أحمد علي
أفريقيا برس – مصر. في أحد المساءات الهادئة بمدينة الإسكندرية (شمالي مصر)، كانت القاعة الكبرى بقصر ثقافة الشاطبي تنتظر جمهورها؛ الكراسي مصطفة، ومكبرات الصوت تعمل، والمسرح مضاء.. لكن لم يحضر سوى 5 أشخاص، بينهم شاعران وصديق لأحد المنظمين.
هكذا بدا المشهد الذي يتكرر في عشرات قصور الثقافة بمختلف المحافظات المصرية، مما يثير تساؤلات عن سر هذا “الغروب الثقافي” وسط مشهد رسمي راكد، مقابل صعود مبادرات أهلية تنجح في استقطاب جمهور شاب ومتحمس.
وعلى الرغم من وجود 571 قصرا وبيتا ثقافيا تابعا للهيئة العامة لقصور الثقافة في مختلف أنحاء مصر، فإن جزءا كبيرا من هذه المنابر يعمل دون صدى جماهيري يذكر. ففي فعالية شعرية نظمت في قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية، لم يتجاوز الحضور 10 أشخاص، معظمهم من أعضاء الصالون الأدبي ذاته. وأشار القائمون على الفعالية إلى أن الحضور يتقلص عاما بعد عام، وشهرا بعد آخر، ويوما بعد يوم.
“نحاول تقديم أنشطة بشكل أسبوعي، لكن الأشخاص أنفسهم يحضرون في كل مرة. الشباب لا يهتم، وللأسف لا توجد خطط حقيقية لجذبهم، فالأنشطة متكررة ومتشابهة”. هكذا يقول أحد موظفي القصر الذي فضل عدم نشر اسمه، مشيرا إلى أن غالبية قصور وبيوت الثقافة تعاني من عدم الوجود الحقيقي وسط الجمهور، أو أنها غير مفعلة.
تظهر أجندات الهيئة العامة لقصور الثقافة أن الأنشطة لا تتوقف من حيث الكم، ولكنها تواجه أزمة في النوع والجاذبية. فندوة عن “أثر نجيب محفوظ في الأدب العربي” تعاد للمرة الثالثة خلال 6 أشهر في 3 مواقع مختلفة، حسب ما تقول الكاتبة المسرحية ليان موسى.
وتضيف موسى أن “الندوات والأمسيات الثقافية الرسمية تفتقد للابتكار. العناوين ذاتها والضيوف أنفسهم، والجمهور نفسه. كيف تتوقع من شاب أن يترك هاتفه الذكي ليحضر فعالية لم تتغير منذ التسعينيات؟ إن غياب التنسيق بين المركز والفروع، وضعف الترويج، وغياب الوجوه الشابة، جعل هذه البيوت الثقافية مجرد لافتة على باب مغلق. وذلك يتطلب إعادة هيكلة تلك المؤسسات الثقافية من جديد، وتحديد أدوارها والهدف منها بعيدا عن العشوائية”.
قصور بلا رؤية
ويرى عدد من المثقفين أن الأزمة في قصور الثقافة لا تتعلق فقط بانخفاض أعداد الحضور أو قلة التفاعل الجماهيري، بل في غياب رؤية واضحة وجادة لدى إدارات تلك المؤسسات، وفي افتقادها لإستراتيجيات فعالة تواكب المتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية.
فوفقا لمنير عتيبة، مؤسس ومدير مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، فإن جمهور الأدب والفكر ظل دائما أقلية بسبب الأمية وضعف الإقبال على القراءة في مصر، وهو ما يستدعي جهودا تعليمية تبدأ من المراحل الأولى لتنشئة الطفل على حب المعرفة.
وينتقد عتيبة افتقار المؤسسات الثقافية إلى آليات تواصل حديثة مع الجمهور، معتبرا أن قصور الثقافة، على الرغم من إمكاناتها الكبيرة وانتشارها الجغرافي، باتت تخسر جمهورها أمام منافسة شرسة من مواقع التواصل الاجتماعي، في ظل اعتمادها على وسائل تقليدية لم تعد تجذب الشباب.
ويقترح مؤسس مختبر السرديات أن تنسق وزارة الثقافة بشكل فعال مع وزارتي التربية والتعليم والشباب والرياضة لاكتشاف المواهب ورعايتها مبكرا، بدلا من الاكتفاء بأنشطة نمطية لا تترك أثرا.
أما الدكتور فوزي خضر، الشاعر وعضو المجلس الأعلى للثقافة، فيذهب إلى أن قصور الثقافة تعاني من غياب “الخطة” أكثر من أي شيء آخر، موضحا أن الأنشطة التي تنظم داخلها لا تعدو كونها جداول مكررة تنفذ “لرفع العتب”، بلا مضمون حقيقي أو تنوع يلبي احتياجات الجمهور. ويشير عضو المجلس الأعلى للثقافة إلى أن تكرار الوجوه ذاتها على منصات المحاضرات، وعدم صرف مكافآت لعدد من الأدباء والمتحدثين على الرغم من الوعود، قد أسهما في إضعاف قيمة ما يقدم داخل القصور.
ويؤكد خضر أن المشكلة ليست في الجمهور فحسب، بل في جدية الإدارة، وضعف المحتوى، وغياب خطط متكاملة تسعى بالفعل إلى تقديم خدمة ثقافية حقيقية تليق بالجمهور، لا مجرد أنشطة شكلية لتسجل في تقارير رسمية.
تراجع الجمهور
ويرى الروائي والقاص أحمد هيكل أن تراجع جمهور الفعاليات الثقافية الرسمية ليس مجرد مصادفة، بل هو نتيجة لتراكمات هيكلية ومجتمعية، من أبرزها ضعف التمويل والموارد البشرية الذي تعانيه بيوت الثقافة في الدلتا والمحافظات، والنقص في الكوادر الفنية والإدارية المؤهلة.
ويعتبر هيكل أن مركزية القرار الثقافي في مصر لا تترك مساحة حقيقية للإبداع المحلي، مضيفا “وزارة الثقافة لا تفهم كيف يتلقى الشباب الثقافة الآن. ليس بالندوات والأمسيات فقط، بل عبر السوشيال ميديا، والبودكاست، والفيديو القصير، والتفاعل المباشر. وهذه القصور للأسف لا تملك أيا من هذه الأدوات”.
وعلى الرغم من الركود الرسمي، تزدهر تجارب أهلية مستقلة استطاعت أن تبني جمهورها بنفسها. فمثلا “الكتب خان” -وهي مكتبة وفضاء ثقافي مستقل بالقاهرة- تنظم حفلات توقيع وورش كتابة وعروض بودكاست مفتوحة، ويبلغ متوسط حضور الفعاليات بين ٤٠ و٧٠ شخصا.
ويقول محمد العدوي، مؤسس “الكتب خان”، إنهم يعتمدون على جمهور السوشيال ميديا بالكامل، ويوضح “لا نطلب دعما من الدولة، لكننا ننجح لأننا نعرف كيف نخاطب الناس بلغتهم”.
وفي الصعيد، يقدم مشروع “اتجاه” الثقافي بأسيوط مثالا ناجحا على إشراك الشباب في مسرح الشارع، والنقاشات المفتوحة حول قضايا مجتمعية معاصرة. وتقول مريم عطية، إحدى مؤسسات المبادرة، “بدأنا من لا شيء. الفكرة كانت خلق مكان آمن ومساحة للنقاش، ولا نملك تجهيزات كثيرة، لكننا نملك الشغف، وهذا يكفي لجذب الجمهور”.
وأضافت عطية “في استطلاع محدود أجريناه قبل تأسيس مشروع اتجاه، قال 87% من العينة التي استهدفناها في أغلب محافظات مصر إنهم لم يسبق لهم دخول قصر ثقافة. وكانت الأسباب الرئيسية كما وردت: ‘لا توجد دعاية’، و’الفعاليات مملة’، و’لا أشعر أنها لجيلي'”.
الناقد الأدبي أحمد حافظ يرى أن المشكلة أعمق، فيقول إن “قصور الثقافة لم تعد تفكر في الجمهور، بل في تنفيذ الخطة السنوية. الأمر أشبه بتأدية واجب لا أكثر”.
ويضيف حافظ “المشهد الثقافي المصري في حالة مفارقة مؤلمة؛ منابر رسمية ضخمة لكنها خالية، مقابل مبادرات بسيطة، لكنها مملوءة بالحياة. وبينما تنتظر القصور جمهورها، يبدو أن الجمهور قد قرر أن يخلق لنفسه مساحة بديلة، خارج جدران المؤسسة، وبعيدا عن مقاعد فارغة تنتظر من دون جدوى”.
تكرار الوجوه
أما جابر بسيوني، الشاعر والأديب وأمين صندوق اتحاد الكتاب، فيرى الظاهرة من منظور مختلف، فيقول إن الندوات الأدبية تشهد إقبالا محدودا في مؤسسات مثل قصور الثقافة واتحاد الكتاب، مقارنة ببعض الجهات التي تستغل هذه الفعاليات لأغراض شخصية أو حزبية لا تمتّ إلى الثقافة بصلة، مثل تلميع شخصيات معينة أو مجاملة الضيوف والمنظمين.
وعن أسباب الظاهرة، يضيف بسيوني أن الشباب لم يعد يقبل على التدريب الثقافي كما في السابق، إذ يفضل كثيرون أن يبدؤوا حياتهم الإبداعية من موقع الأستاذ لا التلميذ، ولا يرغبون في الاستماع أو التعلم من تجارب الآخرين، وذلك ما أدى إلى تكرار الوجوه ذاتها في معظم الفعاليات الثقافية.
وأشار إلى أن تراجع دور الإعلام التقليدي، من صحافة ورقية وإذاعة وتلفزيون، في دعم الثقافة والمبدعين، يعود إلى مخاوف السلطة من تأثير الكلمة المستقلة، خصوصا حين تصدر عن أدباء ومثقفين، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تهميش الثقافة ودورها في مصر.
وكشف بسيوني أن وزير الثقافة الحالي، الدكتور أحمد هانو، قد التقى عددا من المثقفين فور توليه منصبه، وأعلن خلال اللقاء أن الوزارة “بدلت جلدها”، باعتمادها على الحوكمة والتنمية المستدامة، من خلال إشراك رجال الأعمال والمجتمع المدني في إدارة المشهد الثقافي، وإنشاء دور عرض سينمائية مدفوعة داخل قصور الثقافة، فضلا عن التوجه نحو بيع الأصول الثقافية أو تأجيرها لاستغلالها ماليا وتمويل الأنشطة.
وانتقد بسيوني عدم استغلال الوزارة لمقراتها وأملاكها في نشر الوعي الثقافي الحقيقي، مؤكدا أنه كان يمكن ترشيد الإنفاق بدلا من اللجوء إلى التأجير كحل وحيد.
وفي ختام حديثه، أشار إلى أن التكنولوجيا والشاشات الذكية والعالم الافتراضي أصبحت بديلا لكثير من المؤسسات الثقافية التقليدية، وكان الأجدر بقصور الثقافة أن تحتضن هذه الوسائط الحديثة، وتوظفها في الوصول إلى الشباب بدلا من الاكتفاء بالوسائل التقليدية.
وفي المقابل، رفض عدد من مسؤولي قصور الثقافة الإدلاء بتصريحات رسمية، لكن مصدرا بهيئة قصور الثقافة، طلب عدم نشر اسمه، أشار إلى أن هناك توجها لتطوير الفعاليات: “نجهز لإطلاق برامج رقمية وتدريب الموظفين على أدوات تكنولوجية حديثة، لكننا نواجه صعوبات في البنية التحتية ومخصصات الميزانية”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس