أفريقيا برس – مصر. برزت فكرة إنشاء أوركسترا القاهرة السيمفوني عام 1959 ضمن منجز ثقافي ضخم، كان يقف وراءه ثروت عكاشة، الذي شغل منصب وزير الثقافة بين عامي 1958 و1962، وكان اهتمامه بالفنون الرفيعة عموماً، والموسيقى خصوصاً. يمكن اعتبار تأسيس الأوركسترا قراراً سيادياً بصبغة فنية، فقد أدرك عكاشة أن مصر، لكي تقود المنطقة ثقافياً، يجب أن تملك الأدوات التي يملكها العالم المتقدم.
والأوركسترا السيمفوني أعلى مراتب التنظيم الموسيقي، لأنه يمثل قمة التنسيق والهارموني بين عشرات العازفين تحت قيادة واحدة. حمل القرار رسالة رمزية تعكس الرغبة في بناء مجتمع منظم ومتحضر. وضع عكاشة الحجر الأساس لمرحلة موسيقية جديدة، معتبراً أن الأوركسترا هي لجامعة الموسيقية التي ستتولى نشر التراث الكلاسيكي العالمي (بيتهوفن، موزارت، باخ) في بيئة كانت لقرون تعتمد على الموسيقى الشرقية الأحادية (الميلودية)، وبهدف تكوين ذائقة مصرية قادرة على استيعاب البناء السيمفوني المركب.
وقع اختيار عكاشة على المايسترو النمساوي فرانتس ليتشاور، ليقود الأوركسترا الوليدة، ووضع المعايير التقنية الصارمة منذ اليوم الأول. لم يقتصر دور ليتشاور على قيادة الحفلات، فقد كان مكلَّفاً وضع منهجية للعزف الجماعي، وتدريب الكوادر المصرية على آلات كانت نادرة الوجود في الفرق الشرقية.
لا تمكن قراءة تاريخ أوركسترا القاهرة السيمفوني بمعزل عن السياسة الثقافية التي اتبعتها الدولة المصرية في ستينيات القرن الماضي بالانفتاح على المدارس الفنية العالمية. إن استعراض الأسماء التي تعاقبت على منصب المدير الموسيقي أو القائد الزائر يكشف عن استراتيجية واعية لتحويل هذه المؤسسة إلى مشعل حضاري يتجاوز نوره الحدود الجغرافية، ما جعل من القاهرة محطة مهمة في خريطة الموسيقى الكلاسيكية العالمية. وبدءاً من النمساوي ليتشاور، وصولاً إلى القادة المتتابعين من يوغوسلافيا وإيطاليا والمكسيك والتشيك وسويسرا؛ مثّل هذا التنوع للعازفين المصريين فرصة استيعاب موسيقية مختلفة.
فالمدرسة النمساوية والألمانية (مثل أوتوكار تروليك وأول شميت) تفرض صرامة في البناء الهيكلي وقوة في آلات النفخ والنحاس، بينما تمنح المدرسة الإيطالية (مثل مارتشيلو موتاديلي وأندرياس شبوري) الأولوية للغنائية (Lyrical) وسلاسة الجملة اللحنية، فيما تضفي المدارس الشرقية واللاتينية (مثل سرخيو كارديناس المكسيكي وييرى بتردليك التشيكي) حيوية إيقاعية وألواناً صوتية مبهجة.
أدى هذا الاستيعاب الموسيقي المتعدد إلى خلق ما يمكن تسميته بعازف الأوركسترا الشامل، أو العازف الذي يستطيع الانتقال من دقة بيتهوفن الألمانية إلى رهافة ديبوسي الفرنسية، ومن ضخامة تشايكوفسكي الروسية إلى تعقيدات الموسيقى المعاصرة، وذلك بفضل احتكاكه المباشر بقادة هم أبناء هذه المدارس وأمناؤها.
مع دخول عقد التسعينيات، بدأت الأوركسترا مرحلة جديدة، بقيادة المايسترو أحمد الصعيدي، الذي أحدث نقلة نوعية في المؤلفات المختارة، وكشف عن جرأة فنية استثنائية. اقتحم الرجل عوالم مؤلفين عُرفوا دائماً بالصعوبة التقنية، مثل مالر وبروكنر، اللذين تتسم أعمالهما بالطول الفائق والتعقيد الفلسفي والهارموني. وأيضاً سترافنسكي وبروكوفيڨ وشوستاكوڨيتش: رواد التحرر الإيقاعي والموسيقى التي تعكس صراعات القرن العشرين.
هذا التوسع في المنطقة الفنية لم يكن ممكناً لولا التراكم المعرفي الذي اكتسبته الأوركسترا من المدارس العالمية المختلفة. لقد أصبحت أوركسترا القاهرة السيمفوني منذ ذلك الحين مؤسسة قادرة على محاورة التراث الإنساني بأسره، من عصر الباروك إلى موسيقى ما بعد الحداثة، ما جعلها المرآة الفنية التي تعكس قدرة الدولة المصرية على استيعاب أرقى الفنون العالمية وتوطينها.
مثلت جولات الأوركسترا في الدول الأوروبية الفعل الدبلوماسي الأعمق. كانت هذه الجولات بمثابة اختبار عملي، أثبتت فيه الأوركسترا أن القاهرة، ودار الأوبرا المصرية، منتج وشريك في صياغة الجمال الموسيقي العالمي.
وإذا كان ثروت عكاشة هو واضع الحجر الأساس، فإن أحمد الصعيدي هو المهندس الذي شيد البناء المعاصر لأوركسترا القاهرة السيمفوني، ومنحه هويته الاحترافية التي يضاهي بها كبريات الفرق العالمية. إن تحليل تجربة الصعيدي يتجاوز حدود الحفلات التي قادها، ليمتد إلى المنهج الفلسفي الذي تبناه في إدارة الكتلة الصوتية للأوركسترا وتطويرها، وهو منهج استقاه من منابع الأصالة الموسيقية في أوروبا، وتحديداً في ألمانيا والنمسا.
تتلمذ الصعيدي على يد المايسترو الروماني الأصل سيرغي تشيليبداكي في ألمانيا، وهو أحد أهم القادة الموسيقيين في العالم، وتشرّب منه علم الظواهر الموسيقية (Phenomenology of Music). هذا العلم لا يكتفي بالأداء التقني الصحيح، بل يبحث في كيفية إدراك الإنسان للزمن والصوت، وكيفية بناء الجملة الموسيقية لتعيش في الذاكرة وتخاطب الوجدان.
كان هذا التكوين الصارم أهم معين للصعيدي، الذي ظهر قائداً للمرة الأولى في قاعة كونسرت هاوس في فيينا عام 1982. منذ ذلك الحين، انطلق قائداً زائراً لأكثر من خمسين أوركسترا عالمية، من الفيلهارمونى الملكي في لندن إلى أوركسترا إذاعة براغ. ثم قرر أن يوظف كل هذه الخبرة التي تراكمت لديه، فعاد إلى مصر ليتسلم مسؤولية قيادة الأوركسترا الوطنية، منذ عام 1991 وحتى عام 2003، ثم يعود إليها مديراً فنياً وقائداً أساسياً إلى اليوم.
خاض الصعيدي عدة تجارب تتسم بالجرأة والمغامرة، لم يكن من السهل تقديم السيمفونيات التسع لبيتهوفن كاملة، أو كونشيرتات الخمس للبيانو مع الفنان رمزي يسى، وتسجيلها لتكون مرجعاً للأجيال. هذا إنجاز ضخم، لم يكتف الصعيدي بالقيادة، ولكنه صاغ للعازفين دستوراً فنياً يقوم على الدقة المتناهية، وفهم السياق التاريخي لكل مقطوعة، ودمج العناصر الصوتية المختلفة.
في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، يعتبر دمج الكورال مع الأوركسترا طموحاً فنياً عالياً، فالأوركسترا بآلاته يمثل صوت الكون والبيئة، بينما يمثل الكورال صوت الإنسان بآلامه وآماله. أدركت إدارة أوركسترا القاهرة السيمفوني، ولا سيما في حقبتها المعاصرة، أن المكانة العالمية تقتضي تقديم تلك الأعمال الأنطولوجية الضخمة التي تجمع بين الكتل الصوتية الغنائية والآلية، وهو ما تجسد في الوحدة العضوية بين الأوركسترا وكورال أكابيللا، الذي تأسس عام 1999 وقدم العديد من الأعمال والحفلات الناجحة.
كثيراً ما واجهت الموسيقى السيمفونية في المنطقة العربية اتهاماً بأنها فن مستورد أو نخبوي بعيد عن الجذور. إلا أن أوركسترا القاهرة السيمفوني، ومنذ بداياته وصولاً إلى مأسسته الحديثة، وضع نصب عينيه قضية توطين التفكير الأوركسترالي وخلق منصات حقيقية للمؤلف المصري والعربي ليعيد اكتشاف هويته من خلال القوالب التأليفية الكبيرة.
تجاوز دور الأوركسترا عزف المقطوعات، وامتد إلى رعاية الموهبة المصرية. فمن خلال مسابقات الصوليست وورش العمل، فُتحت الأبواب أمام العازفين المصريين ليقفوا أمام الأوركسترا منفردين، ما منح أسماءً لامعة في العزف والقيادة.
وتحت قيادة الصعيدي، سُجّلت أعمال مهمة للمؤلف المصري عزيز الشوان، مثل كونشيرتو البيانو وإنترميتزو من أوبرا أنس الوجود. شكل هذا الفعل التوثيقي بحد ذاته نوعاً من أنواع حماية الذاكرة الموسيقية المصرية من الاندثار، ووضعها في سياق التدوين العالمي، ما يسهل على أي أوركسترا في العالم مستقبلاً عزف هذه المؤلفات.
ولأن بقاء أي مؤسسة ثقافية كبرى رهين بقدرتها على تجديد دمائها وبناء جمهورها وقاعدتها الفنية المبكرة. لم تكن رعاية الأطفال نشاطاً هامشياً، وإنما مثلت رؤية استراتيجية تهدف إلى خلق جيل يتنفس الموسيقى الرفيعة باعتبارها جزءاً من تكوينه الشخصي. إن تجربة كورال أكابيللا للأطفال، التي تأسست بإشراف الصعيدي، وبقيادة المايسترو نادر ناجي، مثلت أحد أرقى نماذج التربية الفنية في مصر المعاصرة.
يضم الكورال 75 طفلاً تراوح أعمارهم بين السادسة والـ13 عاماً. وهي المرحلة العمرية الذهبية لتشكيل الأذن الموسيقية والقدرات الإدراكية. لا يقتصر التعليم في هذا الكورال على تحفيظ الألحان، بل يمتد إلى الانضباط الجماعي: تعلم الطفل كيف يكون صوته جزءاً من نسيج أكبر، ما يغرس قيم العمل الجماعي والتواضع الفني، كذلك يمتد التدريب إلى الثبات الانفعالي، فالوقوف على خشبة المسرح الصغير أو الكبير بدار الأوبرا أمام جمهور نخبوي يمنح الطفل ثقة بالنفس ونضجاً شخصياً مبكراً.
كان طموح أوركسترا القاهرة السيمفوني كبيراً، وحرص قادتها على المشاركة العالمية، ضمن جولات فنية ناجحة في ألمانيا، والنمسا وفرنسا وكرواتيا، وغيرها. فحين يقف الأوركسترا المصري في قاعة برلين الفيلهارمونية أو قاعة موزيك فيراين في فيينا، يشعر عازفوه بأنهم جزء من الموسيقى الإنسانية الخالدة. ساهمت الجولات الخارجية في تعميق التعاون مع أشهر العازفين العالميين وأهمهم، مثل نيكولاي بيتروف وكريستينا أورتيز وباول ماير.
هذا الاحتكاك الدولي كان شهادة جودة، فالعازف العالمي لا يخاطر بسمعته بالوقوف مع أوركسترا لا يمتلك الانضباط الكافي، ومن ثم فإن تكرار هذه التعاونات في مهرجانات، مثل ليالي سوكيه في كان، أو مهرجان زغرب الصيفي، دليل قاطع على أن أوركسترا القاهرة السيمفوني يمتلك كوداً فنياً معترفاً به دولياً.
لعلّ قصة أوركسترا القاهرة السيمفوني منذ لحظة التأسيس على يد ثروت عكاشة عام 1959، وحتى العروض المبهرة في ديسمبر/كانون الأول 2025، قصة إرادة ثقافية لم تنكسر أمام التحديات. إنها مؤسسة استطاعت أن تدمج بين صرامة المنهج الأوروبي وسحر الروح المصرية، محولةً منصة القيادة إلى مساحة للحوار بين الثقافات، ومحولةً آلات الموسيقى إلى أدوات لصناعة السلام والجمال.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس





