرت بعض الأسماء من الأخبار بالفرنسية أيام مطالعتي مجلة “جون أفريك” الفرنسية، حسين حبري مثلا…

تسارعت الأحداِث في نهاية الرواية، وحين روى لنا الكاتب نهاية أشخاصه الذين رافقناهم منذ الفقرة الأولى للرواية ومصائرهم، بدأ عالمه يصبح “مألوفاً” بشكل ما. أخذ يقترب من عوالم وأحداث وتجارب بعض بلداننا العربية الشمال أفريقية، مستمرّاً حتى النهاية بمفاجآته، ولو أنها كانت مفاجآت مؤسفة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here