السينما المصرية وحرب أكتوبر.. شائعات وتكهّنات وغموض

6
السينما المصرية وحرب أكتوبر.. شائعات وتكهّنات وغموض
السينما المصرية وحرب أكتوبر.. شائعات وتكهّنات وغموض

محمد هاشم عبد السلام

أفريقيا برس – مصر. بُدور” (1974) لنادر جلال، و”الرصاصة لا تزال في جيبي” (1974) لحسام الدين مصطفى، و”الوفاء العظيم” (1974) لحلمي رفلة، و”حتى آخر العمر” (1975) لأشرف فهمي، وأخيراً، “العمر لحظة” (1978) لمحمد راضي. أفلامٌ مصرية متعلّقة بانتصار حرب السادس من أكتوبر 1973. أغلبها سادته الفرحة بالحدث، والرغبة السريعة في مواكبته، فتأثّرت الرؤية الفنية والتنفيذية والإخراجية، وغيرها.

مع ذلك، رسَخت هذه الأفلام في أذهاننا، ربما أكثر من الحرب نفسها، بكل تفاصيلها. رسوخ هذه الأفلام، تحديداً، في ذاكرة الأجيال المعاصرة لـ”حرب أكتوبر”، وللأجيال المولودة بعدها بسنوات قليلة، لم يرتبط أساساً بموضوعاتها أو جمالياتها أو شخصياتها أو بطولاتها، بقدر ارتباطه الوثيق بكونها فرضت عليهم فرضاً، إذ كانت تُعرض على قنوات التلفزيون، القليلة، منذ صباح 6 أكتوبر/ تشرين الأول حتى مسائه، ما أوجَد، لا سيما مع مرور السنوات، مشاعر مختلفة ومتضاربة، تتراوح بين الفخر والاعتزاز، إلى درجة يقشعر لها البدن، خاصة مع مشاهد العبور والانتصار؛ أو الكراهية والإحباط والملل، والنفور من ذاك اليوم، لفرط الرتابة الناجمة عن حفظنا هذه الأفلام وحواراتها، ما أفسد فرحتنا بيوم الإجازة السنوية الذي نُحرَم فيه من متعة العاديّ والطبيعي إزاء ما يعرض في التلفزيون.

ذاكرةٌ طَوَتها الفضائيات

مع مرور السنين، خَفّت حِدّة الأمر، بل تلاشت تماماً مع ظهور الفضائيات. طَوَت الذاكرةُ هذه الأفلام، وبطلَ أغلبها محمود ياسين. لكنْ، عندما يلتقط المشاهد صدفة فيلماً منها يُعرض على الشاشة الصغيرة، بينما يتنقّل بين المحطات، ينتبه فوراً إلى أنّ “هذا اليوم” ذكرى “حرب أكتوبر”. المثير للانتباه، أيضاً، أنّ أفلاماً مثل “أبناء الصمت” (1974) لمحمد راضي، و”أغنية على الممر” (1972) لعلي عبد الخالق، و”العصفور” (1972) ليوسف شاهين، أهمّ وأكثر فنّية، لم يكتشفها المرء إلا لاحقاً. ربما لأنّها لم تكن تُعرض كثيراً على القنوات التلفزيونية، بالوتيرة نفسها. فهل للأمر علاقة بأسباب سياسية خاصة، أم غيرها؟ أم لأنّها، بخلاف غيرها، ليست مرتبطة أو متمحورة، أساساً، حول “حرب أكتوبر”، ولحظة العبور، وتحقيق الانتصار؟ أم أنّها، ببساطة، ليست جماهيرية، ولا مناسِبة ليوم احتفالي كهذا؟

الأكثر إثارة، وربما غرابة إلى درجة مريبة، أنّ هذه الأفلام مُنتجة في سبعينيات القرن الـ20، بين عامي 1974 و1978، أي الأعوام التي أعقبت مباشرةً نشوة الحرب وسكرة الانتصار. بعد عام 1978، لم تُنتج لعقودٍ أفلامٌ مرتبطة بتلك الحرب، في مقابل كثرة ما كان يُنتج سنوياً احتفالاً بـ”6 أكتوبر”، من برامج وأوبيرات وأغنيات، إذاعية وتلفزيونية ثم فضائية، يُحشَد فيها نجوم/نجمات وفنانو/فنانات مصر.

في العقود التالية، تعالى الكلام، وكَثُر الحديث، وأطلقت التصريحات عن إنتاج فيلم أو أكثر، على نحو إنتاجي ضخم، عن الحرب وما جرى فيها. لكنْ، يُخيّم الصمت لاحقاً: لا يُنتج شيء. إلى درجة أنّه، مع مرور السنين، انتشرت شائعةٌ، فترسّخت، تقول إنّ مَرَدّ ذلك الملاحق السرية أو غير المُعلنة لـ”اتفاقية كامب ديفيد” (17 سبتمبر/ أيلول 1978)، التي اشترطت منع مصر من أشياء كثيرة، منها إنتاج أفلام عن الحرب، أو ضرورة أخذ رأي الطرف الإسرائيلي. تزامن هذا مع اختفاءٍ تدريجي، من قاموس الإذاعة والصحافة والإعلام في مصر، لمفردات مثل الانتصار والعبور والعدو الإسرائيلي، والأوصاف الصريحة والمباشرة مثل: العدو الصهيوني والصهاينة، وهزيمة العدو الإسرائيلي، والكيان الإسرائيلي المحتل، والمعتدي الغاصب، إلخ. هل هذه التكهّنات والإشاعات دقيقة وصحيحة، فعلاً؟ وإذا لم تكن كذلك، لماذا لم ينْفِها أحدٌ؟

المُحيّر في الأمر أنّه، في عقودٍ عدّة، كانت تنشر أخبار ومقالات وتصريحات وأحاديث صحافية تتعلّق بإنتاجٍ وشيك لفيلمٍ ضخم عن بطولات الجيش المصري في “حرب أكتوبر”، أو عن ملحمة عبور خط بارليف، وعن غيرهما من بطولات الانتصار المصري. أبرزها إعلان عن تكليف أسامة أنور عكاشة، بطلب من المُشير محمد حسين طنطاوي، كتابة سيناريو فيلم عنها، بالتعاون مع المؤسّسة العسكرية والمخابرات الحربية، وبإشرافهما طبعاً؛ وعن أنّ الجيش سيساهم مساهمة كبيرة في إنجازه، ليس فقط بتقديم معلومات ووقائع وتفاصيل، بل أيضاً لوجستياً، فيُموّل المشروع، ويمنحه أي شيءٍ لإنجازه بمظهر عالمي مطلوب.

محاولات معلّقة

شُنَّت سريعاً حملة ضد عكاشة، لأسباب عدّة، منها ما وصفه بأنّه “غير شريف” و”غير نزيه”، وأبرزها أنّه ناصريٌّ صرف، وأنّه ليس كاتباً محايداً، وأنّه سيُشوّه الحقائق المتعلّقة بالنصر، أو يحوّلها أو يُبدّلها أو يُخفي بعضها. نجحت الحملة، وجُمِّد الموضوع كلّياً، ونُسِيَ تماماً.

كذلك، هناك محاولة المنتج محمد عشوب لصنع فيلمٍ، الذي صرّح بحصوله على الموافقات الأمنية والعسكرية المطلوبة، وبأنّ أحمد زكي سيؤدّي الدور الأساسي. حدث هذا قبل تأدية زكي دوري جمال عبد الناصر في “ناصر 56” (1996) لمحمد فاضل، وأنور السادات في “أيام السادات” (2001) لمحمد خان، وإعلان الممثل رغبته في فيلمٍ عن حسني مبارك، وبطولات سلاح الطيران في الحرب، عنوانه “الضربة الجوية”. محاولة أخرى، لكنّها خجولة، لتحويل كتاب “رحلة إلى جهنم” (2013، “دار أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي”، القاهرة) لضابط الصاعقة نبيل أبو النجا، أحد أبطال “حرب أكتوبر”، إلى فيلمٍ فني “رفيع الطراز”. اختير الكاتب بلال فضل لكتابة السيناريو، وأسند الإخراج إلى التونسي شوقي الماجري. حصل المشروع على موافقة المخابرات الحربية وأجهزة أمنية وعسكرية أخرى، لكنْ، اختفى فجأة كلّ حديث عنه وعن إنتاجه، في مقابل قولٍ مفاده أن سبب تعثّر إنتاجه كامنٌ في “ثورة 25 يناير”، والأحداث الملابسات التالية عليها. كالعادة، لا يوجد تفسيرٌ ولا تصريح مقنع عن السبب الدائم لتكلّل الجهود، الصادقة حقاً، في إنتاج فيلم أو أكثر عن تلك الحرب، بفشل ذريع، في عقودٍ عدّة.

صحيحٌ أنّ هذه العقود لم تكن عجافاً، ولم تخلُ نهائياً ممّا يتعلّق بالحرب. إلا أنّ الحاصل سيكون عن الاجتماعي والسياسي، المتأثّر أو المتقاطع مع ما قبل الحرب أو مع ما بعدها، كـ”حرب الاستنزاف” (1 يوليو/ تموز 1967 ـ 7 أغسطس/ آب 1970)، أو “اتفاقية كامب ديفيد”، مثلاً. بعد هذه الفترة، أُنتِج “إعدام ميت” (1985) و”يوم الكرامة” (2004)، والفيلمان لعلي عبد الخالق، و”حكايات الغريب” (1992) و”الطريق إلى إيلات” (1993)، والفيلمان لإنعام محمد علي، و”أيام السادات”. كما أُنجزت مسلسلات عدّة بإشراف جهاز المخابرات العامة المصرية، تُظهر لحظات مجيدة، وشخصيات فذّة حقّقت بطولات هذا الجهاز، وكشفت مدى جهوزيّته ويقظته، قبل الحرب وفيها وبعدها.

لكنْ، ما من مسلسل تناول الحرب بالمعنى الحرفي للكلمة، رغم المادة الدرامية الثريّة المتوفّرة، المتعلّقة بالشخصيات والبطولات الملحمية والتضحيات والحوادث الفردية، أو معجزة حصار مدينة السويس أكثر من 100 يوم (25 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 ـ 31 يناير/ كانون الثاني 1974)، وكيفية الصمود الملحمي للمدينة وسكّانها. الغريب جداً أنّه، في العقدين الماضيين، طرح مقدِّمو/مقدِّمات برامج تلفزيونية وفضائية، مباشرةً وبصراحة، أسئلةً على ضيوفٍ مدنيين وعسكريين، عن سبب/أسباب عدم صنع أفلام عن الحرب؛ وعمّا يمنع صنع أفلام بمقاييس عالمية، طالما أنّ النيات والمواهب والتمويل والإمكانيات متوفّرة. طبعاً، كانت الإجابة دائماً أنّه “طبعاً” و”فعلاً” و”حقاً” و”بالتأكيد” سيحدث هذا، “إنْ شاء الله”. هذا كلّه مصحوباً بإجماع صادق، ورغبة جادّة في صنع أفلامٍ كهذه، إلى درجة أنّ بعضهم أعلن عن تبرّعه بأجره أو بمجهوده، أو عن مشاركته في التمويل.

إلى الآن، رغم مرور هذه العقود، لا يزال سرّ عدم إنتاج أفلام عن تلك الحرب لغزاً من ألغاز السينما المصرية والمجتمع المصري. وهذا غير عائدٍ إلى ندرة الكتاب والمواهب والإمكانيات اللوجستية والتمويلية، أو إلى رفض الاستعانة بخبرات أجنبية.

فهل أنّ بعض الملابسات والتعطيلات والتأجيل، ورفض مشاريع، إلى تراكم الإشاعات والتخمينات، سبب إنصراف المخرجين والمبدعين والمنتجين عن الأمر؟ هل كان لضرورة أخذ موافقة الجيش والمخابرات الحربية والرقابة دور في هذا؟ أم أنّ الأمر برمّته معقود على ضرورة موافقة الدولة، وطلبها المباشر؟ وذلك تجنباً لحدوث أزمة أو زوبعة، كتلك التي أثارها “عبود على الحدود” (1999) لشريف عرفة، و”السيد أبو العربي وصل” (2005) لمحسن أحمد، المتّهمَين بالسخرية من الجيش، ومن حرب أكتوبر. أيكون السببُ رغبةً في تجنّب تكرار التجربة المريرة لما حدث مع “حائط البطولات” (1998) لمحمد راضي؟ التفاصيل معروفة، ومنشورة أيضاً، ومنها تلك الواردة في مذكرات السيناريست مصطفى محرم، رغم أنّ صُنع الفيلم كان بمساعدة الجيش، وأنّ المشير محمد علي فهمي أشرف على السيناريو، بكلّ ما يملكه من ثقلٍ في التاريخ العسكري والحروب المصرية. علماً أنّه من إنتاج “اتّحاد الإذاعة والتلفزيون”، كما عُرض، بعد تنفيذه، على بعض قادة الجيش والسلاح الجوي.

التمويل موجود

قبل سنوات قليلة، أعلن شريف عرفة عن مشروعٍ له عن تلك الحرب، قائلاً إنّه بات في التجهيز والإعداد. ثم اختفى الحديث عنه، قبل أنْ يُعلن لاحقاً عن توقّفه، بسبب التكلفة العالية لإنتاجه، إلى أنْ ظهر “الممر” (2019) من إخراجه، مع عددٍ من النجوم، والتنفيذ جيّد، في الديكورات وأداء الممثلين، بعد تدريب في “مدرسة الصاعقة”، والاستعانة بفريق عمل أميركي للإشراف على المعارك الحربية، بمساعدة القوات المسلحة وإشرافها. إضافة إلى سخاء إنتاجي ملحوظ. لكنْ، ومُجدداً: يتناول الفيلم دور “قوات الصاعقة المصرية” في “حرب الاستنزاف”، رغم الأهمية الكبيرة لتلك الحرب المُمهِّدة لـ”حرب أكتوبر”.

إذاً، لا علاقة للأمر بالتمويل/ الإنتاج الذي يسهل توفّره، خاصة لمشاريع تُعتبر قومية وسيادية، فأفلامٌ كهذه حقّقت إيرادات، وأثبتت أنْ لها شعبية. لا علاقة للأمر أيضاً بالخبرات في صناعة السينما، وتنفيذ المعارك، والإبهار، فنجاح فيلمٍ بادرةٌ لإنتاج آخر.

أعلن عرفة عن تحضير فيلمٍ يتناول وقائع ما حدث في “الثغرة”، والدور الذي أدّته في تحوّل مجريات الحرب. لكنْ، إلى الآن، لا جديد عنه. استناداً إلى ما سبق ذكره، ما من رفاهية للتحدّث أبداً، أو المُطالبة بضرورة إنتاج أفلامٍ تعرض وجهات نظر مُغايرة ومختلفة، أو معارضة وانتقادية للحرب؛ وأنْ تبيّن وقائع ما حدث تفصيلاً، وما جرى فيها؛ وأنْ تطرح الجوانب الإيجابية والمُشرقة، وأيضاً الأخطاء والمثالب والتقصير، فهناك مواد كثيرة عمّا حصل في غرفة عمليات القوات المسلحة، ووردت في مذكّرات منشورة لقادة الحرب.

بمناسبة الذكرى الـ50 لانتصار “حرب أكتوبر 73″، ولتجنّب تكرار ما حدث في العقود الماضية، لا بُدّ من طرح تساؤلات كثيرة، والإجابة عنها بصدق وشفافية. مثلاً: هل هناك رغبة فعلية في مخاطبة الداخل المصري، والعربي والعالمي، بأفلامٍ كهذه، عن الجيش المصري وبطولاته؟ هل هناك رغبة في تذكير وتنشيط ذاكرة أجيال عاصرت الحرب، وحَفْر هذه اللحظة التاريخية الفارقة في وعي أجيال جديدة لم تعشها، وتجهلها كلّياً؟ ألم يحن الوقت، وإن بدافع براغماتيّ بحت، لتصحيح أكاذيب ومغالطات وتشوّهات طاولت هذه الحرب، ورسخت في الأذهان كحقائق؟

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here