“إيه اليوم الحلو ده”… لعنة المقامات والاقتصاد العربي

4
"إيه اليوم الحلو ده"... لعنة المقامات والاقتصاد العربي

أفريقيا برس – مصر. مما تتميّز به الموسيقى العربية، أنها تبقى حمّالة أوجه عندما يتعلّق الأمر بكمونها التعبيري. ففيما تُرسَم الموسيقى الغربية، المُلحّنة سلمياً، وفق حدودٍ شعورية تفصل بصورة أقل التباساً بين عوالم السُلّمين، الكبير والصغير، ما بين بهجة وفرح، وحزن وكآبة، يمكن للمقام الشرقي بفضل ديناميكية الأجناس التي يتكون منها، أن يعبّر عن مشاعر متعددة، وأحياناً متناقضة.

مقام النهاوند مثلاً، الذي يطابق الجنس الأول منه السلم الصغير في الموسيقى الغربية، هو كالحجاز والصبا، من بين المقامات الرئيسية ذات الصفة الميلانكولية بصورة عامة. لكن، إذا قورب النهاوند من الكرد، أي الجنس المكون له عند “الغمّاز”، أو النغمة الخامسة، فسيخلق حالة أكثر انشراحاً، إذ إن جنس الكرد، إذا عُزف ابتداءً من النغمة الثالثة، سيطابق في ترتيب نغماته جنس العجم الباعث على الانشراح، الذي يُماثل أول جنس منه السلم الكبير، الفرح والبهيج في الموسيقى الغربية.

أضف إلى ذلك الحامل الإيقاعي، وقد ينطبق ذلك على كل موسيقات الأرض. فكلما سرع الإيقاع أو استدعى الرقص الداب، ازدادت الموسيقى حيوية، وعليه اكتسبت كموناً تعبيرياً مُنفرجاً. وبالعكس، كلما بطؤ الإيقاع وتمهّل، تراجعت حيوية الموسيقى، لتكتسب بذلك كموناً تعبيرياً أقرب إلى الجلال أو الترح. لذا، تسمع كثيراً من الأغاني الجماهيرية المُلحّنة على المقامات ذات الأثر الحزين، كالنهاوند وغيره، تبثّ البهجة، أو على الأقل، تبعث على الرغبة في الرقص، نظراً إلى إيقاعاتها السريعة الراقصة.

تعد أغنية المغني المصري أحمد سعد، “إيه اليوم الحلو ده”، التي صدرت ضمن فيلم بعنوان “عمّهم” سنة 2022، أنموذجاً للأغنية الجماهيرية الراقصة المحفّزة لمشاعر الإشراق والتفاؤل، وذلك على الرغم من أنها لُحّنت على مقام النهاوند؛ إذ يكفي أن يوضع لحنها على إيقاع المقسوم المرتبط عضوياً بالرقص الشرقي، حتى ينشرح صدر من يسمعها وتدب الطاقة في جسمه، ليرقص على أنغامها.

إلى جانب ذلك، فإن الكلام نُظم على إيقاع الأغنية ووُضعت لأجله ألحانها. على غير العادة القديمة في الأغنية العربية الجماهيرية، هو ليس غزلياً صرفاً ولا يتناول الحب بصورة مباشرة محورية ولا يتوجّه بالخطاب إلى حبيبٍ أو حبيبة، وإنما موضوعه هو التفاؤل باليوم واستلهام الطاقة من الوجوه المتحلّقة البشوشة. ولئن ثمة حب، فهو حب الذات والتمحور حولها (يقول: مزاجي حلو وشكلي حلو عليّا كده لايق) وحب الحياة والإقبال عليها (حنولّع الدنيا رقص ما خلاص يا نَحْس بتودّع).

ثَمة أيضاً رسالة تحملها الأغنية، يدعو مضمونها إلى الانبساط والاسترخاء وعدم الاكتراث. ترد صفات كـ”رايق”، وعبارات كـ”ثلاجة أعصابي باردة ومش شاغلني ولا حاجة”. كل ذلك في غمرة كوبليه مُفعم بالفرح العارم الملامس حدود الوجد، وذلك حين يُعيد المُغني مقطع “إيه اليوم الحلو ده”، مُلحّناً على علو نغمي مرتفع، حيث جنس الكرد. فضلاً عن صوت آلة الأكورديون، شائعة الاستخدام في الموسيقى الشعبية المصرية، والتي اقترن لونها بالعرس والفرح.

كصدى الأصوات الآتية من الغرب، التي ما انفكت تعلو من على منابر مواقع التواصل الاجتماعي، تُبشّر بالامتنان للحياة واحتضانها، وتنادي بحب الذات بغية تحسينها، اكتسحت أغنية أحمد سعد العالم الناطق بالعربية. منذ عام وهي تُبثّ على موجات الراديو وفي برامج التلفزيون لمعظم القنوات الرسمية والخاصة، الأرضية والفضائية. حتى صارت بمثابة تقليعة أفضت إلى موجة ارتدادات؛ إذ ظهرت أغانٍ لمؤدين آخرين، تُقلّدها في الشكل والمضمون، تحضّ بدورها على “الرواق” والعيش بسعادة والإقبال على العيش. وفجأة، لم تعد سردية الحب، على غير العادة العربية السائدة، مقترنة بالآخر وإنما بالأنا، ولا بجرح مفتوح وشكوى مستمرة، مرّة جراء الهجر والانفصال، ومرة لاستحالة الوصال.

هكذا، أصدر أخيراً المغني اللبناني رامي عياش أغنيته “لمة الحبايب” بلون التكنو الجماهيري، إذ تروي الكلمات حكاية مجموعة من الأصدقاء يحتفلون سعداء داخل أحد المطاعم في تأنّق ورخاء. بدورها، ومن منتجع شاطئي فاره، تختال نانسي عجرم كبجعة بيضاء في ثوب من ريش أبيض، وحيدة، وإن أقحمت الحبيب في متن الأغنية من خلال حضورٍ غائبٍ مستتر، تخاطبه فتدعوه، ليأتي وينبسط: “ولو الدنيا إتكربست، نمشي وندّيها ضهرنا”. أما المصري حمزة نمرة، فقد اختار لألبومه الأخير، عنوان أغنيته، “رايق”، وفيها يستهلّ مُغنيّاً: “مش فارق مين عليّا ولا فارق مين معايا”.

وبالنظر إلى أن المقام الشرقي في الموسيقى العربية مرآة عاكسة لمقامات النفس البشرية وتنقّلاتها في الشعور، فإن الخاصية حمّالة الأوجه التي تتميز بها، عندما يتعلق الأمر بكمونها التعبيري، تجعل من تعدد المشاعر، وربما تناقضها، مرآة تعكس واقع الحياة في عموم المنطقة، وذلك بعد عقد عسير، استُهلّ بثورة واعدة، وذُيّل بثورة مضادة، تجثم بكلّ ثقلها على أوضاع اقتصادية واجتماعية قاتمة.

ففي مصر، وفيما تبث القنوات الإعلامية أغنية “رايق”، لا تفتأ حال الناس تسوء تزامناً مع تواصل تضاؤل قيمة العملة الوطنية، ما ينعكس سلباً على إسهام قطاع الصناعة التصديرية في الناتج القومي، وعليه، تردّي كل من القطاع الصحي والتربوي والخدمي.

يبدو الوضع في سورية مشابهاً حين تُسمع كلّ يوم أغنية “إيه اليوم الحلو ده”، وإن تفاقم بسبب دمار البنية التحتية جراء الحرب وتغوّل أثريائها في اقتصاد البلد المنهار اطراداً. أما حين يسمع الناس في لبنان “تيجي ننبسط”، فلعلهم يحتارون أمام ما يسمعونه وما يكابدونه في بلد بات اقتصاده يتربع رابعاً بين الاقتصادات الأسوأ في العالم. وكأني ههنا بأثر النهاوند الحزين ينجلي، ليُعبّر أصدق تعبير عن الحال العربية الراهنة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here