أفريقيا برس – مصر. بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر “العربي الجديد” مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
في فترة امتدت لبضع سنوات، طغى الجفاء على العلاقة بين المخرج السينمائي صلاح أبو سيف (1915 – 1996)، وبيني. آنذاك، سيطر الالتباس، إذ كنت معجبا للغاية بالكثير من أفلامه، بالتزامن مع الخصومة الناشئة. قبل التحاقي بالمعهد العالي للسينما في القاهرة، أدمنتُ مشاهدة الأفلام. وتصدّرت أسماء بعض المخرجين قائمة المُثُل العليا. في السينما العالمية: ألفريد هيتشكوك، وإيليا كازان، وبيلي وايلدر، وفي السينما العربية: يوسف شاهين، وصلاح أبو سيف، وبركات. ولم يتغيّر رأيي حتى الآن.
كنت مفتونا بثلاثة من أفلام صلاح أبو سيف: “شباب امرأة”، و”بين السماء والأرض”، و”بداية ونهاية”. وكان معهد السينما يفرض امتحان قبول على المرشحين للدراسة فيه، وكان صلاح أبو سيف ضمن اللجنة الفاحصة. كنتُ سعيدا برؤيته للمرة الأولى، وإلى جواره يوسف شاهين ومجموعة من أركان السينما المصرية.
في السنة الدراسية الرابعة تابعنا محاضرات أستاذ مادة الإخراج صلاح أبو سيف. دهشتُ لكون المدرّس ليس على قدر المخرج. لاحقاً، بعد نضج وعيي السينمائي، أيقنتُ أنه ليس بالضرورة أن يكون كل مخرج كبير أستاذاً كبيراً في التعليم. ثمة أساتذة أصحاب باعٍ في التدريس، لكنهم مخرجون من الصف الثاني. الإبداع شيء واختصاص التدريس شيء آخر. وقد يجمع الشخص الواحد بين الموهبتين. تماماً مثل كرة القدم. ثمة نجوم كانوا أبرز لاعبي زمانهم، لكنهم لم ينجحوا في ممارسة التدريب (مارادونا نموذجاً).
في المحاضرات الأولى، كانت المعلومات التي يرويها لنا صلاح أبو سيف عادية، وكنا نعرف معظمها من سنوات الدراسة السابقة. وحدث ما لا تحمد عقباه. أبديتُ أمام بعض الزملاء رأيي الصريح: قلت ليته يعرض لنا أفلامه، روائعه الخالدة، ويشرح لنا أسلوبه في تنفيذها، فنتعلّم الكثير المفيد. وكان أن نقل بعض “وسطاء الخير” هذا الكلام إلى الأستاذ، وأحسب أنهم أضافوا إليه بهارات التحريض، فبدأ الجفاء بين الأستاذ وتلميذه، واشتد عندما أضاف الواشون أنني وثيق الصلة بالمخرج توفيق صالح (أستاذنا في السنة الثالثة) وكان على خصومة شديدة مع صلاح أبو سيف. شاهدني مراراً معه في كافتيريا المعهد، وبضع مرّات في مقاهي القاهرة الشهيرة. على أي حال، انتهت السنة الدراسية بمفاجأة سارة بالنسبة إليّ، إذ حللت في المركز الأول بين المتخرّجين.
استمر الجفاء تسع سنوات، كنت لا أبادله التحية إذا التقيته، ولم يتغيّر رأيي الإيجابي في دور صلاح أبو سيف الرائد في السينما العربية. واتفق أنني بعد عام من تخرّجي شاهدت فيلم “الزوجة الثانية” وهو من إخراجه، وبطولة سعاد حسني وشكري سرحان وسناء جميل وصلاح منصور، وأعجبت به أيّما إعجاب، وما زلتُ أعدّه، والأفلام الثلاثة التي ذكرتها سابقا، وفيلم “السقا مات” الذي شاهدته سنة 1977، في أعلى قائمة أفضل الأفلام في تاريخ السينما المصرية.
كُسر الجليد بيننا سنة 1975 في بيروت. كان صلاح أبو سيف في زيارة للعاصمة اللبنانية، وكان المخرج المصري السيد بدير يراقب العروض الأولى لمسرحية “الدنيا دولاب” التي أخرجها لفرقة النجم الكوميدي شوشو، وكانت من كتابتي. أخبرني بأن صلاح أبو سيف سيحضر العرض الليلة، وعليك أن تكون موجودا في استقباله، وهي مناسبة لمحو الخصومة البائخة. وافقت مقتنعا، وكنتُ بحاجة إلى ذريعة لأمحو جفاء مضى عليه زمن. حين وصل صلاح أبو سيف وبرفقته صديقه وصديقي الكاتب المصري البيروتي الإقامة بكر الشرقاوي، رحبت به وتعمّد بكر الشرقاوي أن يقول “تعرفوا بعض طبعا” فأجبت بعفوية “مؤكد. أستاذي الجليل، وقد تعلّمت منه الكثير”، وأخجلني صلاح أبو سيف عندما علّق بقوله “تابعت ما أنجزتَه في بيروت، وسررت لنجاحك”. بعدها جمعتنا لقاءات في بيروت وفي القاهرة، وفي بغداد وكنت في زيارة وكان هو يخرج فيلم “القادسية” وكانت إقامتنا في الفندق نفسه، ومرة في باريس بحضور الناقد التونسي خميس الخياطي وكان من أبرز المعجبين به، ونال درجة الدكتوراه عن رسالة عن أفلام صلاح أبو سيف.
أما بعد، فأستاذنا ولد في بلدة في محافظة بني سويف في صعيد مصر سنة 1915. لكنه نشأ في القاهرة مع أمه، في حي بولاق الشعبي. وبعدما نال شهادة التجارة المتوسطة، انتقل سنة 1933 إلى المحلة الكبرى موظفا في شركة الغزل والنسيج الشهيرة. وبعد ثلاث سنوات من العمل محاسباً، ابتسم له الحظ عندما جاء إلى الشركة نيازي مصطفى ليخرج فيلما تسجيليا عنها. استفاض صلاح أبو سيف وهو يروي له تفاصيل عشقه للسينما عبر الأفلام التي رآها والكتب التي قرأها عن الفن السابع، وحلمه بأن ينتمي ذات يوم إلى مجال صناعتها. كان نيازي مصطفى، إلى جانب عمله مخرجاً، رئيساً لقسم المونتاج في استديو مصر منذ عودته من ألمانيا التي درس فيها الإخراج والمونتاج، فوعده خيراً.
ولم يتأخر تنفيذ الوعد. سنة 1937 تمّ استدعاء صلاح أبو سيف إلى القاهرة، إلى استديو مصر وتبلّغ النبأ السعيد أنه عُيِّن في قسم المونتاج. من فرط حبّه للسينما تعلّم فن المونتاج بسرعة، وأنجز بصفة المونتير عشرة أفلام، بينها “غرام وانتقام”، الذي أخرجه يوسف وهبي وقام ببطولته أمام أسمهان، وفيلم “العزيمة” من إخراج كمال سليم، و”عايدة”، وهو الفيلم الذي أخرجه أحمد بدرخان وأدّت أم كلثوم دور البطولة فيه. إنجازه لمونتاج الأفلام أتاح له فرصة تعلم أساليب المخرجين المختلفة.
وفي بداية عمله في استديو مصر، كان نيازي مصطفى يستعدّ لإخراج فيلم “سلامة في خير” من بطولة نجيب الريحاني، فأسند إلى صلاح أبو سيف مهمة مساعد المخرج. وسيتولى الشاب المتحمس مهمة مساعد المخرج أيضا في بعض الأفلام، أبرزها “العزيمة” الذي كان الفيلم الرائد في لون السينما الواقعية. أول فيلم تجري أحداثه في حارة شعبية وليس في الدور الفخمة والقصور. ويعتبر هذا الفيلم محطة رئيسية في مسيرة صلاح أبو سيف الذي أصبح أستاذ الأفلام الواقعية في تاريخ السينما المصرية.
سنة 1939 سافر صلاح أبو سيف إلى فرنسا ليدرس فنون السينما، لكن نشوب الحرب العالمية الثانية حال دون إتمام المهمة، فقفل عائدا إلى مصر، إلى “استديو مصر”. وبعد خمس سنوات من العمل في الأفلام، قرر صلاح أبو سيف أن يستثمر الخبرات التي راكمها من استيعاب فن المونتاج ومناهج الإخراج من الذين عمل مساعدا لهم. أنجز سنة 1942 أول فيلم بصفته مخرجا وكان فيلما قصيرا لا يبلغ خمسا وعشرين دقيقة من بطولة الكوميدي إسماعيل يس. حمل الفيلم عنوانين “نمرة 6″ و”العمر واحد” ولم يعرض في حينه، لاعتراض الرقابة، وقيل استديو مصر، مراعاة لمشاعر نقابة الأطباء، إذ إن الفيلم يحكي قصة مشعوذ ينتحل صفة الطبيب.
الطريف أن أول فيلم أخرجه صلاح أبو سيف كان من لون الكوميديا، وآخر فيلم أيضاً: “السيد كاف” (أخرجه سنة 1994). والحرف هو أول حروف كلمة “كلب” وفي القائمة التي يرد فيها اسم الفيلم، وأسماء الذين أنجزوه، نقرأ عنوان الفيلم باللغتين العربية والفرنسية Monsieur chien. تلي ذلك كتابة تملأ الشاشة: (هذا الفيلم تخريفة أخرى من تخاريف المخرجين، فإذا لم يعجبكم، فأرجو أن تشاهدوه مرة أخرى، أما إذا أعجبكم فأرجو أن تشاهدوه مرة ثانية). وتطغى السخرية والنقد الاجتماعي على أحداث الفيلم الذي كتبه المخرج بالاشتراك مع المؤلف المسرحي الساخر لينين الرملي. فإذا أضفنا فيلم “شارع البهلوان” الذي أخرجه أبو سيف عام 1949 وكان من بطولة إسماعيل ياسين، تكتمل قائمة الكوميديات في جعبة أفلام صلاح أبو سيف.
انتظر صلاح أبو سيف أربع سنوات إلى أن سنحت له الفرصة سنة 1946 ليخرج أول فيلم روائي “دايماً في قلبي” وكان من بطولة عقيلة راتب وعماد حمدي. وبلغ مجموع أفلامه 40 فيلما. ويمكن احتسابها 41 إذا أخذنا بالاعتبار أنه أخرج قصة من ثلاث قصص في فيلم “البنات والصيف” ومثلها في فيلم “3 نساء”، فضلا عن فيلمه القصير “نمرة 6” الذي سبق أفلامه الروائية. وثمة فيلم آخر ساهم فيه صلاح أبو سيف مع آخرين: فيلم “سنة أولى حب” (بطولة نجلاء فتحي ومحمود ياسين). كان هذا الفيلم من مبتكرات حلمي رفلة بقصد عمل دعاية مثيرة للفيلم. القصة لمصطفى أمين، لكن المخرجين خمسة من المشاهير هم: حلمي رفلة وصلاح أبو سيف ونيازي مصطفى وعاطف سالم مع كمال الشيخ الذي أشرف على التوليفة. كانت ظاهرة غير مسبوقة، لكنها لم تسفر عن فيلم رائع.
كان صلاح أبو سيف ميّالاً إلى الروايات الأدبية في الكثير من أفلامه. وكانت لإحسان عبد القدوس حصة الأسد، إذ اعتمد صلاح أبو سيف على ست منها في أفلامه: “لا أنام” و”الوسادة الخالية” و”الطريق المسدود” و”أنا حرّة” و”لا تطفئ الشمس” و”سقطت في بحر العسل”، ولنجيب محفوظ ثلاث: “بين السماء والأرض” و”بداية ونهاية” و”القاهرة 30″ (عن “القاهرة الجديدة”)، ومن يوسف السباعي رواية “السقا مات”، وليوسف إدريس “لا وقت للحب”، ومن رشدي صالح “الزوجة الثانية”، ومن لطفي الخولي “القضية 68″، ومن أمين يوسف غراب “شباب امرأة”، وليوسف القعيد “المواطن مصري”. وفي بعض الأحيان استمد الموضوع من رواية أجنبية، كما في “رسالة من امرأة مجهولة” لستيفان زفايغ (فريد الأطرش ولبنى عبد العزيز)، أو “لك يوم يا ظالم” (1951)، عن “تيريز راكان” لإميل زولا (فاتن حمامة ومحسن سرحان)، وقد أعاد القصة ذاتها remake في فيلم “المجرم” (سنة 1978)، من بطولة شمس البارودي وحسن يوسف. وفي المرتين شاركه نجيب محفوظ كتابة السيناريو.
وقد أخبرني نجيب محفوظ بأن صلاح أبو سيف هو الذي علّمه فن كتابة السيناريو. قال: “كنت في بداياتي، وقد نشرت رواياتي الفرعونية و”القاهرة الجديدة” و”خان الخليلي” وفرغت من كتابة “زقاق المدق”. استدعاني سنة 1947 لمشاركته كتابة سيناريو فيلم مغامرات “عنتر وعبلة” (بطولة سراج منير وكوكا). شجّعني ممتدحاً موهبتي في السرد واقترح أن استثمرها في السينما. وشرح لي منهج كتابة المشاهد السينمائية، وكان يقدم لي النصح أثناء كتابة المشاهد. وتكرر التعاون بعد ذلك في فيلم المنتقم” (بطولة نور الهدى). وهكذا سلكت طريقا جديدة في الكتابة بالتوازي مع تأليف الروايات”. وكان أن أصبح نجيب محفوظ من أبرز كتاب السيناريو، تشارك مع صلاح أبو سيف في كتابة مجموعة من الأفلام المتميّزة في عقد الخمسينيات ومنها “الفتوة” و”ريا وسكينة” و”الوحش”.
وكان السيد بدير الرفيق الثالث في الكتابة. في الأفلام التي كتبها صلاح أبو سيف ونجيب محفوظ صاغ السيد بدير الحوارات، فضلا عن تولّيه أحيانا كتابة السيناريو والحوار كما في “الأسطى حسن” أو “رسالة من امرأة مجهولة”. وفي 25 فيلما من إخراجه شارك صلاح أبو سيف في كتابة السيناريو أيضا. وهو كاتب قصة “السيرك” (إخراج عاطف سالم)، وسيناريو وحوار “النعامة والطاووس” بمشاركة لينين الرملي. وقد أخرجه نجله محمد أبو سيف (2002)، ولم يرَهُ الأب المتوفى عام 1996.
المصدر: العربي الجديد
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس