أفريقيا برس – مصر. يوماً بعد آخر، تُرسّخ الفعاليات الثقافية المستقلة، حضورها في المشهد المصري الراهن، بوصفها قوة قادرة على خلق واقع ثقافي يتسع لأشكال معرفية وإبداعية وفنية متنوعة. تُشكّل هذه الفعاليات المنسوبة إلى الظل والهامش، بمهرجاناتها ومؤتمراتها وملتقياتها حالة دينامية تتسم بالتعددية وقبول الآخر، وتحظى بالتفاعل الإيجابي مع المتلقي. كما أنها تفضح الرؤى الضيقة الأُحادية والصيغ التقليدية والمتكلّسة، التي تقدم بها وزارة الثقافة والمؤسسات المركزية أنشطتها وكرنفالاتها الرسمية الكبرى، المقترنة بعناوين دعائية وقوالب جاهزة وأسماء مكررة ونمطية.
استلهام لتجارب عالمية مماثلة
في السرد والشعر، مثلاً، تسحب فعاليات مثل “ملتقى القاهرة الأدبي” و”مؤتمر قصيدة النثر المصرية” و”مهرجان طنطا الدولي للشعر”، و”ملتقى شعر العامية المصرية” البساط من تحت أقدام ملتقيات “المجلس الأعلى للثقافة” للشعر العربي وللإبداع الروائي التي يشوبها الجدل واللغط، وتُكال لها الاتهامات بشأن تشرنقها على ذاتها وانحيازاتها الصارخة إلى التيارات المحافظة وإقصائها للاتجاهات الحداثية في اختياراتها للمبدعين ومنحها للجوائز. وتتردّد هذه الأقاويل السلبية أيضاً بكثافة إزاء كثير من الفعاليات والجوائز التي ينظّمها اتحاد كتاب مصر، والهيئة العامة للكتاب، والهيئة العامة لقصور الثقافة، وغيرها من الهيئات الحكومية والرسمية.
ما الذي يطمح إليه منظّمو الفعاليات غير الرسمية في مصر وهم يؤسسون وينظمون الملتقيات والمؤتمرات والمهرجانات؟ وما فلسفتهم في ممارسة هذه النشاطات التي تتحسس خطواتها خارج جدران المؤسسة الرسمية؟ طرحت “العربي الجديد” هذه الأسئلة في توقيت تتعالى فيه أصداء نجاحات ملموسة، سواء على المستوى النوعي التخصصي، أو على مستوى القبول الجماهيري العامّ.
الاستقلالية أمام الشللية والفرز الأيديولوجي
يُشير عضو اللجنة المنظّمة لـ”مؤتمر قصيدة النثر المصرية”، الشاعر والناقد عمر شهريار، إلى أن “المؤتمر وليد فكرة للشاعر عادل جلال، تعود إلى عام 2014، وهو يجسّد تتويجاً لمسار طويل من العمل الثقافي الأهلي المستقلّ، فهناك قبله فعاليات مهمّة، وبالقطع لن يكون الأخير. والمراد منه تقديم أقصى قدر ممكن من الموضوعية، بانوراما حقيقية وصادقة لقصيدة النثر المصرية، بأجيالها المتعاقبة، وبتياراتها المتباينة، للاحتفاء بها وبمنجزها الممتدّ، لتأكيد مركزيتها في المشهد العربي، وربّما العالمي. ولتوثيق هذه البانوراما، قدّمنا أنطولوجيا كبيرة. وفي كلّ عام، على مدار دورات المؤتمر، كنّا نُصدّر جزءاً جديداً، لتكون هذه الأنطولوجيا في النهاية موسوعة كبيرة لقصيدة النثر المصرية، تعين الباحثين والنقاد على رؤية المشهد كاملاً، بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات، فدورنا تقديم كل أصوات هذه القصيدة، أما الفرز والتقييم فهو دور الحركة النقدية، التي نرجو أن تكون أكثر نشاطاً”.
ويُضيف شهريار: “لقد جاء هذا التوجه، لأننا رأينا نماذج الأنطولوجيات السابقة، في أغلبيتها، محكومة بالهوى والصداقات، وربما الشِّللية، تحت دعوى الانتقاء والفرز، فأسقطت كثيراً من الأسماء المهمّة لمجرد أن أصحابها لا يروقون واضعي تلك الأنطولوجيات. أما فكرة الاستقلال، فهي مسألة جوهرية، حتى إننا نُقيم كلّ دورة من المؤتمر، تقريباً، في مكان مختلف، حتى لا نحسب على مكان بعينه، ولا على توجه سياسي أو أيديولوجي معين، فما يهمنا هو القصيدة”.
يُشار إلى أن “مؤتمر قصيدة النثر” قد عقد دورته الثامنة في سبتمبر/أيلول الماضي، تحت شعار “في الإبداع متّسع للجميع”، تماشياً مع رفضه الإقصاء لأحد من الشعراء. وقد انطلقت دورته الأولى عام 2014، ويُعنى بتعزيز التفاعل بين الشعراء والنقّاد والجمهور في بيئة أدبية ملائمة ومتحررة.
الأحلام الجميلة عمرُها قصير
من جهته، يُبيّن رئيس “مهرجان طنطا الدولي للشعر”، الشاعر محمود شرف، أنّ “جماعة أصدقاء قليلة العدد، وصاحبة خبرات سابقة في المشاركة بفعاليات شبيهة حول العالم وإدارة فعاليات داخلية، قد التقى أفرادها على تأسيس جمعية أهلية، لتأخذ الشكل القانوني، ومن ثم جرى إطلاق أولى دورات المهرجان”. ويوضّح: “بالتوازي مع تصاعُد تحقيق المهرجان نجاحات متوالية، عبر دوراته الثماني التي أقيمت، وحِرْص أسماء مهمَّة في خريطة الشعر العالمية على قبول المشاركة، كان الخطّ البياني للدعم يمضي رأساً نحو القاع، بوتيرة تتسارع كالبرق. بينما لم نجد العراقيل المعتادة في بداياتنا، بكل أشكالها، لا سيَّما التدخل في اختيار الضيوف من الداخل والخارج، فإن الأمر انتهى بتوقف الدعم تماماً، قبل أن نضطر إلى التوقف قبل سنتين”.
ويرى محمود شرف أنّ “المهرجان، الذي افتتح دورته الأولى قبل عشر سنوات، قدَّم ما لم تعرفه مدينة مثل طنطا طوال تاريخها، وانعكس هذا بوضوح على تفاعل الجمهور في الميادين العامة التي كانت تقام بها بعض فعالياته، وداخل أروقة جامعتها، وفي فصول مدارسها، لكن، يبدو أن الأحلام الجميلة عمرُها قصير. ومع ذلك، فإننا ما زلنا نحلم بالعودة، ونخطّط جديّاً لاستبدال الدعم بآخر قد يأتي من جهات أُخرى”.
الفنون المعاصرة.. تحدّيات الإدارة والتمويل
ولا يختلف الحال في مجالات الفنون البصرية والأدائية والموسيقية والفيديوية والإلكترونية والوسائط الجديدة، إذ بلغ “مهرجان وسط البلد الدولي للفنون المعاصرة” (دي كاف)، و”مهرجان كايروترونيكا”، وغيرهما من الفعاليات غير الرسمية، مرحلة جديدة في مخاطبة الأجيال الجديدة بلغة العصر، وذلك في ظل تراجع مستويات معارض قطاع الفنون التشكيلية وتفاقم أزماتها ومشكلاتها وإجراءاتها البيروقراطية، إضافة إلى دعاوى السرقة والانتحال بشأن بعض الأعمال المعروضة، وما إلى ذلك.
ضمن هذا السياق، التقت “العربي الجديد” المخرجَ والكاتب المسرحي أحمد العطار، المدير الفني لـ”مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة” (دي كاف)، والذي تستمر فعالياته سنويّاً على مدار ثلاثة أسابيع ويحتضن أبرز الأعمال العالمية الاحترافية في مجالات الأداء والفيلم والموسيقى والمسرح والفنون البصرية، يقول: “إنّ المهرجان كان حلماً له منذ بدء دخوله المجال العَملي وتجواله بعروضه الفنية عام 1998، حيث بدأ يتلمّس إشكاليات المهرجانات، ومنها إشكالية الترجمة مثلاً، والتنظيم، ومدى جودة العروض”.
ويضيف العطار، الحاصل على وسام فارس في الفنون والآداب من قِبل وزارة الثقافة الفرنسية: “بدأتُ الاهتمام بتنظيم فعالية لها اختياراتها الفنية الواضحة، باتجاه محدّد، ليضاهي ‘دي كاف’ المهرجانات الدولية المعروفة، وتُترجم أعماله إلى العربية، ويستهدف الجمهور المصري. وجاء انحيازي إلى مصر لإيماني بأننا نمتلك الإمكانات والكفاءات القادرة على التنظيم. وكان لدينا من خلال سفرنا الدائم بالعروض خبرات فنانين، أما الجانب الإداري فكان هو الأزمة، ولكن مع توالي الدورات صار الفريق أكثر قدرة على الإدارة واستقطاب جمهور لهذا النوع من المهرجانات”.
ويُذكر أن الدورة الثانية عشرة لمهرجان “دي كاف” قد انعقدت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ويطمح المهرجان، الذي تأسس عام 2012، إلى أن يُصبح من أهم الأحداث الفنية السنوية في العالم العربي، عن طريق “تقديم أجندة فنية متنوعة وعالية الجودة، تصل إلى قطاع عريض من الجمهور، وتؤدي إلى زيادة التواصل بين المبدعين المصريين والعرب والعالميين”.
أما المديرة التنفيذية لـ”مهرجان كايروترونيكا”، ياسمين فهيم، فتوضّح أنّ “المهرجان تأسس عام 2016 بهدف أن يكون مهرجاناً مختصّاً بالفنون الإلكترونية والوسائط الجديدة، يُقام كلّ عامين، ويقدّم أعمالاً لفنانين محترفين وناشئين من سائر الأرجاء، ويعرض تجارب تعليمية رائدة”.
وتختم فهيم حديثها بأنّ “المهرجان، الذي انعقدت دورته الرابعة مؤخّراً، يُواجه تحديات كبيرة تعرقل استمراره وتطوره، أبرزها صعوبة تأمين التمويل، بخاصة أن فنون الوسائط الجديدة تعتمد على تقنيات مكلفة للفنانين ولتنظيم العروض. وتضاف إلى ذلك ندرة المساحات المناسبة للعروض، وضعف الموارد لدعم البرامج التعليمية بين الدورات، رغم كونها من ركائز المهرجان. ويواجه الفنانون المحليون أيضاً محدودية الوصول إلى التكنولوجيا اللازمة لتطوير مشاريعهم، مع غياب المصطلحات المتخصصة باللغة العربية، مما يُصعّب النقاش النظري حول هذه الفنون”.
المصدر: العربي الجديد
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس