“الموالد في مصر”.. في تلازُم الدينيّ والدنيويّ

8
"الموالد في مصر".. في تلازُم الدينيّ والدنيويّ

أفريقيا برس – مصر. غريبة ونادرة الشبه كانت الحياة التي عاشها المستشرِق وعالِم الأنثروبولوجيا البريطاني جيمس ويليام مكفيرسون (1866 ــ 1946)، والذي كان قد جاء إلى مصر عام 1901 كمدرّس للكيمياء في “المدرسة الخديوية”، قبل أن يُجَنّد في ما يُعرَف بـ”فرقة الجمّالة” البريطانية، خلال الحرب العالمية الأولى، ليعمل بعد ذلك ضابطاً في سلك الأمن الذي أنشأه الاستعمار البريطاني في مصر، قبل أن يتقاعد ويقرّر البقاء في القاهرة حتى رحيله.

لم يكن هذا المسار ثمرة صدفة من ألفه إلى يائه؛ ذلك أن مكفيرسون كبر في سنين المراهقة على حُلم الذهاب إلى مصر، وكان مولَعاً بالبلد وتاريخه، وهو ما دعاه مبكّراً إلى القراءة والدراسة في مختلف العلوم والمعارف التي تُلامس شغفه هذا وتسمح له بالذهاب به بعيداً، بما في ذلك عِلم المصريات واللغة العربية.

قبل أيّام، أصدرت “منشورات جامعة شيكاغو” في الولايات المتّحدة طبعة جديدة من كتاب مكفيرسون المَرجعي “الموالد في مصر”، والذي ظهر للمرّة الأولى بالإنكليزية عام 1941 (طُبع في إحدى المؤسّسات البريطانية في القاهرة).

يمكن وصف العمل بأنه كرّاسة إثنوغرافية، حيث يسجّل فيه المؤلّف مجمل مشاهداته خلال أكثر من عشرين عاماً من متابعته وحضوره للموالد والاحتفالات الشعبية في مختلف المدن والمناطق المصرية؛ كما يقدّم في بعض الأحيان رسوماً توضيحية لـ”سينوغرافيا” الموالد. ويقيّد مكفيرسون هذا الوصف بتحاليل نظرية، وإنْ كانت قليلة وأقلّ منهجية ممّا هو الحال لدى غيره من المستشرقين.

تكمن الأطروحة الأساسية في عمله بالقول إن الموالد ليست ــ ولا يمكن لها أن تكون ــ احتفالاً دينياً فقط، بل فيها، بالضرورة، جانبٌ دنيوي، وهو ما يُحيل إليه اختيارُه أن يُصدّر الطبعة الأولى من كتابه بالآية القرآنية: “أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير”.

وبهذا المعنى، فإن الرقص والغناء والضحك وشرب الكحول وعروض المسرح وخيال الظل وغيرها من النشاطات الدنيوية، تمثّل جزءاً أساسياً من معنى الاحتفاء بالمولد، إلى جانب الصلوات وزيارة أضرحة الأولياء، كما يقول تلميذُ مكفيرسون، إي. إي. إيفانز بريتشارد، في تقديمه الكتاب بطبعته الأولى.

ويضيف بريتشارد، الذي درّس أيضاً في مصر وأقام في السودان، ملخِّصاً كلام مكفيرسون وحتى دراساته الشخصية في عدد من بلدان أفريقيا، أن “بُسطاء الناس يرقصون دينهم بدلاً من اعتباره ديناً”.

ويُعيد مكفيرسون بعض احتفالات المواليد، مثل مولد سيدي عبد الرحيم في قنا ومولد يوسف الحجاج في الأقصر، إلى عبادة الإله آمون في الحضارة المصرية القديمة، كما هو مرسوم على حائط معبد رمسيس الثالث.

وهو لا يرى ضرورة للتمييز بين الاحتفالات الإسلامية وتلك المسيحية، أو بين موالد الشيوخ والأولياء وبين المولد النبوي، ذلك أن “طبيعتها وأصولها وأهدافها واحدة، بشكل عام”. كما يلاحظ أن المُسلمين والأقباط يختلطون في عدد من الاحتفالات إلى حدّ لا يمكن معه التمييز بينهم، ويسجّل عدم حدوث صدامات أو احتكاكات في مثل هذه الحالات، ممتدحاً ما سمّاه “الروح المباركة للتسامح بين أهل مصر”.

ولا يتوانى المستشرق البريطاني عن التعبير عن حُزنه من تضاؤل الموالد وتراجع هذه الثقافة الكرنفالية، قائلاً إن هذا يجرّد مصر من “سحرٍ قديم” و”يضحّي بإحدى القيَم العظيمة المصرية”، بل يذهب حتى القول إلى أن تحديث القاهرة، مثل فتح شوارع فيها، يشكّل “جروحاً تلوّث فتنتها الشرقية”، وهو ما يتقاطع فيه مع العديد من المستشرقين الذين أرادوا للبلاد العربية والمشرقية بشكل عام أن تظلّ “قديمة” مثل الصورة التي رسموها عنها في أذهانهم، وأن تكون مُعاكِسة تماماً لصورة “الحداثة” في بلادهم التي هربوا منها.

يُذكَر أن ترجمة عربية للكتاب كانت قد صدرت عام 1999 عن “الهيئة المصرية العامة للكتاب”، بتوقيع عبد الوهاب بكر.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here